ببدلته الأنيقة، وملامحه المستبشرة، بدا على كرتي وزير الخارجية في زيارته للولايات المتحدة قبل أيام، كما لو كان وزير خارجية إحدى دول الجوار العربي التي تتمتع علاقاتها مع واشنطن بدفء ملحوظ، وليس وزير خارجية نظام الإنقاذ في طبعته الثالثة بعد العديد من عمليات التنقيح، فكرتي، فتحت أمامه كثير من الأبواب في البيت الأبيض والخارجية الأمريكية، التي اعتبرت لوقت طويل معقل الزعماء الأمريكيين المناهضين للخرطوم، خاصة نساء الخارجية الشهيرات بعدائهن للإنقاذ، لتأتي دعوة الخارجية السودانية بالأمس رسمياً لهيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية لزيارة السودان، لترسم صورة شبيهة بتبادل الأنخاب بين صديقين على طاولة شراب أو عشاء، مع تذكر أن تبادل الأنخاب الدبلوماسي بين الخارجية السودانية والأمريكية البادي للعيان هذه الأيام، لا يتم على طاولة عشاء أو شراب، بل على شرف انفصال الجنوب. الجنوب، بقي طيلة عشرين سنة حجر عثرة بين الإنقاذ وكسب مودة البيت الأبيض، وعلى العكس، أكسب الجنوب الخرطوم الكثير من الأعداء ليس في الإدارة الأمريكية وحدها، بل في دوائر رسمية وشعبية عديدة في أكثر من دولة غربية، فبالنسبة للجماعات المسيحية كانت الحرب ضد الإنقاذ شبيهة بحرب صليبية (صغيرة) جديدة، خاصة وأن الأخيرة وعرابها حسن الترابي خاضت الحرب تحت شعارات دينية إسلامية، بينما اعتبرت الجماعات السوداء أن حرب الإنقاذ ضد المتمردين الجنوبيين حرب عنصرية يقودها العرب الشماليون ضد الأفارقة، ما يعني بالنسبة لكثيرين، أن قبول الخرطوم لانفصال الجنوب ودعمها له، سيخرجها من قائمة ألد أعداء الجماعات المسيحية والجماعات السوداء في أمريكا، وبالتالي يمكن الخرطوم من الحصول على علاقة ودودة مع البيت الأبيض. مودة البيت الأبيض، لم تبرز إلى الواجهة هذه الأيام فقط، ففي أواخر التسعينيات، توقع البعض حدوث انقلاب في العلاقات السودانية الأمريكية، ورددوا حديثاً شبيهاً بما يتردد الآن، مفاده أن واشنطن والغرب على وجه العموم، سيغير نظرته للإنقاذ إذا تم إبعاد حسن الترابي المتهم في الدوائر الغربية بجعل السودان أرضاً آمنة للمتشددين الإسلاميين، خاصة وأن الغرب، كما قيل حينها، ليست لديه مشكلات مع القادة العسكريين، كالبشير. ما حدث بعدها بالفعل، يختلف المراقبون في توصيفه، فبينما ترى مجموعة أن المفاصلة وانشقاق الإسلاميين أنقذ السودان من مصير العراق وأفغانستان عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وقاد لتوقيع اتفاقية السلام وإن أفضت للانفصال في نهاية المطاف، يقول آخرون إن تلك الإرهاصات بانقلاب في الموقف الأمريكي من الإنقاذ قبيل المفاصلة وأثنائها لم تتحقق، وعلى العكس، استمر تنفيذ الأجندة الأمريكية المعادية للإنقاذ والمصالح القومية للسودانيين، عبر تصميم اتفاقية نيفاشا كي تقود للانفصال، والاحجام عن تمويل عملية بناء الجنوب طوال عمر الفترة الإنتقالية، والمساهمة في تعقيد أزمة دارفور، ويصل البعض باتهاماتهم لواشنطن حد تحميلها مسئولية إزاحة جون قرنق من المعادلات المحلية والإقليمية والدولية بشأن السودان، ووحدته، ومستقبله. على خلفية هذا التباين في قراءة الموقف الأمريكي الحقيقي من الإنقاذ والسودان على وجه عام، يبرز السؤال التالي: هل سيقود إيفاء الخرطوم بالتزاماتها تجاه الجنوب واتفاقية السلام، وقبولها بالانفصال، لرفعها من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ورفع العقوبات عنها كما رددت الأوساط الأمريكية مؤخراً، أم الانفصال، مثله مثل المفاصلة، ليس سوى محطة في إستراتيجية تفكيك الإنقاذ، والسودان، وإعادة تشكيل خارطته؟ دعوة الخارجية لهيلاري كيلنتون في حد ذاتها لا يعول عليها البعض كثيراً، فالزيارة لم يحدد لها تاريخ بعينه بعد، فضلاً عن أن زيارة نائبها ربما تغنيها عن المجيء بنفسها كما يقول هؤلاء، لكن هذا لا ينفي إمكانية تأثير إيفاء الخرطوم بالتزاماتها نحو الجنوب على علاقتها مع واشنطن بحسب السفير الرشيد أبوشامة الخبير الدبلوماسي، خاصة وأن واشنطن منزعجة من تكرار السودانيين القول بأنها مخادعة وكاذبة، لم تنفذ الوعود التي قطعتها على نفسها قبل توقيع اتفاقيتي نيفاشا وأبوجا، ويتابع أن المؤثر الأهم على العلاقات السودانية الأمريكية في المرحلة المقبلة هو قضية الإرهاب التي تحظى بأولوية خاصة في الأجندة الأمريكية، فقضايا مثل مقتل غرانفيل، وهروب قتلته، ووجود بعض التيارات السلفية في الخرطوم، ستؤثر على الموقف الأمريكي الفعلي، خاصة وأن العقدة الأمريكية إزاء التيارات السلفية والكيانات التي توصف بالإرهابية باتت شديدة البروز مؤخراً. من يستبعدون حدوث تطور فعلي في العلاقات بين السودان والولايات المتحدة، لا يضعون في حسبانهم العقدة الأمريكية من السلفيين وحدها، بل يدفعون بقضايا أخرى، كأوضاع دارفور، خاصة وأن جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وغيره، ألمحوا صراحة لأن تركيزهم في المرحلة المقبلة سينصب على دارفور، فضلاً عن جبهة جديدة ربما يتم فتحها، هي شرق السودان التي يعتزم سكوت غرايشون المبعوث الأمريكي للسودان زيارتها وفق بيان سابق للخارجية الأمريكية، ما يستدعي إلى الأذهان الأهمية الخاصة لمنطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، على ضوء التواجد العسكري البحري لواشنطن، وتنسيقها مع فرنسا التي تمتلك قاعدة عسكرية في جيبوتي، مع تصاعد المخاوف بشأن القرصنة والإرهاب في القرن الأفريقي. مودة أمريكا يبحث عنها كثيرون في مختلف أنحاء العالم، فعداء أمريكا يجر على صاحبه العديد من المشكلات الاقتصادية والسياسية، والعسكرية أحياناً، وفي حال الخرطوم، فإنها تبدو كذلك غير ممانعة في علاقة تقوم على الود والمصالح المشتركة بين السودان والولايات المتحدة، لكن السؤال سيبقي قائماً على ما يبدو حتى تجيب عنه الوقائع: هل يمكن للمودة السياسية أن تجد طريقها يوماً للعلاقة بين البيت الأبيض، والإنقاذ...؟. نقلا عن صحيفة الراي العام السودانية 1/2/2011م