بقلم: زين العابدين الركابي مفكر سوداني ينبثق في الأفق (انفراج) مبشر في الوضع اللبناني، بعد عتمة مطبقة، وكرب شديد. والمأمول ان يكون انفراجا دائما وشاملا، لا مؤقتا ولا جزئيا. فقد عانى هذا البلد من الازمات ما هدّ عافيته، وعوق مسيرته، وعطل مصالحه. واول عبرة فيما جرى هي: ازجاء التحية المضاعفة للبنانيين اجمعين.. اول عبرة هي: اعادة تقويم لبنان ابتغاء معرفة قدر هذا البلد، والعلم بقيمة شعبه. فطالما اتهم لبنان بأنه (مجرد فندق سياحي)، وانه (بلد مائع فاسد) وانه لا يعدو ان يكون (محض مكان) للتناقض والتصارع الطائفي. لقد تبين من خلال الازمة : ان هذه كلها تصورات قاصرة، ومفاهيم جاهلة، واحكام تعميمية جائرة ببرهان: ان الشعب اللبناني قد اثبت على ارض الواقع : انه شعب يتمتع بالجد والصلابة والتماسك والشورى الحرة والشعور القوي بالسيادة والوطنية.. ويتمتع بحسن التصرف الاجتماعي والمدني، وبالنضج السياسي في احلك الظروف، واصعب التجارب وأشدها ضغطا على الاعصاب والمعايش والاهل والولد. 2 العبرة الثانية هي: ان اسرائيل ضبطت متلبسة بما يؤكد انها هي التي (تقوض السلام).. فلو كانت حقا تريد السلام (متحررة من (غلو) قادتها وسادتها الذين جر امثالهم الكوارث على بني اسرائيل على مدى التاريخ كله).. لو كانت اسرائيل تريد السلام بجد وصدق، لما تعمدت الابقاء على (عوامل) تدمير السلام وهي: الاحتلال لأرضين في اكثر من بلد عربي، وفي مقدمة ذلك: الارض الفلسطينية التي احتلتها عام 1967.. ولسنا ندري ماذا تريد بعد ان وافقت الفصائل الفلسطينية كافة على ما عرف ب(وثيقة الاسرى)، وهي وثيقة تتضمن الاقرار بقيام دولتين فلسطينية وعبرية على ارض فلسطين؟!.. ولو كانت تريد السلام بجد وصدق لما اصرت على إبقاء اسرى فلسطينيين ولبنانيين لديها، ولا سيما مع رغبة الاطراف جميعا في تبادل الاسرى.. ثم لا نعلم ان هناك دولة عربية واحدة ترفض السلام اذا ردّت اسرائيل الحقوق الى اصحابها من خلال اتفاقات سلام منصف.. ان الحريص على السلام ينتهز كل فرصة، ويجتهد باخلاص في ايجاد الذرائع والمناخات المُعِينة على تحقيق السلام.. اما غير الحريص على السلام فهو الذي يضيع فرص السلام، ويبقي على عوامل تقويضه، بل يصنع العوائق، وينشئ المناخات التي تبعد السلام عن المنطقة. وكذلك تفعل اسرائيل. ونقترح ان تتحول هذه (العبرة) الى (قضية) يحملها العرب بهمة ومسؤولية الى المحافل الدولية والرأي العام العالمي.. قضية: ان اسرائيل هي (عدو) السلام: الساعي ابدا الى تقويض دعائمه بطريقة منهجية مستمرة استغرقت ستة عقود من الزمن. 3 العبرة الثالثة: ان (العمى الاستراتيجي) لدى الاسرائيليين أي العمى الرافض للسلام هو الذي اصبح اقوى تدبير، وانجح وسيلة لامتداد المقاومة وتأجيج جذوتها، واتساع نطاقها.. ولقد قلنا لهم وللعميان الذين يدعمونهم باطلاق قلنا لهم مثنى وثلاث ورباع وخماسى وسداسى الخ: ان استمراء الظلم واستمراره هنا وهناك ولا سيما في فلسطين ، وان (الفجور) الكريه الذي يمارسه اهل البلادة السياسية والتاريخية من قادة اسرائيل. ذلك كله سيؤدي بلا ريب الى (تعريب) المقاومة. بمعنى ان تشمل الوطن العربي كله والى (اسلمة) المقاومة، بمعنى ان تمتد الى العالم الاسلامي كله.. وهذا ما حدث بسبب بربرية اسرائيل في فلسطين ولبنان. هل تعلم اسرائيل ومن وراءها والمداهنون لها: ان شرائح من الشباب في الاحزاب والحركات الاسلامية التي لا تحمل السلاح في الوطن العربي والعالم الاسلامي، تضغط الآن من اجل حمل السلاح لمواجهة اسرائيل؟ 4 العبرة الرابعة هي (حساب الاحتمالات)، بمعنى ان قوام العمل العسكري والحراك السياسي وميزانهما هو: حساب الاحتمالات، وتقدير التوقعات والعواقب والمآلات.. ونقول: حساب الاحتمالات، لانه ليس هناك في هذا المجال : وحي يوحى، وليس هناك ما هو مقطوع به 100% بل هناك (احتمالات) فحسب: يتوجب ان تكون في الحسبان دوما.. وقد يترجح قرار ما وفق رجحان احتمالات معينة، بيد انه يتعين حتى في حالة الترجيح ترك (هامش) لاحتمالات اخرى غير محسوبة، بناء على تقدير (الآثار الجانبية الضارة): اذا استخدمنا لغة صناعة الدواء مثلا. ولقد قيل كلام كثير حول اقدام حزب الله في لبنان على اسر جنديين اسرائيليين.. وقد تراوح الكلام بين مؤيد للخطوة كأسلوب عملي في تحرير أسرى لبنانيين بالتبادل مع هذين الأسيرين الاسرائيليين وبين معارض للخطوة: بحساب العواقب والمآلات.. ويهمنا ها هنا : ما صدر من بعد على لسان السيد حسن نصر الله الامين العام لحزب الله. فقد قال: «لو كنا نعلم بنسبة 1% ان اسرائيل سترد بهذا العنف والتدمير فتقتل المدنيين وتهدم البنية التحتية للبلد، لما أقدمنا على تلك الخطوة قطعا».. وذهب الناس مذاهب شتى في تفسير هذا الكلام. فمنهم من صنفه في خانة الشفافية والشجاعة، ومنهم من صنفه في خانة (الاعتراف بالخطأ)، وربما ينتظم التفسير الموضوعي الاحتمالين معا، بمعنى: ان الشفافية تتطلب فيما تتطلب: نقد الذات، والبوح بما يجب البوح به من خطأ في التقدير والحساب.. وكان في وسع السيد حسن نصر الله: ألا يقول ما قال، وقد عرف عنه العناية الفائقة بالاعلام فهو من ثم يرتب افكاره، ويحسب كلماته (إما للتعود على نهج معين في التفكير.. وإما للاحتراس من استغلال كلامه سياسيا من قبل الخصوم، وهم كثر) ولذا ينبغي ان يفهم كلامه في اطار انه قصد واختار ان يقول ما قال.. والسؤال هو: لماذا؟.. قد يكون وراء ذلك أ إثبات (استقلالية الحزب) عن كل من سوريا وايران. فأخطر مقتل كان يضرب فيه الحزب هو انه (مجرد أداة تنفيذية) لأجندة ايرانية سورية في لبنان والمنطقة.. وهذا الاتهام (اغتيال) للمستقبل السياسي للحزب، ينسف كل مكاسبه: السابقة واللاحقة.. فالاعتراف بسوء التقدير اذ يثبت استقلالية الحزب من حيث ان حساباته لبنانية بحتة، فإن هذا الاعتراف على مرارته أهون واخف وطأة من اتهامه بأنه مجرد اداة. ب توليد انطباع وطني بأن لبنان (أكبر) من الحزب، وبأن ما حدث للبنان هو مصدر اسى عميق إنساني وأخلاقي لدى قيادة الحزب. ج التحلي بالعقلانية البعدية، اي بعد الخطوة والحرب. د تمهيد لتبدلات استراتيجية وسياسية هائلة مستقبلة للحزب.. قد تكون هذه التفسيرات وراء القول «بأننا لو كنا نعلم بأن هناك احتمالا واحدا في المئة بأن العدو سيفعل ما فعل لما اقدمنا على تلك الخطوة»، بيد ان العبرة الكبرى العميقة الواجبة في الحاضر والمستقبل هي: ان حساب العواقب والمآلات (ضرورة) عقلانية وسياسية ومصلحية لا يمكن تجاوزها في كل الاحوال، بمعنى انه لا يجوز لأحد؛ ألا يقدر ان هناك 1% او اقل من ذلك من المخاطر، ذلك انه من المحتمل جدا ان تكون المخاطر في الواحد في المئة الذي لم يحسب حسابه. والعبرة المستخلصة: أنه يتعين على الاتباع والمتعاطفين: ان يجهروا بمثل هذا النصح وهم في ذروة الاعجاب والتعاطف، ذلك ان الاحجام عن المناصحة للمستقبل : نوع من الغش. وقد تبين من دروس التاريخ والواقع: ان الغش خطيئة مركبة: أخلاقية وسياسية. 5 العبرة الخامسة: ان ما جرى في لبنان، ابعد الوعي عما يجري للفلسطينيين، ولذلك يتوجب سراعا تركيز الوعي والانتباه والاهتمام من جديد على ما تفعله اسرائيل بالفلسطينيين، وعلى احياء القضية في الضمير والارادة والحركة والفعل. 6 العبرة السادسة: الكف العقلاني والتقّي عن (التهييج السياسي للفتن الطائفية)، فلم تكد احداث لبنان تتفجر حتى زج بالطائفية في السياقات السياسية والاعلامية.. وهذه غباوة من الاطراف كافة.. لماذا؟.. لأنه قد اتضح من سلوك قوى دولية معروفة ومن فعلها وقولها: انها قررت (استعمال الدين) في قهر الامة العربية الاسلامية وفي حربها.. ومن صور هذا الاستعمال الخبيث للدين: إحداث صراع واسع وعميق بين المسلمين على اساس التهييج المذهبي بين التيارين الكبيرين في هذه الامة: التيار السني، والتيار الشيعي. وقد استفادت تلك القوى من دراسات علمية «!!!» في هذا المجال كتلك الدراسة التي كتبها المستشرق المجري جولد تسيهر، كما استفادت من دراسات استراتيجية قدمتها مراكز بحوث تلح على الشقاق بين السنة والشيعة. وحين قال كبيرهم منذ ايام: «ان شيعة بدعم من ايران كانوا وراء تفجير الخبر في السعودية»، أكان بذلك يخدم السعودية وينتصر لها؟.. لا.. لا. بل كان وهو ومن معه يريدون ضرب العلاقة بين السعودية وايران؟.. أولم تظهر البغضاء من افواه بعض هؤلاء حين وقّعت اتفاقية تسوية الحدود بين السعودية واليمن؟!!.. ثم من صور هذا الاستعمال الخبيث للدين: شن (حرب صليبية) على الامة الاسلامية وهي غارقة الى اذنيها في مستنقع التصارع المذهبي والطائفي، وكيف تستطيع امة مواجهة حرب دينية خارجية وهي غارقة في حرب دينية بينية؟. ان نقد التجاوزات والاستغلالات يجب ان يكون، ويجب في الوقت نفسه: ان ينحصر في (دائرة النقد السياسي) دون التورط في خدمة (مخطط تفجير الفتنة الكبرى بين السنة والشيعة). والا فإن المتورطين جميعا يخدمون المخطط الشرير، وان صلوا وصاموا وحجوا وزعموا انهم سنة وشيعة. مصدر الموضوع : (الشرق الأوسط)