خيبة حمدوك في باريس    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    ضياء الدين بلال: الرصاصة الأولى ونظريّة (الطرف الثالث)..!    وزير الخارجية يكتب: الإتحاد الأوروبي والحرب في السودان ..تبني السرديات البديلة تشجيع للإرهاب والفوضى    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    ماذا جرى في مؤتمر باريس بشأن السودان؟    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    استمرار حبس البلوجر هدير عاطف بتهمة النصب على المواطنين    ياسر العطا: أمن و استقرار انسان الجزيرة خط احمر    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    حفظ ماء وجه غير مكتمل    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    خبراء: الهجوم الإيراني نتاج ل«تفاهمات أمريكية».. وجاء مغايرًا لاستراتيجية «طهران»    أحمد موسى: ده مفيش ذبابة ماتت من الصواريخ والمسيرات اللي إيران وجهتها لإسرائيل    إسرائيل تعيد فتح المدارس!    ضمن معايدة عيد الفطر المبارك مدير شرطة ولاية كسلا يلتقي الوالي    محمد وداعة يكتب: الاخ حسبو ..!    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    شاهد بالصورة.. إبن عضو مجلس السيادة رجاء نيكولا يحمل السلاح مدافعاً عن وطنه وجمهور مواقع التواصل يشيد ويعلق: (أبناء الإسلام والمسيحية في خندق واحد لحماية السودان من الجنجويد)    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    أرسنال يرفض هدية ليفربول ويخسر أمام أستون فيلا    بعد راحة العيد...المنتخب الوطني يُعاود تحضيراته أمس    تركيا تنقذ ركاب «تلفريك» علقوا 23 ساعة    تجاوز مع أحد السياح.. إنهاء خدمة أمين شرطة لارتكابه تجاوزات في عمله    الموعد الأضحى إن كان في العمر بقية،،    إعلام عبري: طائرات أميركية وبريطانية تسقط مسيرات إيرانية فوق الحدود العراقية السورية    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    والي الخرطوم يزور رموز ونجوم المجتمع والتواصل شمل شيخ الامين وقدامى المحاربين والكابتن عادل أمين والمطرب عوض الكريم عبدالله    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    «العازفون الأربعة» في «سيمفونية ليفركوزن»    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    "طفرة مواليد".. نساء يبلغن عن "حمل غير متوقع" بعد تناول دواء شهير لإنقاص الوزن    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    الضربة المزدوجة الإنهيار الإقتصادى والمجاعة في السودان!    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التجارب السياسية الإيمانية الأولى كما يصورها الدكتور التيجانى عبد القادر

(هذا المقال هو الفصل الخامس عشر من كتاب أكاديمي جديد بعنوان "مدخل إلى الفكر السياسي: رؤية إسلامية" أعده لطلاب العلوم السياسية الدكتور محمد وقيع الله أحمد، ويستعرض هذا الفصل معالم النظرية الباهرة التي قام بصياغتها الدكتور التيجانى عبد القادر حامد عن دور العامل السياسي في مجتمعات الرسالات السماوية عبر التاريخ).
مقدمة:
الدكتور التيجاني عبد القادر حامد (1951م - ) أحد كبار المجتهدين المعاصرين في مجال الفكر السياسي الإسلامي، وقد أسهمت خلفيته الراسخة في درس الفلسفة، والمنطق، والاقتصاد، والعلوم السياسية، والقرآن، وأصول الفقه، واللغة العربية، في تعميق تأملاته وشحذ قدراته الفكرية في الفحص والمقارنة والنقد والتنظير. وقد أنشأ عدة دراسات تصورية متقدمة في النظرية السياسية، والعلاقات الدولية، والسياسات المقارنة، وهي دراسات جعلت من النص القرآني أصلاً للمعرفة، بحيث ينصب عليه التحليل الدقيق، سواء لمفرداته التي يتركب منها، أو للسياق الذي يرد في ثناياه، ومن خلال الاستكشاف المتأني يمكن استخلاص المعلومات والمفاهيم التي تفيد في تحليل وفهم ونقد مختلف الظواهر السياسية.
وبهذا المنهج اختلف الدكتور التيجاني عبد القادر مع باحثين كثيرين جعلوا من النص القرآني أداة لتعضيد نتائج الدراسات التي فرغوا منها، بدون أن يستشيروا القرآن مقدماً، أو أن ينطلقوا من أساس مفاهيمه. إن كل ما فعلوه هو أن انتخبوا بعض الآيات القرآنية التي تتوافق مع ما وصلوا إليه من استنتاجات، أو أن اهملوا أمر القرآن بالكلية إن لم يجدوا فيه نصوصاً تدعم تلك الاستنتاجات.
وباستخدام منهجيته البحثية القرآنية انتبه الدكتور التيجاني عبد القادر إلى خطأ انزلق إلى مهاويه كثير من المفكرين الإسلاميين، انسياقاً مع مفاهيم وافدة من تلقاء حوزات المستشرقين الكبار، من أمثال إغناز غولدزيهر، ومونتجمري واط، وفرانسيس بهل، وتور أندراي وغيرهم ممن روجوا لفكرة أن رسول الإسلام لم يهتم لأول عهده بقضايا السياسة، وإنما انصرف إلى تذكير الناس بشؤون العقيدة والبعث والثواب والعقاب في دار المآب، وأنه لم يُعر قضايا السياسة اهتماماً يذكر إلا بعد أن هاجر إلى المدينة المنورة حيث وجد نفسه تلقائياً رئيساً للدولة.
تحليل الظاهرة الاجتماعية:
إن مشكلة الباحثين من أساطين الاستشراق ومن تابعهم أنهم: "بعد أن لاحظوا أن السور المكية يجيء الحديث فيها مستفيضاً عن اليوم الآخر، وعن المساءلة فيه، ومشاهد القيامة التي يتجسد فيها الثواب والعقاب، فاتهم أن يلاحظوا أن ذات عقيدة البعث المبثوثة في القرآن المكي هي الأصل الاعتقادي الذي ترتكز عليه أصول الفكر السياسي في الإسلام، كما ترتكز عليه قيمه كلها"[1]. ولذلك فقد ذهب هؤلاء للبحث عن آيات أخرى تتحدث مباشرة عن تلك المفاهيم السياسية، ولما لم يجدوها إلا في القرآن المدني زعموا أن القرآن المكي كرس في مجمله: " للإنذار بالكارثة والتهديد المستمر بدمار العالم"[2]. لذا فإنه لا يصلح لكي يكون: " نواة متفائلة ومنفتحة على الحياة الاجتماعية بغرض تنظيمها وتوظيفها"[3]، فالحياة الاجتماعية بل الحياة الدنيا بأجمعها لا قيمة لها في القرآن في نظر هؤلاء الدارسين المتعجلين.
استخدم أولئك الدارسون المستشرقون منظورهم الفكري الغربي في تحليل الدين كظاهرة اجتماعية، مثله مثل الظواهر الاجتماعية الأخرى، التي تخضع للدراسة المنهجية القائمة على أساس افتراضات تصورية يحملها الدارس في ذهنه عن طبيعة الظواهر الاجتماعية التي تنشأ كنواة صغيرة ثم تتطور وفقاً لتوالي المؤثرات عليها من كل جانب. و بتأمل هؤلاء الدارسين للظاهرة الإسلامية رأوا أنها بدأت بالقرآن المكي الذي لم يكن: " إلا محاولة تنمية لاستعدادات دينية لجماعة صغيرة " [4]، وأنه لم يكن ليشير إلى دين ذل طبيعة جديدة، إلا بعد الهجرة حيث تغير مسار القرآن لكي يشكل ديناً له نظامه الاجتماعي والفقهي والسياسي. لقد حدث ذلك التغيير- في نظر هؤلاء - بناءً على مؤثرات اجتماعية تمثلت في رفض أهل مكة والطائف ومن جاورهم من الأقوام للإيمان بمحمد، فاضطر للابتعاد عنهم إلى قوم أسرعوا بالالتفاف من حوله، والإيمان برسالته بأكثر مما كان يتوقع، فأخذ تلقاء تلك المفاجأة في تشكيل نظام سياسي دستوري اجتماعي يضبط به علاقات الناس الذين تبعوه وآزروه.
إن أكثر المفكرين الإسلاميين لم يأخذوا بالنظرية التي تولى بلورتها كالمستشرق المجري غولدزيهر والبريطاني مونتجمري واط على علاتها، ومن أخذ النظرية بحذافيرها كعلي عبد الرازق [5] فإنه لم يصب أدنى نجاح أو تأثير على صعيد الفكر السياسي الإسلامي. لكن تأثر كثير من المفكرين الإسلاميين بما رشح من ثنايا تلك النظرية من افتراضات تقول بأن القرآن المكي لم يحتو على أكثر من عرض عام للمبادئ السياسية الإسلامية بانتظار أن يتمخض الزمان عن فرصة أفضل لتفصيل تلك المبادئ وتطبيقها، وهو ما تهيأ للمسلمين عقب الهجرة إلى المدينة المنورة، " ولهذا فقد نالت ظاهرة الهجرة عندهم اهتماماً كبيراً باعتبار أنها جزء أساسي في منهج الدين ذاته، وفي جوهر الرسالة، فاكتمال الإطار الهيكلي التصوري في مكة ينتظر الاكتساء بالفعل السياسي الواقعي في المدينة، ليكتمل بناء الإسلام صورة ومادة وروحاً ودولة " [6]. أي إنه لولا الهجرة لما اكتمل الدين، في نظر هؤلاء، ولا قام له أي بناء تصوري أو عملي على صعيد السياسة. وبالتالي فإن الاهتمام الفائق بالهجرة من الناحية السياسية أمر لا يسوغه مبرر ذو شأن.
إن الدكتور التيجاني عبد القادر لا يقف على أرض مشتركة مع أولئك المستشرقين، بل إنه ليختلف معهم جذرياً، كما أنه يختلف كثيراً مع من تأثروا بهم من المفكرين الإسلاميين الذين أشاعوا فكرة أن مبادئ القرآن السياسية التي نزلت بمكة المكرمة ظلت حبيسة الإطار النظري بانتظار التطبيق الآجل. وعلى النقيض من ذلك يرى الدكتور التيجاني: "أن تلك المبادئ كانت بناءً يتشابك في نسجه المبدأ المُوحي به مع الظرف الواقع، ولا انفصال فيه بين المبدأ والفعل إلا حيث تنعدم القدرة والحيلة، وهذا الانفصال حين يقع يعتبر في منطق الدين حرجاً وفتنة ينبغي تكثيف الجهد للخروج منها. ولا يمكن أن يقال بالطبع إن كل المبادئ السياسية التي نزل بها الوحي في مكة تعذر تطبيقها، فطويت في انتظار الهجرة إلى يثرب. أولاً: لأن هذه المبادئ لم تنزل جملة واحدة، ولم يشترط عند تطبيقها أن تطبق كاملة أو تترك كاملة. وثانياً: لأن منهج التدين منهج سعي لا منهج انتظار. فكل خطوة في المرحلة المكية كانت حركة نحو استكمال القدرة واكتشاف الحيلة، التي يتم بها التمكين السياسي الذي يدعو إليه القرآن الكريم. وثالثاً: لأن القراءة المتأنية لسيرة، الرسول، صلى الله عليه وسلم، تشير إلى أنه كاد بالفعل أن يستوفي تطبيق معظم المبادئ السياسية في مكة ذاتها قبل هجرته إلى المدينة، بل تشير إلى أن هجرته لم تكن هدفاً استراتيجياً، ولا أمراً يندرج في جوهر الدين وأصله، وإنما كانت إجراء في طريق السعي لاستكمال التمكين الديني والنصرة السياسية " [7]. وهو الهدف الذي كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتحرى تحقيقه منذ أن كان في مكة.
عالم المُثل الإسلامية:
لقد تأسس اختلاف الدكتور التيجاني عبد القادر مع أساتذة الاستشراق، ومن تابعهم، على أساس من طبيعة النظر إلى الظاهرة الاجتماعية. فبينما ذكر أولئك – تصريحاً أو تضميناً – أن الظاهرة الاجتماعية يمكن تفسيرها على أساس من الظواهر الاجتماعية الأخرى اللصيقة بها والمؤثرة فيها. يرى الدكتور التيجاني أن الظاهرة الاجتماعية تحتاج إلى قاعدة وجودية كلية (أونتولوجية) لتفسيرها. لأن تلك القواعد تسهم إسهاماً كبيراً في توجيه العلاقات الاجتماعية، وتشكيلها على أنماط معينة.
وبعد أن راجع الدكتور التيجاني عدداً من القواعد الوجودية الكلية كنظرية (المثل) الأفلاطونية، ونظرية (الجوهر) الأرسطية، ونظرية (القانون الطبيعي) لعدد من الفلاسفة الأوربيين، عاد لمراجعة القواعد الوجودية الكلية الإسلامية ممثلة في قواعد (التوحيد الإسلامي) الذي يضع المعايير الكبرى لجميع العلاقات السياسية بين الحكام والمحكومين في المجتمع الإسلامي، فأكد أن القواعد التوحيدية الإسلامية على خلاف نظرية المثل الأفلاطونية ترى أن المادة التي يتشكل منها العالم الذي نعيشه ونشاهده هي مادة حقيقة منفصلة عن المثل. ولكن تختلف قواعد التوحيد الإسلامي في الوقت نفسه اختلافاً كبيراً مع النظرية المادية التي تقرر أن المادة هي الأصل الوحيد للحياة والوجود.
إن قواعد التوحيد الإسلامي - كما يقول الدكتور التيجاني - : "تتخطى المادة والفكر معاً، إلى سبب آخر أبدي ولا نهائي وتجعله مبدأًً أساسياً لما ندركه من العالم بكل مجاليه المادي والفكري. هذا السبب الأزلي ضروري الوجود، وهو الله سبحانه. ومعرفته بأسمائه وصفاته وأفعاله معرفة تتأتى عن طريق نبي مرسل وكتاب منزل. وإذا تم للناس اعتقاد في هذا الإله الواحد المتعالي، وسلَّموا له بالسيادة العليا في الخاص والعام من الشؤون، فسيكون هذا الاعتقاد التوحيدي هو المصدر الذي يمد أصحابه بمفهوم كلي للعالم والحياة وما ينبغي أن تكون للإنسان من علاقات وما يترتب عليها أو ينشأ منها من حقوق. أي أن الاعتقاد التوحيدي الإسلامي هو اعتقاد في نسق من القيم المعيارية التي تكون بمثابة " الميزان " تدرك به الغايات الاجتماعية الكبرى وتقوم به المؤسسات، ويعتمد عليه في ادعاء المشروعية، وتبرير السلطان، والجزاء، وتستوجب به الطاعة. وستكون مهمة الحكم والسيادة العليا – في نظرية الاعتقاد التوحيدي هذه – لله وحده. واشتراع القوانين ليس فناً يختص به فرد فيلسوف من الناس أو فئة منهم دون غيرها كما ذهب إلى ذلك أفلاطون في جمهوريته " [8]، التي أقامها على أساس الملك الفيلسوف.
ويعترض الدكتور التيجاني عبد القادر على فكرة الملك الفيلسوف حيث لا يرى أن هنالك فرصة لانبثاق فيلسوف واحد مكتمل القدرات الذهنية، يستوعب كافة الاختصاصات في كل فروع الاجتماع البشري بما يمكنه من استحداث القيم والتشريعات: " إنما يوجد الإنسان الرسول الذي يتوسط بين الحق والخلق في حمل الرسالة وتبيانها، وليست له سلطة تشريع ولا أحقية طاعة إلا من حيث كونه رسولاً ممن يجب له التسليم والخضوع. والشريعة التي يأتي بها الرسول ليست كالقانون الطبيعي الذي يلتمس بالحدس أو بالاستقراء والتجريب، وإنما هي أمر مباشر يُلقى على العقل والإرادة الإنسانية إلقاءً فيذعنا له أو يتمردا عليه. فالشرع الديني ليس أمراً مستتراً في طبائع الأشياء أو مستبطناً في طبيعة الروابط الاجتماعية. وإنما هو قانون ذو مادة موضوعية ولغة فصيحة بينة معلومة الدلالة وميسورة الفهم، وهو فوق هذا وذاك لا يصدر عن جهة مجهولة الصفات أو مبهمة الوجود - كعالم المثل التي تحدث عنها أفلاطون - وإنما يصدر عن جهة معلومة الاسم والصفة وذات حضور لا ينقطع ومسلم لها بالسيادة ومدان لها بالطاعة والولاء"[9]، و هي جهة المقام الإلهي.
بهذا التحديد القاطع ينتفي عن الإسلام ما وُجه من نقد للمثالية الإفلاطونية من حيث غموضها وإبهامها وعدم تحديدها لمصدر السلطات. أما النقد الذي يمكن أن يوجهه أتباع مدرسة التوحيد الإسلامي لنظرية القانون الطبيعي فإنه لا يعني أنه لا توجد ثمة أوجه اتفاق بينهما: "إذ أن مذهب التوحيد الإسلامي لا يَحظرُ على أحد أن يدعي أن هنالك قانوناً كامناً في طبيعة الروابط الاجتماعية يمكن للعقل البشري اكتشافه والاهتداء به، إذ أن دين التوحيد هو نفسه دين العقل، ولكنه مع ذلك يرفض أن يخلع على العقل الإنساني صلاحيات الإله، كأن يوكل إليه مثلاً مهمة التشريع، وإنما يجعل التشريع والسيادة أصالة لله وحده، على أن يكون التكليف الشرعي قائماً على العقل يسقط بسقوطه "، و بالعقل يستنبط الإنسان و يجتهد لتحقيق مراد الشارع فيما لا نص فيه.
الأصول السياسية المكية:
لقد كان غرض الدكتور التيجاني عبد القادر من البيان السابق أن يؤكد أن آيات القرآن المكي أرست في حقيقة الأمر الركيزة الأولى الكبرى للتصورات السياسية الإسلامية. ولإثبات ذلك انتقل من البيان المجمل إلى نوع من التفصيل الدقيق وركز على الآيات الواردة في إحدى طوال السور التي أجمع المفسرون على مكيتها وهي سورة (الأعراف)[10]. وفي أثناء تناول آيات تلك السورة، التقط بعض الآيات من سور مكية أخرى لتعضيد ما ورد في سورة(الأعراف)، وجعل تركيزه تبيان عدة أصول عرضها القرآن المكي، وأهمها:
الأصل الأول: أن الناس جميعاً مخلوقون:
"فإذا ثبت الاعتراف بسلطان أعلى واحد قادر على الخلق، فذلك اعتراف يتبعه اعتراف آخر بإسناد الأمر والتوجيه لهذا السلطان، لأن من قدِر على الخلق قدِر على الأمر، وأي محاولة للخروج على سلطانه ستكون ظلماً واستكباراً بغير حق فضلاً عن أنها جحود وكفران " [11].
الأصل الثاني: المساواة بين الخلق:
وذلك لأن أصلهم جميعاً من تراب: "ووحدة الأصل الإنساني هذه يشترك فيها حتى الرسل والأنبياء مع الناس الذين أرسلوا إليهم، فكون الرسول قد أوتي سلطاناً لا يعني ذلك إخراجه عن إطار البشرية، وإنما يعني فقط أنه قد صار بشراً رسولاً إلى بشر، واتباعه حينئذ يكون واجباً على الآخرين، لا لعنصره التكويني ولكن اتباعاً للمصدر الأعلى الذي اصطفاه"[12].
الأصل الثالث: أن حالة الطبيعة هي حالة الفطرة السليمة:
"لأن طبيعة النفس الانسانية من حيث الخلق ملائمة لطبيعة الأمر الإلهي، فلو لم تكن هنالك قابلية نفسية وإمكانية خلقية لقبول الحق والخير والانصياع له، لتعذر أمر الدين أو لصار كله إلزاماً قائماً على الإكراه. غير أن الدين لما كان يقوم على الاختيار الإرادي الطوعي فلزم أن تكون الفطرة مطواعة لما تنعقد عليه الإرادة ويهدي إليه العقل ويأتي به الرسل " [13]. وتبعاً لحالة الحرية والبراءة الأولى التي افترضها القرآن المكي في الإنسان، فلا مجال لتحميل أبناء آدم خطيئة أبيهم الأول، وهي الخطيئة التي يفترض علماء اللاهوت توارث البشر لها، ويعتقد هوبز – بالرغم من لا دينيته – أن الإنسان قد فطر عليها.
الأصل الرابع: أن الله تعالى سخر جميع ما في الأرض للبشر جميعاً:
وذلك بلا تمييز من لون أو جنس أو دين: "فطالما أن الناس يتحدون في الأصل الإنساني ويتحدون في الموقع والموقف من المصدر الأعلى للسلطة، فمن الوجاهة بمكان أن يُمكَّن لهم جميعاً في الأرض، لأنه لا قوام للإنسان ولا للدين إلا بها وفيها"[14]. ولكن ربما اتخذ ذلك التسخير والتمكين وسيلة للاستعلاء في الأرض والتعدي والظلم وقهر الآخرين: " ذلك لأن الأرض هي مصدر أساسي للثروة، ومن استحوذ عليها واحتكرها فقد صارت له السيادة على الآخرين، لما يتجمع له من أسباب القوة وموجبات الاتباع، ومن أبعد عنها فقد عرض للفاقة والتبعية والاستضعاف"[15]. وقد دارت بعض أعنف معارك التاريخ البشري حول مسألة ملكية الأرض، ودارت مباحث كثير من الفلاسفة السياسيين من لدن هيرودوت إلى جون لوك على تفصيل مغبَّات ذلك الصراع، ونتجت عن ذلك مبادئ فلسفاية سياسية متباينة. أما في القرآن المكي، فإن الله تعالى قد جعل الأرض دُولة بين الناس – جميعاً مسلمهم وكافرهم: "وقد جعلها موضع اشتراك بين عباده ليبلوَ بعضهم ببعض ولذلك حينما قامت للإسلام دولة صارت فيها الموارد الطبيعية الرئيسية ملكاً مشتركاً للأمة، تشرف عليه الحكومة باسمها"[16].
وفي اعتقاد الدكتور التيجاني عبد القادر فإن مصطلح الأمة المسلمة يشمل كل من يعيش معها حتى ولو لم يكن مسلماً: " ومعنى هذا أن حق الحياة في الأرض والانتفاع بها مكفول للناس جميعاً على اختلاف أديانهم، فإذا آل أمر الأرض للأمة المسلمة وتمكنت فيها، فليس يعني ذلك أن الناس غير المؤمنين وجب عليهم الخروج من أرض الإسلام، بل إن لهم حق الحياة في الأرض الإسلامية والانتفاع بخيرها، على ألا يؤدي ذلك لإعاقة المؤمنين عن إقامة أمر الله في الأرض، فإذا وجد غير المؤمن في أرض المسلمين فلا يكرهونه على الدخول في دينهم، ولا يكرهونه على الخروج من الأرض، إلا أن هذا حق يقابله واجب، وهو ألا يسعى غير المؤمن هذا بدوره لإكراه المؤمنين للتخلي عن دينهم أو إخراجهم من الأرض، وهذا هو في الواقع ما يعرف في الشريعة بالعهد أو الميثاق، الذي يتاح بموجبه لغير المسلمين الوجود في أرض الإسلام والانتفاع بها. ترعى مصالحهم وتحفظ حقوقهم وتصان ذممهم ولا يكرهون في معتقداتهم، على شروط معروفة بينهم وبين الدولة الإسلامية " [17]، فهذا هو عهد المواطنة العام في الإسلام.
الأصل الخامس: أن الناس جميعاً مخاطبون بأمر الرسل ومكلفون به:
وذلك لأن: "النفس البشرية الأولى وإن كانت مفطورة على الإسلام، إلا أنها لم تترك لتستلهم الفطرة وحدها، وإنما أضيفت إلى الفطرة النبوة، فكان الفرد الأول الذي قام عليه كل البناء الاجتماعي الإنساني، وهو آدم، كان إنساناً نبياً، إذ أن الله تعالى لما خلق أبا البشر كرمه وعلمه حقائق الأشياء، وكان فيما علمه أنه هو خالق السماوات والأرض وما فيهما، وأنه خالق الناس وأرزاقهم، وأنه هو مولاهم الذي يجب طاعته وعبادته وأنه سيعيدهم إليه ويحاسبهم على ما قدموا، ثم أمره أن يورث علم هذه الحقيقة لذريته ففعل، وكانت هذه العقيدة هي ميراث الإنسانية عن الإنسان الأول " [18]، وهو الميراث الذي نهضت على أساسه كل الأديان السماوية.
وبناءً على ذلك يمكن أن نستنتج أن أول مجتمع إنساني شهده التاريخ قام على أساس النبوة، وكان مجتمعاً يشهد بتوحيد الله وإفراده بالربوبية والألوهية. وبناءً على ذلك يسهل دحض الدعوى القائلة بأن الدين ظاهرة نشأت مع تطور الجنس البشري، وأنها اتخذت في بعض أطوار التاريخ كمجرد حيلة سياسية لمخادعة الشعوب كما ادعى السوفسطائيون قديماً، والماركسيون حديثاً، أو أنه مجرد مرحلة في تطور الإنسان كما ادعى أوجست كونت ومن جاروه في فلسفته الوضعية المنطقية.
الأصل السادس: أن الناس يخلفون الرسل في تثبيت دعائم التوحيد السياسي على الأرض:
وفي شأن الإسلام فقد تكفل الله تعالى لاستمرار تلك الخلافة بأمرين اثنين: أولهما حفظ الكتاب من التحريف، والثاني عصمة الأمة من الإجماع على الضلال: "فإذا كان من الممكن أن يخطئ جميع أفراد الأمة على إطلاقهم في إدراك وجه الحق، فلا يمكن لمثل هذه الأمة أن تهدي بالحق أو تعدل به. فإذا تقرر هذا، فإن عصمة الأمة عن الضلال الجمعي ستكون مرتكزاً قوياً لإلزامية الشورى وحجيتها، كإجراء ضروري للوصول للحق، فبالإضافة إلى الاعتماد على آية الشورى: (وأمرهم شورى بينهم) وآية آل عمران: (وشاورهم في الأمر)، بالإضافة إلى ذلك يمكن أن يقال إن جمهور المسلمين الذين نزل عليهم الحق أصلاً وأُمروا بإقامته ينبغي أن يستشاروا فيما اختُلف فيه من الحق، فإذا أجمعوا على رأي فإن ذلك لا يمكن أن يكون باطلاً. ولا ينبغي أن يصار إلى غيره، أو يسأل عما إذا كان ملزماً أم غير ملزم للإمام ولدولته. لأنه بماذا يتقيد الإمام إذا لم يتقيد بالحق الذي أجمعت عليه الأمة " [19]، فإذا آثر الحاكم أن يخالف رأي الشورى الجمعي فكأنه آثر أن يخالف أمراً ألزم النص الشرعي باتباعه.
التجارب السياسية للرسل:
ومن تدبر الآيات الطوال التي عرضت بها سورة الأعراف لتاريخ العقيدة والتجارب السياسية لرسل الله مع أقوامهم، انتهى الدكتور التيجاني عبد القادر إلى عدة نتائج لها أهمية كبرى:
أولها: أن أول المرسلين، وهو سيدنا نوح عليه السلام، لم يبدأ دعوته من مرحلة (الصفر الديني): وإنما طفق يذكر قومه بأصول الدين الذي ورثوه، وكذلك فعل كل من سيدنا هود وصالح ولوط وشعيب: " وكل ذلك يوحي بأن الله سبحانه لم يجعل الفترات بين الرسل من الطول بحيث تضيع أصول الدين وتمحى معالمه فيحتاج إلى تعريف جديد " [20].
وثانيها: أن الرسل احتجوا في تكرارهم لدعوة التوحيد بالتجارب التاريخية لأقوام سلفوا: " وإذا جمعنا هذه الإشارات المتكررة للتاريخ والتي يستعين بها الأنبياء في الاحتجاج لقضية الدين، أمكننا القول إن هنالك شروطاً اجتماعية للتمكين في الأرض يلاحظها الرسل وهم يقومون بإحداث التغيير، كما أن هنالك أطراداً في سنن الله التاريخية يتناغم مع الإيفاء بهذه الشروط. فالله تعالى قد جعل الأرض للناس وأصلحها بإنزال الوحي وبعث الرسل، فمن خرج على الوحي أو عطله فقد أفسد الأرض. وإفساد الأرض هو إخلال بأحد شروط التمكين فيها والتي من أخل بها جرت عليه سنة الله بإزاحته واستخلاف قوم آخرين يكونون أكثر إعماراً للأرض وإصلاحاً " [21]، ومؤدى ذلك أن عدم الانتفاع والاهتداء بالتجارب الإيمانية التاريخية، أحرى أن يقود إلى الفساد العام في الأرض.
وثالثها: أن صور الشرك والفساد في الأرض تتنوع و تتفاوت تفاوتاَ كبيراَ: فقوم نوح ضلوا بعبادتهم للأسلاف، وقوم هود طغوا طغياناً عسكرياً، وقوم لوط فسقوا في العلاقات الجنسية، وقوم شعيب فسدوا في العلاقات الاقتصادية: " ولكن هذا الفساد بأنواعه المختلفة يرجع لأصل واحد هو الفصل بين الأرض والوحي، والاعتداء على سيادة الله وسلطانه " [22]، أي الخروج على مفهوم التوحيد بمعناه الإسلامي الكبير.
ورابعها: أن ثلاثة رسل فقط لم يرد في القرآن أن قومهم هموا بإخراجهم من الأرض: وهم نوح وهود وصالح وذلك بعكس ما حدث لرسل آخرين كشعيب ولوط وموسى. وربما كان ذلك راجعاً إلى أحد هذه الأسباب:
أ‌) أن اتباع الرسل الثلاث الأوائل كانوا من القلة بحيث لم تنعقد منهم أمة ذات قدرة سياسية تؤثر في موازين الصراع بين الكفار والمؤمنين.
ب‌) أن الأرض لم تكن تشكل عنصراً من عناصر السيادة، إما لوفرتها الزائدة أو لترحال الناس المستمر في أنحائها.
ت‌) أن نمط الإنتاج كان مقتصراً على الرعي وال.
وخامسها: أن ذكر القرية ورد متأخراً في القرآن المكي: مما يفيد أن أول الناس كانوا رعاة، ثم صاروا إلى الإستقرار والزراعة: " وحينما تكون هناك قرية أو ناس قارُّون وأرض زراعية يشترك الناس في الانتفاع بها، فلا بد من موازين تعرف بها الحقوق وتقاس عليها الحدود، ولا بد حينئذ من وجود جهاز سلطاني يحتكم إليه الناس حين تتضارب مصالحهم، لينفذ فيهم الأحكام فترد المظالم وتحفظ الحقوق، إلا أن الحكومات بشكلها النظامي المعروف هذا لم توجد في تلك الحقب من التاريخ، وإنما وجد في كل قرية (ملأ) من أكابر القوم يقومون مقام الحكومة ويتألفون الناس على شيئ من الدين والعرف والمنفعة المتبادلة، فيصير ذلك (ملة) للقوم أي مذهباً واعتقاداً تدعمه وتستند عليه حكومة الملأ، فإذا بعث رسول إلى قرية بدعوة التوحيد فذلك يعني أنه سينازع هؤلاء الملأ في سلطانهم، ليرد السلطة لله الذي يتحدث باسمه وبإذنه " [23]، أي ليكمل التوحيد بالفهم الإسلامي الكبير.
وسادسها: أن هناك تطوراً كان يطَّرد لصالح المؤمنين: فبينما لم يذكر القرآن الذين آمنوا مع نوح إلا عندما ذكرت نجاة نوح، فإن المجموعة الإيمانية التوحيدية قد أصبح يطلق عليها عبارة الذين (استضعفوا في الأرض)، مما يعني: " أن المؤمنين قد صار لهم وجود في شبكة العلاقات الاجتماعية " [24]، التي أصبحت الآن تضم الجميع.
وقد كان مصير من كذبوا سيدنا نوح وهود وصالح وشعيب الاستئصال التام، وفي ذلك ما فيه من الدلالة على أن البقاء لا يستحقه إلا أصحاب التصديق والإيمان. ثم ميز القرآن طائفة معينة من الرسل بأنهم (أولوا العزم من الرسل) وهم الذين أُمروا بالجهاد، على خلاف الرسل الأوائل، الذين تولى الله تعالى عنهم ذلك العبء بالإفناء والإبادة التامة للكفار.
أقامة الدولة باكراً:
و خلال التطور الذي اطرد لصالح المؤمنين بدأت تتكون الدول السياسية الإيمانية. وفي هذا الاتجاه استعرض الدكتور التيجاني آيات سورة (الأعراف)، وحلل محتوياتها الإيمانية والمعرفية ليدلل على صحة نظريته التي صاغها لتصوير التاريخ السياسي لأحد الرسل الذي عرف بكثرة الانشغال بالعمل السياسي المباشر وهو سيدنا موسى عليه السلام، وتقول النظرية إن مهمة سيدنا موسى كانت تتجه نحو إقامة الدولة في مصر، أرض فرعون، وأن خروجه منها لم يكن إلا اضطراراً، لأنه كان يريد أن ينازل فرعون نفسه، ويسترد منه مفهوم السيادة الذي زعمه لنفسه، حيث ادعى نفسه رباً وإلهاً. وهكذا كانت التجربة السياسية لسيدنا موسى عليه السلام ذات دلالات تجعل منها: " نموذجاً ملياً لصراع السيادة بين الرسول والملأ " [25]، أو بين الرسول و النخبة الحاكمة.
ولكيما يضع الدكتور التيجاني عبد القادر التجربة السياسية الموسوية في سياقها التاريخي يقول: " لقد طرأ بالفعل من بعد نوح تطور تاريخي كبير في جانب الفكر، فقد تحولت القرية إلى حاضرة كبيرة، وتحول الملأ إلى مملكة، وتحولت الأعراف والمصالح إلى دين متبع. كما تطور جانب الإيمان كذلك كثيراً، فقد تحول المؤمنون إلى أمة، ولكنها أمة منقوصة السيادة بالاستعباد العسكري والإكراه السياسي " [26]، الذي كان فرعون يسوم به القبط وبني إسرائيل.
وهكذا جاء سيدنا موسى عليه السلام ليرى " أن فرعون قد اعتدى على السيادة العليا، ليس على سبيل الاشتراك مع الله فيها، وإنما ادعى الربوبية ذاتها وأنكر أن يكون فوقه إله. وكما اعتدى فرعون على السيادة، فقد اعتدى على الأرض وجعلها ملكاً مقدساً له، واعتدى على رقاب الناس، فجعلهم عبيداً، فاكتملت له بذلك عناصر السيادة السياسية الاستبدادية كلها: الأرض، والناس، والسلاح، والفكرة.
أما الأرض فقد كانت خالصة للملك بلا منازع. والقرآن يحكي عن فرعون قوله: " أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون "، [27] ليدل على مدى تحكمه في موارد الطبيعة وما تفيض به الأرض من ثمرات. يضاف إلى ذلك ما ذكره المؤرخون والمفسرون أن فرعون كان قد أمسك بني إسرائيل كعمال للأرض والبناء، كما يُفعل بالرقيق، مما وفر فيوضات مالية هائلة يكفي للتدليل عليها ما ذكره القرآن عن أموال قارون كمثال نموذجي للثراء الفاحش.
وقد كان فرعون يحتكر بلا شك السلاح والجند لدعم سلطته المركزية وحراسة ملكه، ولقد ذكر جنوده هؤلاء في القرآن: " إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين " [28]. وما ينقص فرعون في نظامه ذاك العتيد إلا شئ واحد هو جانب المبدأ والفكرة والمشروعية حيث كانت الفكرة ملفقة من بقايا أديان واعتقادات سابقة صاغها الكهنة والسدنة والسحرة وأقنعوا بها بعض صغار الأحلام: " فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين"[29].
أما سيدنا موسى في طرف الصراع الآخر، فلم يكن يملك إلا ما كان يفتقر إليه فرعون وهو جانب المبدأ والمشروعية الحقة، وبقي مفتقراً إلى الأرض والناس والسلاح. إن حركة التوحيد قد نضجت، وتجاوز المؤمنون بها مرحلة الشتات، ولكنها كانت مهددة بالاستضعاف. إن سيدنا يوسف، عليه السلام، هو الذي أدخل بني إسرائيل في مصر، حينما مُكِّن له فيها: " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء " [30]، وبذلك انتهت دورة الاستئصال لتبدأ دورات (المداولة) بين المؤمنين والمشركين على الأرض، وأصبحت: " فلسفة التاريخ الديني كلها قائمة على فكرة المداولة بين الناس في الأرض، فلا تبقى خصوصية لأرض بعينها لا يقام الدين إلا فيها (كأرض الميعاد)، ولا خصوصية لشعب بعينه لا يقوم الدين إلا فيه وبه (كشعب الله المختار)، وإنما تكون الأرض كل الأرض لله، وأنه قد جعلها مداولة بين الناس كل الناس، وفقاً لشروط التمكين السياسي والحضاري القائم على الالتزام (بالوحي المسلَّح) لإقامة الدين في الأرض. فهذه هي عبرة التاريخ الديني، وذلك هو مغزى إفراد القرآن لتجربة موسى وقومه من بعد تجربة الرسل السابقين، والإشارة المتكررة إلى أن موسى قد جاء من بعدهم: " ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا"[31].
وهكذا دارت جولات الحوار والصراع بين موسى وفرعون حول مسألة التوحيد، وانبثقت نزعة (الكبرياء في الأرض)، فقد أدرك أتباع فرعون أن دعوة التوحيد تقتضي أن يتخلى فرعون وحاشيته عن السيادة والكبرياء بال مواربة، وأبلغهم بذلك المقتضى، ولذلك قالوا له: " أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض"[32]. ولم يؤمنوا، ووجد موسى نفسه أمام خيارين: " إما أن يخرج من الأرض حاملاً دينه إلى حيث يشاء، وإما أن يخرج من الدين ليبقى في الأرض كما يشاء " [33]، وكلا الخيارين لا يستقيم:" لأن أساس دعوة الدين هو الربط بينه وبين الأرض والاستيلاء على السيادة فيها باسم الله " [34].
ولم يشأ موسى، عليه السلام، أن يدخل في صدام حربي غير متكافئ مع فرعون وجيشه، وليس فيه مصلحة للدين. وهنا اقترح موسى أن يسمح له بمغادرة مصر بمعية قومه من بني إسرائيل. ولكن فرعون فطن لخطورة الاقتراح لأنه: " لا يتضمن الانسحاب من مصر زهداً فيها أو تخلياً عنها لفرعون كما قد يفهم البعض. فالتخلي النهائي عن الأرض تخلٍ عن الرسالة ذاتها، ولو كان خروج بني إسرائيل هو تخلٍٍ نهائي عنها لفرعون لما رفض فرعون ذلك ولرحب به، ولكن الخروج الجماعي لبني إسرائيل مع نبي يقودهم، يعني أنهم قد صاروا أمة بعد أن كانوا رقيقاً، كما يعني أنه لم يبق بينهم وبين السيادة الكاملة إلا أن يجدوا مكاناً من الأرض، وقد يكون هذا المكان بجوار مصر ذاتها. وقد يستعينون بالبدو في شرق الدلتا مثل الذين أوى إليهم موسى من قبل حينما هرب من مصر صبياً إلى (مدين)، وقد ينقضون على مصر حلفاء مع أول عدو لها، وقد كانت مصر تخوض حروباً متتالية في الشمال والشرق. هذا فضلاً عن أن الخروج الجماعي لبني إسرائيل قد يقوض البناء الاقتصادي المصري، الذي كان يعتمد عليهم، إذ كانوا يمثلون الجزء الأساسي في الأرض بل كانوا جزءً من الأرض، وفقاً للعرف الإقطاعي الذي كان يسود. وربما يكون قول موسى لفرعون الذي حكاه القرآن: " وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بني إسرائيل " [35]، إشارة إلى ذلك الارتهان بالأرض. لكل ذلك فقد رفض فرعون رفضاً قاطعاً فكرة خروج بني إسرائيل من مصر، وشدد الحصار عليهم، وأحكم الرقابة، وأمر بمضاعفة الأعباء والأعمال الشاقة عليهم إمعاناً في العنت والرهق " [36].
وإزاء مواجهة فرعون لقوم موسى بهذا العسف والتنكيل، وهم بعد ضعاف ومتفرقون، ولم يكوِّنوا جيش المواجهة بعد، لم يجد سيدنا موسى أمامه من سلاح إلا سلاح الصبر والصمود حتى يقوى عود بني إسرائيل، ويستجمعوا شروط التمكين، فأوصى قومه قائلاً: " أستعينوا بالله وأصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء والعاقبة للمتقين " [37]، وأصبح البقاء بمصر هدفاً، لم يحِد عنه موسى إلا بسبب تضعضع قوى بني إسرائيل: " قالوا أُوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا " [38] وعندها دعا الله تعالى أن يطمس على أموال فرعون وآله، وأن يشدد على قلوبهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم. فأُذن له بالخروج ولم يسأله ابتداءً.
وهكذاكانت تجربة سيدنا موسى السياسية تقوم على الارتباط بالأرض ليقيم عليها مبادئ دعوته، وأركان دولته، ولم يخرج عنها إلا ليعود إليها لينجز تلك المهام.
التجربة السياسية المكية:
ومن تحليل التجربة السياسية الموسوية انتقل الدكتور التيجاني لتحليل التجربة السياسية لرسول الإسلام، محمد عليه السلام، فقد افتتحت سورة الأعراف بتقديم العبرة الإيمانية التاريخية لأهل مكة، فقال تعالى: " ألمص. كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين. اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون. وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بَياتاً أو هم قائلون " [39].
وهذا خطاب له وقع خاص عند أهل مكة. لأنه إذا وُجِّه لقوم نوح مثلاً، فإن سجلات التاريخ ما كانت تقدم لهم أمثلة وعبراً كثيرة عنه. أما أهل مكة فقد علموا مصارع الفراعنة والجبابرة من قبل، ولذلك فقد كان ذلك الخطاب جديراً بأن يثير القلق الفكري والتساؤل والبحث لاسيما: " في مسألة السيادة في الأرض والفعل السياسي والولاءات العليا في المجتمع، والعلاقات بين الناس، والقيم التي ترتبط بها والمؤسسات التي تقوم على أساسها، وفوق هذا وذاك تجرهم إلى التساؤل عن المعايير الثابتة التي يحكم بها على الأحداث التاريخية الماضية والعلاقات الاجتماعية الراهنة " [40]. هذا فوق أن ذلك الخطاب القرآني كان يستهدف تنمية الحس التاريخي والقدرات التحليلية الموضوعية لمن يهتدون بالإسلام، فيوظفون عقولهم في خدمة الهدف السياسي.
وقد قدم الدكتور التيجاني عبد القادر شروحاً متضامَّة لعدد من النصوص القرآنية المكية، ثم يعود ليركز على سور بعينها هي (الزمر) و (غافر) و (فصلت) و (الشورى) و (الزخرف) و (الدخان) و (الجاثية) و (الأحقاف) ومن تأمل فواتح تلك السور لاحظ: " أنها جميعاً تبدأ بعبارة حم. تنزيل الكتاب، أو تنزيل الكتاب، أو حم. والكتاب، فهي على عمومها وبلا استثناء تبدأ بالحديث عن الكتاب المنزل وتكون كلمة (التنزيل) بهذه الطريقة الكثيفة، واشتراك هذه السور في التركيز على مفهوم أن الكتاب منزل وليس موضوعاً هو الأمر الذي يلفت انتباهنا لنقدم سؤالاً: هل تود هذه السور أن تتعرض لمبدأ السيادة العليا في المجتمع ومشروعيتها فتقدم الفكر " التنزيلي " في مقابل الفكر " الوضعي " ؟ كإجابة على سؤال لمن تكون الكبرياء الأرض ؟ "[41].
وحتى يجيب المؤلف على هذا السؤال الكبير يقترب أكثر من نصوص هذه السور، ويحلل كثيراً من مفردات ومفاهيمها، مستنتجاً من ذلك أن كل إسهام بشري قُدِّم على هدى الدين الإبراهيمي، أو في إطاره الثقافي، فإن الدين المحمدي أحق به، بل سيتغذى به لإقامة الدين، بعد أن ينفي عنه ما ألصقه به من إشراك وإفك [42]. وهو ما يعني أن دين الإسلام المحمدي وارث وخاتم في نفس الوقت. ويستنتج أيضاً أن الآية المكية: " وأمرت لأعدل بينكم "، إنما تتضمن أمراً لازم التنفيذ وُجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكي: " يتولى القيادة السياسية في المجتمع القرشي، وهذا المعنى لم يأت عرضاً في ثنايا الآيات، وإنما قصد على وجه التحديد، لأن الآيات التي تلي هذه مباشرةً تركز عليه لتؤكده، ففيها يخاطب الرسول، صلى الله عليه وسلم، بقول الله تعالى: " الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب " [43].
ولكي يقيم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، العدل حسب شرائع الإسلام، فلا بد من أن يقيم دولة الإسلام، على أساس فكرة المداولة في الأرض والمغالبة على حيازتها ولو في مكة، وسط تلك الأغلبية التي لم تلتزم بعد بالإسلام، وهي مداولة ومغالبة تستمر حتى تتكلل جهود المسلمين ببسط سيطرة الإسلام على الأرض، فتكون الأغلبية العامة عندئذٍ للمسلمين.
الأصول الكبرى للدولة الإسلامية:
وهكذا فقد أخذ تطور وتكامل التجارب السياسية التوحيدية الأولى صورته في التجربة السياسية المكية، وهو ما يفيد في جملته بعدة استخلاصات ذات طابع أصولي تأسيسي، أهمها:
1- إن الدولة الإسلامية هي دولة توحيدية تحريرية:
وذلك لأن توحيد البشر للإله سيوحِّد ولاءهم له، ويحررهم عن الولاءات الأخرى المتشاكسة. قال تعالى: " ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاءُ متشاكسون ورجلاً سَلَمَاً لرجل هل يستويان مثلاً ؟ الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون " [44]. وهذه الآية تصور وضع: " العبد الذي تكون في رقبته حقوق كثيرة لشركاء متشاكسين، فتتعدد ولاءاته تبعاً لتعدد أسياده، فتضطرب وفقاً لذلك سائر أوجه حياته فلا يُصيب خيراً. وقد جاءت هذه الآية مثالاً للمقارنة بين حالة التوحيد وحالة الشرك، لتعني أن توحيد الولاء لله يسقط الولاءات الأخرى، فيتحرر الإنسان فيكون عبداً لإله واحد فلا يتحكم في رقبته سيد ولا في عقله كاهن " [45].
إن نظريات العقد الاجتماعي – كما يعتقد المؤلف – لم تحرر الإنسان الغربي كما ينبغي، بل أوقعته أسيراً للنظر الآحادي المادي للوجود، وهو النظر الذي ينصرف تماماً عن المآل الأخروي، ويجعل همه الاستمتاع المادي الدنيوي، الذي لكي يحافظ عليه فإنه يُبرم عَقداً مع الدولة، ويتنازل لأجهزتها وإجراءاتها عن جزء من حريته، من أجل أن تحميه الدولة. ولكن دائرة الدولة تتضخم وتحيط بالفرد من كل جانب، وهذا السلطان الضخم هو الذي تعمل عقيدة التوحيد الإسلامي على تحرير البشر منه، بتكليفها للدولة بالعمل على تنمية الجوانب الروحية الأخروية في حياة الشعب، ومنع الارتهان لعوالم المادة وحدها.
2- إن الدولة الإسلامية هي دولة لكل الناس:
وذلك لأن القرآن نزل لكل الناس، حتى يحكم بينهم بالعدل، ولم ينزل للمسلمين وحدهم. قال تعالى: " إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل " [46]. والدولة الإسلامية لا تطرُد عن ديارها من لم يؤمن بالإسلام ولا تجبره على اعتناقه. ومن ثم فقد أصبحت دولة لكل الناس. وحاكم الدولة الإسلامية مأمور أن يعدل بين الناس جميعاً، وليس بين المسلمين وحسب.
3-أن الدولة الإسلامية هي دولة قانون:
وذلك لأن الناس يحتكمون فيها إلى شريعة لها قواعدها المحددة، ووجودها المستقل. قال تعالى: " ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون " [47]. وهنا تختلف فكرة أصل القانون عنها في التجربة الغربية. حيث كانت التجربة الرومانية تعتبر الإمبراطور مصدراً للقانون، حتى جاء الفيلسوف الروماني (شيشرون) بفكرة القانون الطبيعي، حيث يتطابق القانون مع حكم العقل الطبيعي، الذي هو مستمد بدوره من الله بزعمهم.
وعلى هذا المنحى سار آباء الكنيسة قائلين بالحق الملكي المقدس، الذي يلزم الفرد اتباعه، حتى ولو كان قانوناً سيئاً. فالقانون الغاشم بزعم هؤلاء الآباء هوعقاب رباني للمخطئين، وجب الامتثال له. وقد ظل التشريع الغربي يقوم على هذا الأساس حتى جاء (مارسيلو) ليقول بضرورة انتخاب الحكومات واستمدادها لمشروعيتها من الشعوب، وأن تتقيد بالقوانين، ثم جاء (وليام الأوكامي) لينادي بفصل الدين عن الدولة والتشريع، وهو الوضع الذي دعمته نظريات العقد الاجتماعي.
لكن القرآن الكريم كان قد سبق الغرب كثيراً في هذا المضمار، حيث قرر: " ابتداءً أن الرسول والمؤمنون جميعاً يقعون تحت دائرة التكليف والمساءلة، ويحتكمون إلى الشريعة، كما يقرر بصفة حاسمة أن الشريعة (منزلة) وليست موضوعة، إذ أن وضع الشرائع ليس من اختصاص البشر، وإنما هو لله وحده، والشريعة المنزلة تختلف عن القانون الطبيعي الذي تستلهمه العقول استلهاماً فتصيبه أو تخطئه. وإنما هي نصوص وقواعد محكمة تجتهد العقول في إيجاد صيغ عملية لتطبيقها لا في البحث عنها " [48]، فهو أمر قد كُفوا مشقته الفادحة.
4- إن الدولة الإسلامية دولة غير ثيوقراطية:
وذلك لأن السلطة فيها ليست لطبقة كهنة أو رجال دين، وإنما للشرع نفسه، ثم تلي الأمة أمر الحكم والتطبيق. قال تعالى: " والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون، والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون " [49]. فالخطاب القرآني متوجه هنا لجماعة المسلمين كلهم ليستجيبوا لأمر الله تعالى ويعبدوه، ويُحكِّموا الشورى بينهم، وينفقوا أموالهم، ويتصدوا للظلم والبغي. فهذه الجماعة التنفيذية هي الأمة بكاملها، وليست طائفة غامضة مغلقة تتحكم في الناس بإسم الدين كما هو مفهوم الثيوقراطية في الفكر السياسي الغربي.
هذه الآية المكية عن الشورى وآيات أخرى من تلك السور المكية الثمانية، تشير إلى أن المسلمين بمكة كانوا قد صاروا جماعة لها زعامة، مثلما كان للقرشيين المشركين زعامة. فقد كان لمشركي مكة دولتهم ذات: " الوظائف التي كان يقوم بها ملأ قريش وتشبه وظائف الدولة هي الرئاسة الدينية وما يتبعها من رفادة وسقاية وحجابة، ثم يضاف إلى ذلك إرسال الوفود وإقامة العلاقات الخارجية، كما تضاف أيضاً دار الندوة التي تقرر فيها السياسات وتفض فيها النزاعات، ثم من فوق ذلك الإمكانات الاقتصادية التي يمكن أن تعد بها الجيوش وتحمى بها القوافل " [50]، وهي وظائف قوية ومتكاملة.
أما في الطرف المقابل فقد أنشأ: " الذين استجابوا لربهم دولتهم أيضاً " و" كانت لهم الرئاسة الدينية التي تمدهم بالشرعية المبدئية وقواعد السلوك الحياتية. وكانت لهم من حيث التنظيم الإمارة السياسية الشورية التي توحد مجهوداتهم، وتعصمهم من الفردية والتشتت. وإذا تذكرنا أن هذه الآيات نزلت بعد هجرة الحبشة، ووافقنا أن المهاجرين للحبشة لم يكونوا مجرد أفراد فارين من الاضطهاد، لسلَّمنا بأن المسلمين في مكة كانت لهم القدرة على إرسال الوفود إلى الخارج، وإقامة العلاقات الدولية بصورة لم تفلح قريش في إيقافها أو قطعها. وتبقى مسألة العدد والعتاد، وهي المسألة المالية التي يتفوق فيها أهل مكة"[51].
لقد نزلت تلك السور المكية الثمانية بعد الهجرة إلى الحبشة، وقبل رحلة الطائف، أي حين كانت المواجهات على أشدها بين المسلمين والمشركين. وفي آيات من تلك السور أبطل القرآن المكي الشرعية السياسية للملأ القرشي الجبروتي، واتسعت خطوات المسلمين نحو استكمال عناصر السيادة، والنفاذ عن الحصار الاقتصادي الذي ضرب عليهم، وهنا نرى: " أن تحركات الرسول صلى الله عليه وسلم في الفترة التالية ستكون تحركات رجل دولة، يسعى لاستكمال عناصر السيادة، ويخرج من التطويق الاقتصادي الذي تتفوق به قريش. وسوف نرى أن فكرة الانسحاب من مكة وتركها للمشركين لم تكن واردة أصلاً في منهج الرسول صلى الله عليه وسلم السياسي، وإنما يقوم منهجه على سحب الأرض من تحت أرجلها أو تهديد مصالحها التجارية في الطائف والحبشة، أو على تطويقها بالقبائل العربية من غير قريش. ومنهج الاستيلاء على السيادة هذا ليس هو منهج تحول إليه الرسول صلى الله عليه وسلم تحولاً مفاجئاً، كما ظن بعض الناس، ولا هي سيادة محلية تقام في قريش كما توهموا "[52]. وإنما هو منهج أصيل في الدين، وله تراث عريق في رسالات الرسل السابقين، وهو المنهج الذي يقود المسلمين في كل عصر ومصر لإقامة دولة مكينة للدين.
خاتمة:
بهذا التحليل الذي اقتصر على النصوص القرآنية المكية، وضع الدكتور التيجاني عبد القادر حامد يده على جذور المبادئ السياسية الإسلامية، وأبان عن عمق تغلغلها في تاريخ الأديان السماوية، و كشف عن اتساع مداها وسماحتها، بحيث تشمل في ظلها من آمن بها ومن لم يؤمن بها، وأعرب عن انفتاحها على تجارب الفكر البشري، بحيث تستخلص منها، و تستصحب كل ما ينسجم مع أصولها ومقاصدها ومايفيد الناس في كافة أنواع الخير.
وأكد أن الناس، جميع الناس، مكلفون بما كلف به الرسل من اقامة العدل، لأن العدل والفطرة البشرية سواء. ثم إن الإسلام قد أضاف النبوة إلى الفطرة، فزادها هدى إلى هدى، وتكفل بحفظ كتابه الكريم من التحريف والتزوير، وعصم الأمة في إجماعخا من الضلال. وأعطى العبرة بتراث سياسي وفير من مجاهدات الرسل عبر التاريخ، كافحوا فيها صور الشرك والفساد السياسي المتنوع، وجابهوا الطغاة وأقاموا الدول على المبدأ والفكرة والمشروعية. ولم تشرع لهم الهجرة هروباً وإنما حيلة ووسيلة من أجل التمكين.
وهكذا انتهى الدكتور التيجاني عبد القادر من خلال تحليل معاني النصوص والوقائع التاريخية للفترة المكية ثم اعادة تركيبها، إلى اثبات أن التوجه السياسي الرامي إلى انشاء دولة إسلامية كان توجهاً أصيلاً قديماً، ولم يأتي كتوجه انتهازي ذرائعي طارئ كما تصور بعض أقطاب حركة الاستشراق، وكما ظن بعض المستغربين من أبناء المسلمين. وبهذه النتيجة البحثية تمكن الدكتور التيجاني عبد القادر من ازالة وهم كبير في موضوع علاقة الإسلام بالسياسة، وذلك من حيث التصور الأصولي المبدئي والتجربة التاريخية التطبيقية. وقد فتح الدكتور التيجاني عبد القادر بأسلوبه البحثي لهذه المسألة نهجاً علمياً مميزاً لدراسة الظاهرة السياسية انطلاقاً من آي القرآن الكريم، وهو نهج حريٌّ بأن يعطي نتائج أقوى وآكد في دراسة العلوم السياسية من وجهة النظر الإسلامية.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] التيجاني عبد القادر حامد، أصول الفكر السياسي في القرآن المكي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، الولايات المتحدة، 1995، ص 21.
[2] المصدر السابق، ص 25.
[3] المصدر السابق، ص 23.
[4] المصدر السابق، ص 23.
[5] علي عبد الرازق شيخ أزهري أصدر كتاباً بعنوان ( الإسلام و أصول الحكم ) زعم فيه أن الإسلام لا صلة له البتة بمبادئ السياسة والحكم، أنه لا يوجد أي نص ديني إسلامي له صلة باصول الحكم، وان الرسول كان يتولى الحكم بصفته حاكما مدنيا لا دينيا.. انظر الأطروحة والرد عليها في: علي عبد الرازق، الإسلام و أصول الحكم، نقد وتعليق الدكتور ممدوح حقي، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1978 م.
[6] التيجاني، دراسة أصول الفكر السياسي،، المصدر السابق، ص 24.
[7] المصدر السابق، ص 25.
[8] التيجاني، دراسة أصول الفكر السياسي، مصدر سابق، ص 34.
[9]المصدر السابق، ص 35.
[10]المصدر السابق، ص 36.
[11] المصدر السابق، ص 64.
[12] المصدر السابق، ص 65.
[13] المصدر السابق، ص 66.
[14] التيجاني، دراسة أصول الفكر السياسي،، مصدر سابق، ص 69.
[15] المصدر السابق، ص 69.
[16] المصدر السابق، ص 69 – 70.
[17] المصدر السابق، ص 71.
[18] المصدر السابق، ص 76.
[19] المصدر السابق، ص 70.
[20] المصدر السابق، 80.
[21] المصدر السابق، ص 81.
[22] المصدر السابق، ص ص 82 – 83
[23] المصدر السابق، ص 83.
[24] المصدر السابق، ص 85.
[25] المصدر السابق، ص 85.
[26] المصدر السابق، ص 85.
[27] سورة الزخرف، الآية رقم 51.
[28] المصدر السابق، ص 86.
[29] سورة الزخرف، الآية رقم 54.
[30] سورة يوسف، الآية رقم56.
[31] المصدر المصدر السايق، ص 87.
[32] سورة يونس، الآية رقم 78.
[33] المصدر السابق، ص 90.
[34] المصدر السابق، ص 90.
[35] سورة الشعراء، الآية رقم 22.
[36] المصدر السابق، ص ص 90 – 91.
[37] سورة الأعراف، الآية رقم 128.
[38] سورة الأعراف، الآية رقم 129.
[39] سورة الأعراف، الآيات1-3.
[40] المصدر السابق، ص 98.
[41] المصدر السابق، ص 103.
[42] ا المصدر السابق، ص 106.
[43] المصدر السابق، ص 107.
[44] سورة الزمر، الآية رقم 29.
[45] التيجاني، ص 108.
[46] سورة الزمر، الآية رقم 41.
[47] سورة الجاثية، الآية رقم 18.
[48] المصدر السابق، ص 115.
[49] سورة الشورى، الآييتان 38- 39.
[50] المصدر السابق، ص 122.
[51] المصدر السابق، ص 122.
[52] المصدر السابق، ص ص 123 – 124.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.