نعم رمضان ! ولابد من رمضان بعد أحد عشر شهرا قضاها المرء في جهاد العيش ، مستكلب النفس ، مستأسد الهوى ، متنمر الشهوة ، ليوقظ رواقد الخير في قلبه، ويرهف أحاسيس البر في شعوره ، ويرجع روحه إلى منبعها الأزلي الأ قدس ، فتبرأ من أوزار الحياة ، وتطهر من أوضار المادة، وتتزود من قوى الجمال والحق والخير، ما يمسكها العام كله على فتنة الدنيا ، ومحنة الناس . فرمضان رياضة للنفس بالتجرد ، وثقافة للروح بالتأمل ، وتوثيق لما وهى بين القلب والدين ، وتقريب لما بعد بين الرقة والمسكين ، وتأليف لما نفر من الشمل الجميع ، وتندية لما يبس من الرحم القريبة ، ونفحة من نفحات السماء تفعم دنيا المسلمين بعبير الخلد وأنفاس الملائكة ! ورمضان ثلاثون عيدا من أعياد القلب والروح ، تفيض أيامها بالسرور ، وتشرق لياليها بالنور ، وتفتر مجالسها بالأنس ، ففي المدن يغمر الصائمين فيض من الشعور الديني اللطيف ، يجعلهم بين صحوة القلب ، ونشوة الجسد في استغراق في الله . يتاملون أكثر مما يعملون ، ويستمعون أكثر مما يتكلمون . .. ورمضان بعد ذلك كله رباط اجتماعي وثيق ، يؤكد أسباب المودة بين أعضاء الأسرة بالتواصل والتعاطف ، وبين أفراد الأمة بالتزاور والتآلف ، وبين أهل الملة بذلك الشعور السامي الذي يغمرهم في جميع بقاع الأرض بأنهم يسيرون إلى غاية الوجود قافلة واحدة ممتزجة الروح ، متحدة العقيدة ، متفقة الفكرة ، متشابهة االنظام ، متماثلة المعيشة .. أما إذا كان في دنيا الإسلام من يستقبل رمضان بالوجه الكالح ، والصدر الضيق ، واللسان الطويل ، والغيظ الحانق ، فهما إثنان :الشيطان المصفد ، والمسلم المزيف ... فالشيطان يستقبل رمضان حصنا من الخير لا يدخله الشر ، ولا تفتحه الرذيلة .فإذا حاول إبليس أن يدنو منه رده الذكر بالنهار ، وصده القرآن بالليل، فيظل كما يعتقد مصفدا بالأغلال ، مقيدا بالسلاسل ، حتى ينطلق من إساره في آخر يوم من أيام رمضان . والمسلم المزيف يجد في رمضان فطاما لشهواته ، ولجاما لغرائزه ، وقيدا لحياته ، فهو يرميه بما يرميه به الأروبيون من قلة الإنتاج ، وكثرة الإهلاك ،وشلة الحركة ،وقتل الصحة ، فيشيح بوجهه عنه ، ويتخذ لنفسه رمضان آخر، رقيق الدين ، خفيف الظل ، باريسي الشمائل ، يبيح النظرة الآثمة ، والكلمة العارية ، والأكلة الدسمة ... ولا يكلفه إلا أن يجعل عشاءه من باب المجاملة عند الغروب ، وبعد طلقة المدفع ... ذلك رمضان كما تدركه الفطر السليمة ، والقلوب المؤمنة ، وهو وحده الباقي لفلاحنا من غفلات العيش ، ولحظات السعادة . .. إعداد يحي محمد رسام من وحي الرسالة ج1 ص81 -85 بقليل من التصرف لخليفة الرافعي الأ ستاذ أحمد حسن الزيات رحمه الله