المسلمون في توديع رمضان جد مختلفين ، فمنهم المتقون والقرويون والذين لم تقس قلوبهم على جفاف المادية وكلب العيش ، وهؤلاء يودعونه وعلى وجوههم غشاوة من الأسى على بركات لايد أن تنقضى ، وخيرات توشك أن تنقطع ، كأنما يعتقدون أن باب السماء في غيره مغلق . وأن وجه الأرض من بعد ربيعه جديب...! ومنهم الخلعاء والمجان والذين في قلوبهم مرض وفي إيمانهم ضعف ، وهؤلاء يودعون في رمضان قيدا ثقيلا غلهم عن شهوات الجسد ،ونزوات النفس ، فهم يفرحون لوداعه فرح السجين إذا أطلق، والمحروم إذا نال . لا أحب أن أوغل في حديث هؤلاء المجان فإنهم ليسوا من رمضان ولا من أهله . وأعود إلي حديثكم أيها الصائمون الذين ودعتموه بالحسرات ،وشيعتموه بالدموع فاسألكم : هل أنتم يوم ودعتموه خير منكم يوم استقبلتموه ؟ هل تشعرون بعد أن أديتم فريضة هذا الركن القوي من أركان الإسلام أن نفوسكم أصبحت أطهر ، وأن أخلاقكم صارت أكرم ، وأن أهواءكم غدت ارفع ؟ وهل تحسون أثر أولئك كله في دنياكم الخاصة والعامة ، فأنتم اليوم أشد قربا من الله ، واوثق صلة بالناس ، واطيب نفسا بالحياة ؟ إسألوا أنفسكم هذه الأسئلة ثم أجيبوا عنها ، وأنا معتقد أن أجوبتكم ستكون بالإيجاب ، وإلا لما حزنتم على انقضاء رمضان ، وأسفتم على انقطاع الخير فيه ؟ فإن المرء لا يحزن إلا على عزيز ، ولا يأسف إلا على نافع ،. فلماذا إذن لا تجعلون سائر الشهور كشهر رمضان ؟ لماذا لاتستمرون في الصيام عن ظاهر الإثم وباطنه ، فتغلوا أيديكم عن الأذى ، وتصونوا ألسنتكم عن الكذب ، وتطهروا قلوبكم عن الرجس ، وتنزهوا مكاسبكم عن الحرام ، وتبرئوا أعمالكم من الغش ، وقد جربتم ذلك في رمضان فنفعت التجربة ، وحسنت العاقبة ؟ لماذالا تضيقون الكلفة في القهوة لتوسعوا النفقة في البيت ، وتقتصدون قليلا في الأنس بالأصدقاء لتوفروا كثيرا من ألأنس بالأسرة ، وقد فعلتم ذلك في رمضان فاعتدلت الحال وطابت المعيشة ؟...وهذا القوي الذي كان وهو صائم يمر باللغو كريما ، قيقابل الذنب بالمغفرة ، والسيئة بالحسنة ، والقطيعة بالصلة ، فوصل السلام بين قلبة والأمن ، وقرب الوئام بين نفسه والسعادة ، لماذا لا يحرص على هذا الخلق وهو مفطر بعدما جنى من خيره في أربعة أسابيع مالم يجنه من غيره في العام كله ؟ وهذا التاجر الذي راضه الصوم أن يقف نفسه عند حدود الله في التجارة فلم يطفف الكيل ، ولم يخسر الميزان ، ولم يقارف الاحتكار ، ولم يغش البضاعة ، ولم يرفع السعر ، ثم تحقق من جدوى ذلك عليه في رضا ربه ، وراحة ضميره ، ومصلحة وطنه ، لماذا لايلزم ذلك في كل وقت بعد أن استمر أ طعم الحلال ، وأدرك لذة الحق؟ وهذا الغني الذي ذاق في رمضان ألم الجوع ، وكابد مشقة الحرمان ، فاستطاع بالصدقة أن يخفف عناء الفقر عن فقير ، ويدفع شر الحاجة عن محتاج ، لماذا لايشعر دائما أن الجوع بعد رمضان باق ، وأن العوز في أكثر الناس قائم ، وأن للسائل والمحروم حق لا يتقيد أداؤه بيوم ، ولا يتخصص قضاؤه بصوم ؟ إن رمضان شهر رياضة وموسم استشفاء ، نروض فيه أنفسنا على الخير لتمرن عليه ، ونعالجها به من الشر لتبرأ منه ، وليس الغرض من هذه الرياضة وهذا الإستشفاء أن يحدثا أثرهما الطيب في حياة المرء في شهر بعينه ، فإن ذلك يخالف حكمة الشارع في الصوم ، ويناقض منطق الأشياء في الواقع ، والمريض الذي يطلب العافية في مدينة من مدن المياه الطبية لا يطلبها للمدة التي يقضيها في المصحة ، وإنما يطلبها لتكون عمادا قويا لما وهن من جسمه ، وزادا صحيا لما بقي من عمره ، وما أبعد المسلم عن الإسلام إذا كان يعتقد أن الصلاة لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر إلا وهو في المسجد ، وأن الصوم لا يعصمه من اللغو والأذى إلا وهو في رمضان ، وأن الزكاة لا توجهه إلى المعروف والخير إلا وهو في العيد ... أما أنتم معاشر الذين خرجوا من رمضان بزاد من التقوى للقلب والروح ، وذخيرة من الخير للوطن والأمة ، وعدة من الصبر للجهاد والعمل ، فإنكم أحرى في هذه الليلة – ليلة العيد – أن تهنأوا بحزنكم في توديع شهر الصوم ، وبفرحكم في استقبال يوم الفطر ، فإن الحزن على رمضان تقوى وبر ، لأنه حزن على خير مضى وأنس فات ، وأن الفرح بالعيد عبادة وشكر ، لأنه فرح ببشرى نزول الوحي وذكرى يوم بدر ... من ص359- 363 في ضوء الرسالة بشيء من التصرف لشيخ البلاغة وصاحب الرسالة أحمد حسن الزيات رحمه الله . أرسلها مشكورا للموقع الأستاذ يحي رسام