بقلم المشرف الأستاذ بسطامي محمد سعيد خير صار لفظ المحرقة في تصور الكثيرين خاصة في الغرب حكرا على ما يعرف بالمحرقة المقدسة – الهولوكوست – التى تطلق على ما لاقاه اليهود على يد هتلر من إحراق وإبادة جماعية. والتى قد بالغ اليهود في تصويرها حتى جعلوها وكأنها الجريمة الوحيدة التي لا تماثلها ولا تفوقها جريمة أخرى. ولكن مما لا شك فيه أن هناك محارق أخرى كثيرة غيرها. فمن الثابت أن هناك أقليات أخرى في عهد هتلر نفسه قد ذاقت ما ذاقه اليهود من الاضطهاد، وقد شهد العصر الحاضر وقائع كثيرة من الاضطهاد والتعذيب ومن الإبادة الجماعية والتشريد. كما شهدت البشرية في عصورها المختلفة عددا من المحارق وحوادث الإبادة الجماعية ما لا تقل شناعة ولا بشاعة مما يحدث في العصر الحاضر. وقد لا يتذكر الكثيرون أويفوت علىهم أولا يخطر عي بالهم أن القرآن نفسه قد تحدث عن المحرقة في سورة كاملة من سوره، وهي سورة البروج. وقد وصف الله تعالى هذه المحرقة البشعة في صورة مؤثرة تثير الاشمئزار منها والاستنكار لها والنقمة على من ارتكبوها في عبارات قصيرة موحية ذات دلالات كثيرة. قال تعالى:{ قتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. الذي له ملك السماوات والأرض، والله على كل شيء شهيد }. ونوع المحرقة التى تشير إليها هذه الآيات هي نار في أخدود وهو شق في الأرض حفر وجعل كالخندق وملئ حطبا ثم اضرمت فيه النار. وواضح من السياق أن المعذبين في تلك المحرقة كانوا من ضحايا الاضطهاد الدينى إذ لم تكن جريمتهم التى صبت عليهم نقمة الطغاة المستبدين إلا أنهم كانوا مؤمنين بالله تعالى. ولا يذكر القرآن تفصيلا أكثر من ذلك لحقيقة هؤلاء الضحايا ومن أي جنس هم أو من أي طائفة كانوا. ومع أن تلك هي طريقة القرآن في حكاية كثير من الحوادث والوقائع، إلا أن هذا الإغفال هنا لذكر أي تفاصيل يحعل الحادثة المشار إليها والمحرقة المذكورة مثالا لكل محرقة ولكل إبادة. ولقد ذكر المفسرون والمؤرخون روايات متعددة تحاول تحديد زمان ومكان الحادثة ولكن من الصعب القطع بذلك. ومما أشاروا إليه محرقة كانت باليمن وكان ضحاياها من النصارى وكان الملك ذو نواس اليهودي هو الذى اضهدهم وأبادهم. قال القفال : ذكروا في قصة أصحاب الأخدود روايات مختلفة وليس في شيء منها ما يصح إلا أنها متفقة في أنهم قوم من المؤمنين خالفوا قومهم أو ملكاً كافراً كان حاكماً عليهم فألقاهم في أخدود وحفر لهم ، ثم قال : وأظن أن تلك الواقعة كانت مشهورة عند قريش فذكر الله تعالى ذلك لأصحاب رسوله تنبيهاً لهم على ما يلزمهم من الصبر على دينهم واحتمال المكاره فيه فقد كان مشركوا قريش يؤذون المؤمنين على حسب ما اشتهرت به الأخبار من مبالغتهم في إذاء عمار وبلال . ومهما يكن من أمر فقد كانت المحارق في التاريخ القديم كثيرة ومعروفة، منها محرقة بفارس ومحرقة بالشام على أيدى الرومان ,أخرى بالفسطنطينية وغير ذلك من الحوادث مما سجلة التاريخ ومنها ما طواه النسيان. ويبدو أن الإبادة بالمحرقة كانت أمرا شائعا منذ عهود سحيقة، ومما سجله القرآن من ذلك المحرقة التى ألقي فيها إبراهيم عليه السلام. أما العصر الحديث فليس أكثر تمدينا وحضارة كما يدعي البعض، فلقد شهد العصر الحاضر أبشع المحارق والإبادات الجماعية الكثيرة، يندى لها جبين البشرية، ولم تكن محرقة هتلر لليهود إلا طرفا من ذلك. ومن تلك الإبادات الجماعية يكفي ذكر بعض الأمثلة. فمن ذلك إبادة الأوربيين للهنود الحمر سكان أمريكا الأصلينن، وإيادتهم أيضا للأبورجنيز سكان استراليا الأصلين، وإبادة الصهيونيه للفلسطينين التى لا تزال تقع تحت سمع ومرأى العالم. ولا شك أن موقف الإسلام من ذلك موقع صريح وواضح. ولقد صورت سورة البروج هذه الجريمة أبشع تصوير وندد بها الله عز وجل بنفسه ونقم على المجرمين المرتكبين لها فقال (قتل أصحاب الأخدود) وهي عبارة تدل على شدة الغضب وعظم التشنيع بهؤلاء المحرمين وبجريمتهم النكراء. وفي سياق السورة تهديد لهم ببطش الله الشديد وبالمصير السيئ الذي ينتظرهم في الحياة الأخرى من الحريق وجهنم. وقد منع الرسول صلى الله عليه وسلم بعبارات صريحة أن تكون ألمحرقة عقوبة من عقوبات الإسلام مهما كانت فداحة الجريمة التى ارتكبها المجرم. فقد روى ابوهريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا الله تعالى. وهذا حكم مجمع عليه بين فقهاء الإسلام. بل إن فقهاء الإسلام لم يمتعوا محرقة البشر فقط بل إنهم حرموا محرقة الحيوانات. ولقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء . فأمر بقرية النمل فأحرقت . فأوحى الله إليه : أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح ؟و وهذا أفق من الرقي والسمو الأخلاقي ليس له مثيل في أي حضارة من الحضارات الجاهلية ألأخرى.