ما أن عاد السيد محمد البرادعى، الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية (الجمعة، 19 فبراير) إلا وقد احتشد لاستقباله فى مطار القاهرة آلاف من الناشطين المعارضين، رافعين صوره ولافتات كتب عليها: "نعم للبرادعي رئيسا للجمهورية'." وقال مراسلون إن البرادعي حاول الخروج من قاعة الوصول مرتين، ولكنه لم يتمكن بسبب تجمع أنصاره الذين كانوا يرددون بحماسة النشيد الوطني المصري، إضافة إلى تزاحم عدد كبير من مصوري الصحافة والتلفزيون على باب القاعة. وخرج البرادعي بعد ذلك من قاعة كبار الزوار، ثم عاد بسيارته إلى حيث يقف أنصاره، ووجه لهم التحية، ثم غادر المطار متوجها إلى منزله. لم يتمكن البرادعي من النزول من السيارة بسبب العدد الكبير من الناشطين والمعارضين الذين أتوا من محافظات مصرية عدة منذ الظهر، وهم يرددون هتافات داعمة له مثل: "البرادعي مية ميه، هو اللي حيحاسب الحرامية"؛ رافعين الأعلام المصرية إلى جوار صوره. ظاهرة الشعب الذي يبحث عن "زعيم"، وظاهرة "المثقف العالمي النبيل" الذى يبحث عن "قاعدة شعبية"، بعد أن يكون، أعنى الزعيم، قد قضى سنوات طوال خارج شعبه وبلاده، "معافرا" فى دهاليز المؤسسات الدولية، أو منفيا فى المهاجر البعيدة، ثم يقرر العودة الى بلاده، ليقدم لها عصارة ما توفر لديه من تجارب وعلاقات وأفكار، فيقابله المواطنون بعاطفة مشبوبة من الترحيب، ويعلقون عليه آمالا عراضا، ويطالبونه بمحاسبة "الحرامية"، هذه ظاهرة تستحق الدراسة، وهى بالطبع لا تقتصر على البرادعى أو مصر، وإنما لها مثيلات فى التاريخ الأفريقي والآسيوي والأوربي. غاندى فى الهند، والخميني فى إيران، ومانديلا فى جنوب أفريقيا، كل واحد من هؤلاء وغيرهم قد ابتعد (أو أبعد) ثم عاد ليقدم نموذجا فى الزعامة، فحرك الجماهير، وغير المعادلة السياسية فى الداخل والخارج. ولكن قبل أن ندرج "البرادعى" فى هذه القائمة، نود أن نتوقف قليلا لنتأمل فى حالة أفريقية مشابهة، حالة السيد الأسان أواتارا (Allasane Ouattara) في ساحل العاج، فهي تصلح أن تكون "نموذجا" لحالة الشعب الذى يبحث فى ظروف المحنة عن "زعيم" يلتف حوله، ثم نعود (إن كانت معك بقية من صبر) لنتأمل من خلال ذلك النموذج ظاهرة البراعى فى مصر. كان السيد "الآسان" (أى الحسن فى الأصل العربي لاسمه قبل أن يحرف) يرأس القسم الأفريقي بصندوق النقد الدولى(IMF) حتى عام 1988، ولكنه رأى ضرورة "العودة" إلي بلاده، ثم اقترح عليه (ووافق) أن يتولى منصب رئيس الوزراء، وليقوم على تنفيذ برنامج "للإصلاح الاقتصادي"، كان يتضمن بالضرورة سياسات تقشفية قاسية، وإجراءات رادعة لمحاربة الفساد، وتوجه صادق لإزاحة "الحرامية" والعناصر الضعيفة التي تعشعش فى مؤسسات الدولة والقطاع العام، ووضع أصحاب الأمانة والكفاءة فى تلك الأماكن. ولكن هناك حقائق "محلية" بسيطة لم يستطع السيد الحسن، رغم خبراته العالمية وتجاربه الثرة، أن يهضمها أو أن يقفز فوقها. من تلك الحقائق أن ساحل العاج كانت تقوم حتى ذلك الحين (1990) على نظام الحزب الواحد(الحزب الديمقراطي لساحل العاجPDCI,)، وأن رئيسها، السيد فيلكس بواغنى(Felix Houphouet-Boigny)، لا يختلف عن سائر الرؤساء (من حيث غريزة حب السلطة والتعايش مع الفساد)، ولذلك فهو لن يتخلى عن مقعد الرئاسة (أو عن أعوانه) ما بقى فيه عرق ينبض بالحياة، حتى بعد أن تقدمت به السن، وبعد أن أمضى فى الحكم 33 عاما، لست دورات متوالية. كان الكثيرون (بما فيهم خبراء البنك الدولي) يتوقعون (ويتمنون) أن يغادر الرئيس المسرح السياسي فى هدوء، بعد أن يعين رئيس وزرائه المثقف النبيل،السيد الحسن أواتارا، خليفة له، ليكمل مشوار الإصلاح الذي بدأه (بل أن أوتارا نفسه أخذ يحدث الآخرين بأنه قد يترشح لرئاسة الجمهورية). غير أن الرئيس المتهالك كان يعد مفاجأتين قبل موته: الأولى أن يرشح نفسه لدورة رئاسية "سابعة" ويفوز فيها فوزا ساحقا، والثانية أن يعين أحد سدنة نظامه الأوفياء، هنري كونان بدايه، نائبا له؛ فاتحا بذلك بابا "للحرامية" ليعززوا مواقعهم فى مفاصل الدولة وموارد الثروة، و قاطعا بذلك الطريق أمام إصلاحات وطموحات الحسن أوتارا،المثقف النبيل، الذي ترك وحده فى العراء، رافعا شعلة التغيير والإصلاح فى وجوه الحرامية والحرس القديم من رجال الرئيس. كان السيد الحسن أوتارا وأصدقاؤه من خبراء "الخارج" يعتقدون أن "الفساد" الذي يعملون على اقتلاعه من ساحل العاج يتمثل فى أفراد قلائل، أو فى عناصر متناثرة تعمل خارج القانون، فإذا تم إبعادها وإحلال عناصر أخرى مكانها فسيتم الإصلاح. ولكنهم تفاجئوا بأن المفسدين لم يكونوا أفرادا بقدر ما كانوا فرقا متضامنة، تعمل بطريقة قانونية، بل هي التي تضع القوانين، وأنها لا توجد فى العراء، وإنما تنمو وتزدهر فى أروقة الدولة، وتشكل مكونا رئيسيا من مكونات النظام السياسي، وأن لها جذورا و"ارتباطات" ومصالح خاصة مع كيانات عديدة فى المجتمع. اكتشف السيد أوتارا وأصحابه أن المؤسسة السياسية كلها فى ساحل العاج كانت تقوم على نوع من نظام الأعطيات(patronage system)، حيث لا توزع المناصب العليا بين المواطنين وفقا للمؤهلات أو مقاييس الكفاءة أو الأمانة، وإنما توزع على "الموالين" فى شكل "كوتات" بحسب "الخدمات" السياسية التي يؤديها الشخص-الزبون، ( والذى سيقوم بدوره بتوزيع جزء من تلك الأعطيات على من هو دونه من الأتباع والزبائن، فى شبكة تتداخل فيها العلاقات القرائبية والاثنية والدينية والتجارية والسياسية). أما الذى لم يكتشفه أو يتوقعه السيد أوتارا وأصحابه حينئذ هو أن ما بدؤوه من إصلاح اقتصادي جزئي محدود سيمثل، فى نظر الآخرين، ضربة قوية فى صميم نظام الأعطيات المشار إليه، ويمهد الطريق "لانقلاب" فى شبكة العلاقات المرتبطة به. كما لم يدركوا من ناحية أخرى أن المنتفعين من ذلك النظام لن يقفوا مكتوفي الأيدي، بل سيستخدمون كل ما لديهم من أسلحة لملاحقة "الإصلاحيين"، وتطهيرهم من مواقع السلطة. ولذلك ما أن أعلن عن وفاة الرئيس الهرم(1993) حتى هرع خليفته إلى مبنى التلفزيون، محيطا نفسه بقوة عسكرية هائلة، ليعلن توليه زمام الأمور، دون مراعاة بالطبع للمواد الدستورية المتعلقة بهذا الأمر، ودون مراعاة لموافقة المحكمة الدستورية ( ينص الدستور على أنه فى حالة وفاة الرئيس يتولى نائبه مقاليد الحكم فى البلاد حتى تستكمل الدورة الرئاسية، ثم تجرى انتخابات عامة عند نهاية الدورة). لم يجد السيد أوتارا مناصا إزاء هذا "المأزق" من أن يتقدم باستقالته من رئاسة الوزراء، وأن يغادر الساحة السياسية، ثم يغادر ساحل العاج كلها، عائدا أدراجه الى واشنطن، ليعمل فى وظيفة نائب المدير العام لصندوق النقد الدولي. وتوارى المصلحون، أو هكذا بدأت الصورة، وانتصر "الحرامية" فى ظاهر الأمر، ولسان حالهم يقول: إن الضفادع لا تستطيع أن تلعب فى المياه الساخنة. على أن هذه ليست النهاية فى قصة السيد الحسن أوتارا. فالأفكار التى طرحها، وصيحات الإصلاح التى أطلقها، لم تذهب كلها أدراج الرياح، إذ لم يبدأ الرئيس الجديد فى إحكام قبضته على الحزب والدولة حتى بدأ التململ يدب فى داخل حزبه الحاكم، فخرجت مجموعة صغيرة من عباءته، وأخذت تلتقط خيوط الإصلاح المتناثرة التى خلفها أوتارا، لتجعل منها نواة لحزب جديد(تجمع الجمهوريين،Rassemblement des republicains,RDR) وتعهد بقيادته للسيد جينى كوبينا. بدأ للكثيرين أن ما قامت به تلك المجموعة من انشقاق لا يعدو أن يكون حشرجة مذبوح، فماذا يعنى أن تنشق مجموعة صغيرة على حزب تاريخي حاكم، تحقق على يديه استقلال البلاد من الحكم الأجنبي، وظل يدير دفة الأمور لثلاثة عقود متوالية. وإذا كان أوتارا، المثقف ذو الأبعاد الفكرية والامتدادات العالمية، قد فشل فى زحزحة الفساد، ونفض يده من مشروع الإصلاح، وعاد سالما الى وظيفته السابقة فى البنك الدولي، فما الذي يستطيع "كوبينا" أن يفعله؟ هذه بلا شك النتيجة الموضوعية التي انتهى إليها كل من كان يراقب "ظاهر الأحداث"، ولكن فات على أولئك المراقبين أن تلك الأحداث البسيطة ستقود الى ردة فعل كبرى من الحزب الحاكم، وأن ردة الفعل تلك ستحرك مياها ظلت راكدة لمدة طويلة، وستجعل الشمال "المسلم" يثور ضد الجنوب "المسيحي"، وستجعل القوات المسلحة "تنقلب" على النظام الدستوري، وستشعل نارا من الحرب الأهلية الكريهة يحترق فيها الأخضر واليابس، كما سنوضح فى الجزء الثاني من المقال.