الخطاب الإسلامي في معالجته للواقع وبيانه للحق ، يتصدى احيانا لتقويم المواقف والحكم على أقوال الناس وأعمالهم ، عامتهم وخاصتهم ، وخاصة العلماء منهم أوالحكام أوالجماعات أوالطوائف، أوالمنظمات المحلية منها أو العالمية أو الدول والحكومات . وهذا التقويم للناس وإصدار الأحكام عليهم من ثناء بالخير أوثناء بالشر، والتعامل معهم بحسب هذه الأحكام، كلها تحتاج إلى الانصاف والعدل، ذلك أن هذا التقويم والثناء على الناس بالخير أو الشر هو نوع من الشهادة. والشهادة على الناس هى وظيفة الأمة المسلمة كما أوضح قول الله تعالى: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىٰ النَّاسِ ويَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا ). هذه الاية تدل على أنه قد انيط بالمسلمين بسبب كونهم وسطا مهمة عظيمة وهى الشهادة على الناس بالحق والعدل ، مثل ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم شهيدا عليهم بذلك . والشهادة هي العلم بالشئ ومعرفته والإخبار عنه والدلاله عليه والاحتجاج له . فالمسلمون شهداء بالحق بسبب معرفتهم به وهداية الله لهم إليه ، وبسبب إخبارهم للناس عنه وبيانهم له والاحتجاج له ، وبسبب حكمهم على الناس خيرهم وشرهم بالعدل وتقويم آرائهم وأعمالهم بمعايير الحق الذي عرفوه وآمنوا به. وقد دلت الآثار على أن شهادة المسلمين هذه حادثة وحاصلة في الدنيا ، كما أنها أيضا واقعة وكائنة في الآخرة . أما الشهادة في الدنيا فقد دل عليها ما رواه أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ . وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ . قَالَ عُمَرُ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي ، مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ . وأما الشهادة في الآخرة فقد دل عليها حديث أبي سعيد الخدري ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" يدعى نوح يوم القيامة ، فيقول لبيك وسعديك يا رب . فيقول: هل بلغت؟ فيقول نعم ، فيقال لأمته هل بلغكم؟ فيقولون ما أتانا من نذير. فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فتشهدون أنه قد بلغ ، ويكون الرسول عليكم شهيدا ، فذلك قوله جل ذكره (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) ، والوسط العدل . ولا تنال هذه المكانه العظيمة من الشهادة على الناس وتقويم أعمالهم ومواقفهم العلمية والسياسية وتصرفاتهم، إلا بأن يكون ذلك بالانصاف والعدل. وهذا هو الذي أمر الله به في الحكم على الناس ووصفهم بأوصاف فيها مدح وثناء أو فيها من ذم وإنكار، ولو كان هؤلاء الناس أعداء كافرين أوغير كافرين. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). ومما فسر به الطبري هذه الاية قوله: " يعني بذلك جل ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد ، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله ، شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم ، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم ، ولا يحملنكم عداوة قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم ، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة . ومن النماذج في ذلك التى ضربها الله لنا مثلا في القرآن حين نقد أهل الكتاب فأنصفهم ، وقال أنهم ليسوا سواء فمنهم المجرم والشرير وفيهم المحسن الخيِّر ، وأبان معايبهم ونواقصهم ولم ينس ما فيهم من خير فذكره وأشاد به . ومن النماذج في ذلك أدب النبي صلى الله عليه وسلم في التعميم والتجريد بدلا من التعيين وذكر الأسماء والأشخاص بعينهم. ومن ذلك ما رواه أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسْدٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا. رواه البخاري. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيث عَائِشَة " كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَلَغَهُ عَنْ الرَّجُل الشَّيْء لَمْ يَقُلْ : مَا بَال فُلَان يَقُول ؟ وَلَكِنْ يَقُول : مَا بَال أَقْوَام يَقُولُونَ " وتقع كثير من الجماعات الإسلامية في الخوض في وصف من لم يكن معها بكل قبيح وإعلان ذلك وإشاعته، والغض عن أخطاء من كان معهم فلا ينتقد ولا ينصح. فمن كان معهم فهو المبرأ من كل عيب ومن لم يكن معهم فهو الناقص. فليست مهمة الداعية لذع الناس وجمع عيوبهم وفضحها ، ونسيان ما لهم من فضل وما فيهم من خير ، بل مهمة الداعية الإصلاح والقول لمن أحسن أحسنت وللمسيئ أسأت صديقا كان أو عدوا وموافقا أو مخالفا . وقد ذكر مسلم في أول صحيحه تعليقا عن عائشة رضي الله عنها قالت : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم .