هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    علماء يكشفون سبب فيضانات الإمارات وسلطنة عمان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقالات: محمد أركون وعلمانية الإسلام

يغفل من يطرحون قضية العلمانية فى بلادنا أي منظور موضوعي يراعي تاريخ مجتمعاتنا وظروف احتياجاتها الحالية ، و يتجهون إلى طرح القضية من منطلق النقل الحرفي للتجربة الغربية ، و منطلق العداء الذي لا يستكين لروح الأمة وعقيدتها المتمثلة في الإسلام . إلا أن المفارقة التي لا يمكن تفسيرها ولا تبريرها ، هي أن يزعم مفكر أن بمكنته أن يدعو للعلمانية من داخل الإطار الإسلامي ، أي أن يجمع بين العلمانية والإسلام ، وهما نقيضان لا يجتمعان . وهذا ما يحاوله محمد أركون حيث يقول إنه يدعو إلى " فكر إسلامي تحريري محرر وعلماني " وهذه هي المهمة الضخمة التي يزعم أركون أنه ينهض بها ويزعم تلميذه " الصالح " أنه سيكون بها علامة فارقة في التاريخ العقلي للمسلمين . والآن فلننظر إلى الطريقة الخرقاء التي ينهض بها أركون بهذه المهمة الخارقة .
إنها طريقة تدل على جهل أكيد بأوضح أولويات الدين ، ولكن الجهل بأولويات الدين تتحول عند أركون إلى إنجاز حاسم حيث يقول " وهكذا لا أجد كتاباً واحداً عن الإسلام مكتوباً من قبل رجل غربي ويلفت الانتباه لهذه الحقيقة التاريخية " . ولربما صدق أركون فى هذا الادعاء ، إذ أنه ربما لم يوجد كتاب قط غرق صاحبه في الجهل التام ، إلى حد الزعم بأن هذا الهراء الذي أتى به أركون يشكل حقيقة تاريخية حاسمة . والآن فما هي هذه الحقيقة التاريخية الحاسمة التي اكتشفها هذا الكاتب ؟ !
حديث أركون عن جهود النبي - صلى الله عليه وسلم -
يتحدث أركون عن جهود النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمناسبة لم يصل على النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ولو مرة واحدة في كل ما كتب ، " فالنبي يبلور الفضاء السياسي في الوقت الذي يبلور فيه الفضاء الديني ، وعندما ينقل القبلة من القدس إلى مكة ، وعندما يفرض يوم الجمعة كيوم عطلة واحتفال جماعي كنوع من المنافسة المحاكاتية لرمزانية يوم الأحد أو السبت لدى المسيحيين واليهود ، وعندما يقيم مسجداً في المدينة ويمنع "غير المؤمنين " من دخول المسجد ، وعندما يعود إلى مكة ويدمج في الرمزانية الإسلامية الجديدة كل الطقوس والدعائم المادية لشعيرة الحج الوثني السائد سابقاً في الجزيرة العربية ، وعندما يعدل ويرمم قواعد الإرث واستراتيجيات الزواج السائدة في الوسط القبلي ، إلخ ، عندما يقوم بكل ذلك ، فإنه يؤسس تدريجياً نظاماً سيميائياً يبطل النظام السيميائي الذي ساد في الجاهلية " . هذا هو الرفث الذي عاث فيه محمد أركون . وهذا هو اجتهاده الفذ الذي يعلمن به الإسلام !
إذا صرفنا النظر عن سوء الأدب في الحديث عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، والزعم بأنه كان يقوم بمنافسة محاكاتية لليهود والنصارى ، وهي وحدها تهمة تكفي لتفسيق مسلم عادي ، دع عنك عالماً يزعم أنه مجدد غيور على دين الإسلام ، إذا صرفنا النظر عن ذلك كله فلننظر كم في تلك الفقرة الوجيزة التي اقتطفناها آنفاً من جهل ومغالطات . إن الكاتب يزعم أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، هو الذي نقل القبلة من القدس إلى مكة ، وكأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، هو الذي فعل ذلك من تلقاء نفسه ولم يتلق الأمر من الله تعالى على ذلك . ويسوق الكاتب هذه المسألة ليلقي في روع القارئ أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، إنما فعل ذلك في سياق الصراع السياسي حتى يمكن لنفسه كحاكم دنيوي ضد أهل الكتاب في القدس . وهذا انطباع خاطئ بالتأكيد .
وأما حقيقة الأمر فإن المسلمين كانوا يصلون تجاه البيت الحرام نحو ستة عشر أو سبعة شهراً بعد الهجرة ، وبعد ذلك أمروا بأن يصلوا تجاه بيت المقدس ، وقد كان ذلك امتحاناً عصيباً للمسلمين بنقلهم من التوجه إلى البيت الحرام ، الذي ألفوه إلى بيت المقدس الذي كان في يد أهل الكتاب ، وفي هذا الظرف انطلقت ألسنة اليهود وأشبعت المسلمين هزءً وسخرية ً ، وزعمت بأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قد وجه أتباعه بالانتقال إلى قبلة أهل الكتاب في القدس ، و قالوا كيف ينتقد محمد ديننا و هو يتوجه فى صلاته إلى قبلتنا ؟ وشق ذلك على المسلمين الذين ظلوا يعظمون البيت الحرام في مكة حتى في الجاهلية ويجعلونه محط مجدهم القومي ، وظل النبي ، صلى الله عليه وسلم ، يقلب وجهه في السماء من غير أن يسأل الله تعالى أو يستفسر حياءً وتعظيماً لأمر الله عز وجل . وظل كذلك حتى نزل قول الله تعالى يأمر المسلمين بالتوجه في صلاتهم من جديد إلى البيت الحرام : " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلةً ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره " وهكذا فالأمر أمر قرآني وتوجيه إلهي كريم ، ولم يكن أمر حسابات سياسية دنيوية اتخذها النبي ، صلى الله عليه وسلم ، كما زعم محمد أركون .
ووراء ذلك كان امتحانٌ إلهيٌ و تطهيرٌ وصقلٌ لنفسية المسلم وتخليصها من أوشاب العصبية القومية حتى تعتصم بمحض التوحيد ، وكما يقول في أجمل بيان صاحب ( الظلال ) : " ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله ، وتجريدها من التعلق بغيره ، وتخليصها من كل نعرة ، وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرةً ، مجرداً من كل ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية على العموم ، فقد نزعهم نزعاً من الاتجاه إلى البيت الحرام ، واختار لهم الاتجاه - فترة - إلى المسجد الأقصى ، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية ، ومن كل ما كانت تتعلق به في الجاهلية وليظهر من يتبع الرسول اتباعاً مجرداً من أي إيحاء آخر ، اتباع الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة ، ممن ينقلب على عقبيه اعتزازاً بنعرةٍ جاهلية تتعلق بالجنس ، والقوم ، والأرض ، والتاريخ ، أو تتلبس بها في خفايا المشاعر وحنايا الضمير أي تلبس من قريب أو بعيد " . هذا ما كان من أمر التوجه إلى الكعبة " . وبعيد عن الصواب كل ما ادعاه محمد أركون .
وأما اتخاذ يوم الجمعة عطلة واحتفالاً جماعياً ، فأقل المسلمين علماً يعلم أن يوم الجمعة هو يوم عبادة جماعية ، لا يوم احتفال جماعي ، ولا يوم عطلة ، والله تعالى يقول في محكم تنزيله : " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض و ابتغوا من فضل الله " فلا إشارة هنا إلى عطلة ولا يحزنون ، بل الانتشار فى الأرض وابتغاء الرزق .
لقد التبس الأمر على محمد أركون الذي ينصب نفسه مؤرخاً إسلامياً ، فخلط ما بين التقليد الذي يجعل من يوم الجمعة يوم عطلة ، وبين الإسلام نفسه الذي لم يدع إلى ذلك ، بل دعا إلى الانصراف إلى العمل بعد صلاة الجمعة مباشرةً ، " فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض و ابتغوا من فضل الله " ، وأكثر من ذلك فقد اتجه أركون إلى أن ينسب ذلك إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، نهيه عن الصلاة في مسجد ضرار ، مع أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قد منع هو نفسه من ذلك بقرآن . وفي ظن أركون أن المسألة كانت مسألة تنافس سياسي ، لا مسألة نفاق وفساد عقدي تلبس أولئك النفر الذين جعلوا من ذلك المسجد المزيف " مسجد الضرار " قاعدة عقائدية وفكرية لتشويه الإسلام ، مثلما تفعل بعض مراكز الاستشراق اليوم !
وتبلغ بأركون القحة إلى حد القول باستيعاب الإسلام للتراث الوثني للحج ، وأن ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أضاف التراث الوثني للحج إلى الإسلام ، وما سبق أن أوردناه من تحويل القبلة يكفي للرد على ذلك . ولكن جهل أركون ، الذي يزعم أنه مؤرخ ، هو الذي قاده إلى إغفال أن الحج تراث إبراهيمي حنيفي عريق ، حيث كان سيدنا إبراهيم عليه السلام هو أول من أذن في الناس بالحج ، وكان الطواف والتضحية إحياءً لبعض سيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام ..
إن الرد على بعض هذه الاتهامات ، يسمح لنا بأن نتجاهل بقية ترهات أركون . ولكن يبقى المغزى أن أركون يحاول علمنة الإسلام متذرعاً بأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قد أضاف إلى الإسلام ما ليس فيه وبالتالي يمكننا أن نضيف إلى الإسلام ما ليس فيه . ولو كان أركون ذكياً بالقدر الكافي لأستند إلى حجج أخرى أيسر من هذه تتصل بأمر المصالح المرسلة والاستصحاب ، ولكن يبدو أن باع الدكتور في الفقه وأصوله قليل جد قليل ، ولذلك كان بئيساً جداً في مسعاه إلى علمنة الإسلام .
المنهج والقيم :
ان آفة أركون وشاكلته من المفكرين الجدد تكمن في تشبثهم بمناهج النسبية والمنطقية الوضعية ، والنظر من خلالها إلى الدين كظاهرة اجتماعية مثل أي ظاهرة اجتماعية أخرى ، ومن هنا يجنح محمد أركون إلى وصف الإسلام بأنه أسطورة أو رمز اجتماعي . كما يجنح أركون إلى أن يساوي بين الأديان جميعاً بلا أدنى امتياز للإسلام عليها ، ويقول إنه محايد تجاه الأديان كلها ، بما فيها الإسلام : " أنا أقول على العكس لا يوجد دين متفوق بشكل مسبق على دين آخر " ، وهذا حياد غير معهود من مسلم صحيح الإسلام ، يقرأ في قرآنه : " إن الدين عند الله الإسلام " . هذا الحياد يواجه به بعض مثقفي المسلمين ، تهمة التعصب التي يمكن أن تلقى عليهم من قبل الأكاديميين الغربيين . وهؤلاء المثقفون المسلمون " المنهزمون " ينسون أن سائر الغربيين لا يدارون تعصبهم لثقافاتهم ، ولا يكادون يدارون استخفافهم بثقافات الآخرين .
وثمة منبع آخر لهذا الحياد " العلمي " المزعوم وهو حقل العلوم " الإمبريقية " وعلى رأسها العلوم السلوكية . تهدف هذه العلوم أول ما تهدف إلى عزل القيم عن مناهج البحث ، وتحاول أن تحدد مجال أبحاثها في الأسباب والنتائج المثالية العامة التي تيسر عملية التمييز والفحص والتصنيف والتعميم ، وكما يقول " ماكس فيبر " فإن مثل هذه العلوم لا يمكن أن تكون في موضع تخيرك فيه بأن تكون اقتصادياً ليبرالياً أو اشتراكياً ، أو ديموقراطياً ، أو دستورياً ، أو ماركسياً ، ولكنها تخيرك عن نتائج سلوكك ونتائج القيم التي تحملها عندما تُترجم عملياً في عالم الواقع المُعاش ..
والغريب أن " فيبر " هذا الذي دعا إلى فصل العلوم الاجتماعية عن القيم ، وتبعه في ذلك أركون ، قد انقلب عن تلك الدعوى ليمارس حمل القيم والأفضليات الشخصية في ذات الدراسة التي دعا فيها لاستبعاد القيم عن البحث ، وذلك عندما عاد في مؤلفه الضخم عن " سوسيولوجيا الدين " للحديث عن ظواهر معينة ذكر أنها أهم من ظواهر أخرى ، وعن حضارات معينة ذكر انها أهم من حضارات اخرى ، وأديان أهم من أديان أخرى . ولم يكن " فيبر " آخر من انقلب على منهج النسبية ، بل انقلبت المائدة أخيراً على العلوم السلوكية برمتها ، وذلك بتصاعد مدرسة ما بعد العلوم السلوكية ، التي عادت لتؤكد على القيم ، وعلى نقد خواء العلوم الاجتماعية بلا قيم .
أما أركون الذي يزال يقلد قديم أوربا ، ولا يزال يخرج لنا في كل عام كتاباً قاحلاً يذكرنا بهذا المنهج النسبي اللا قيمي المندرس ويذكرنا بأن العلوم السلوكية التي تركز على مناهج البحث ، أكثر مما تركز على مضمون البحث واتجاهه وجدواه . كما يقول الفيلسوف ، إريك فوغلين : " في العلوم الاجتماعية يعتبر ذا مغزى كل ما يساهم في الوصول إلى الحقيقة . والقضايا الفكرية المختلفة تتطلب وسائل مختلفة للبحث عنها ، وليس ثمة داع إلى التزام وسيلة بينها . ومدى مناسبة وجدارة المنهج العلمي تُقاس فقط بمدى إفادتها لغرض البحث ، ولا تُقاس قيمة البحث بقيمة المنهج الذي استخدم فيه " هذا ما يقوله أولو النهى . أما أمثال أركون فلا يزالون على اعتقاد دوغمائي راسخ بأهمية المنهج ، حتى وإن لم يقدم إفادات علمية ذات شأن . لذلك تراهم لا يملون من تذكير قرائهم بمناهجهم البحثية ، ظانين أن التذكير المتكرر بالمنهج ربما أغنى عن عمق الدراسة ، أو ربما أغنت عن ذلك المفردات والتصورات الغربية المنحوتة بعيداً عن أي ميزان لغوي ، وذلك مثلما يتبدى في عبارات أركون عن " الرؤيا التاريخوية " , و " مسالة اللا مرجوعوية " و " التفكير العلمانوي " و " التناص والنصانية " ، وما أشبه ذلك من تصورات السفسطة والزيف العلمي .
ان التنفخ الغث بالمنهج - كما يقول الشيخ الجليل محمود محمد شاكر - لا يجدي ، وكذا فإن الاستخدام الكثيف للمصطلحات لا يمكن أن يوهم القارئ الحصيف بجدراة المادة الفكرية الخاملة ، أو وجود شئ ذي طائل من وراء المعنى السطحي . ولكن هذه العدة أصبحت مع ذلك عدة أركون وعدة تلاميذه في غزوتهم الجديدة - بأسياف الخشب - على معاقل الإسلام الصلدة .
إن كتابات أركون وكتابات تلاميذه ما هي سوى بالونات خداع جديدة لمراكز الاستشراق التي تناور من أجل تضليل المسلمين وعلمنة الإسلام ، وإماتة الضمير الديني في المجتمعات الإسلامية وتذويب الإحساس الإسلامي بالتميز والرفعة ، وعلى حد تعبير الأستاذ محمد حسين زروق فإن هؤلاء " لا يتوقون إلا إلى أن يروا مدناً عربية يختلط فيها السكارى والشاذين بالمتدينين ، ويتعايش فيهما السلفيون مع المرتدين " ، وليس بعيداً عن توقعات الأستاذ زروق ، ما ذكره الأستاذ هاشم صالح - أبرز تلاميذ أركون - من أنه خرج يوماً بعد أن فرغ من حوار مطول أجراه مع أركون إلى شوارع باريس وحاناتها متخيلاً أنه " بعد أربعين أو خمسين سنة سوف توجد مدينة عربية واحدة تسمح بالمناقشات والمناظرات ، بحرية الفكر والحوار ، وتسمح بالشراب " أو عدم الشراب ! ! " في حانات تشبه هذه الحانات التي تتلألأ أضواؤها بين الحين والحين أمام عيني على طريقي " . إن هذا هو الهدف إذن وقد أفصحوا عنه أخيراً ، وهو هدف قيادة العالم العربي إلى طريق التحلل الفكري والخلقي ، ولكن هيهات أن يتأتى ذلك في زمان الصحو الإسلامي وأوان تفتح الأمة على أضواء رسالتها الكونية .
هل هو مفكر إسلامي :
يضغط محمد أركون دائماً كما يضغط موجهوه من المستشرقين وتلاميذه من الأكاديميين والصحفيين ، على أنه مفكر ينطلق من داخل الفكر الإسلامي ، وبالتالي فهو مفكر مسلم ، ومن ضمن التيار الإسلامي . الفرق فقط هو أن محمد أركون مجتهد ، وسواه من المفكرين الإسلاميين تقليديون و " لا تاريخيون " . إن محمد أركون كما يقول هو عن نفسه يحاول أن يقوم بثورة أبستمولوجية داخل الفكر الإسلامي نفسه ، ثورة حقيقية ، بحيث ، كما يحلم تلميذه هاشم صالح ، سوف تشطر تاريخ الفكر الإسلامي ، وبالتالي العربي إلى شطرين : ما قبل أركون وما بعده.
إن محمد أركون لا يعتقد أنه مفكر إسلامي فقط ، بل يعتقد أنه المفكر الإسلامي الوحيد الجدير بهذا اللقب . ولذلك فهو يجرد فقهاء الإسلام من النزعة العلمية " أو العلموية " كما يقول . كما يتهمهم بالسطحية والانتهازية ، وبينما يسمي أركون أحد كتبه في عنوان جانبي أنه كتاب " نقد واجتهاد " ، فإنه يحرم حق الاجتهاد هذا على فقهاء الإسلام العظام وأئمته ، فهو عندما يذكر ابن تيمية مثلاً يسخر منه قائلاً إنه ملقب بشيخ الإسلام ، كما لا يفوته أن ينتقص من آثار الطبري وابن كثير ، وهذا الذي يحتكر لنفسه حق الاجتهاد تتعدى سطوته حق انتقاص الأئمة ، إلى حد البحث عن وسائل لتحجيم نفوذ القرآن ، واختلاق الشبهات من حوله ، والتشكيك حتى بأثره التاريخي في المجتمعات الإسلامية ، فهو لا يهمل مناسبة إلا ويكرر في غير ما ملل أن أحكام القرآن لم تمس قطاعات واسعة من المجتمعات الإسلامية أو أنها لم تركز أو لم تتناسب مع الأعراف والقوانين المحلية السابقة للإسلام . ويتخطى محمد أركون هذه المرحلة إلى مرحلة أخطر هي مرحلة التشكيك في سلامة النص القرآني المتكامل المتداول بين المسلمين اليوم ..
التشكيك في المصادر :
وللتشكيك في القرآن يستخدم محمد أركون بعض المناهج التاريخية واللغوية . وفي حين افاد أحد المستشرقين عبر دراسة تاريخية ناقدة رافقتها اليقظة العقلية والضميرية معاً أن الحديث الضعيف في الإسلام ، يعتبر من حيث منهج التحقيق التاريخي أصح نصاً من كامل نصوص التوراة والإنجيل المستخدمة اليوم ، فإن محمد أركون يحاول أن يعكس هذه النتيجة ، وهو واثق من أن القارئ الأوربي حينئذٍ سيسمع له هو وينصرف عن النتيجة السابقة التي قررها ذلك المستشرق المنصف ، كيف لا ومحمد أركون يذكر قارئه دائماً بأنه مفكر إسلامي ، ينطلق من داخل فضاء الفكر الإسلامي وبالتالي فلا ثمة شبه تحوم من حوله كما تحوم الشبهات عادةً حول المستشرقين ! ..
وقف محمد أركون في إحدى محاضراته في باريس يتحدث بعنوان " العلمنة والدين " فحدث سامعيه بهذا المعنى ، ونص على أن تمحيص القرآن وتأكيد سلامته أمر متعذر ، ولئلا نتهم التصرف المخل بأقواله تلك فها هو نص حديثه . يقول أركون : " ولكن الشئ الأساس الذي زاد في تركيز الانتباه عليه هنا ، أن العبارات القرآنية ، والعبارات التي تلفظ بها يسوع قد تجسدت في لغة بشرية ، وبالتالي فقد تفاعلت مع التاريخ الأرضي الواقعي ، ولكن ينبغي ألا ننسى أبدا ًفي هذا الصدد أن التواصل اللغوي كان شفهياً في البداية ، وفي كلتا الحالتين ، وكان هناك تلاميذ وحواريون ، يصغون لكلام المعلم . ولا يهم هنا ما تم توصيله أو عدم توصيله ، أي ما فقد في أثناء الطريق، المهم هو أنه كان هناك رجال يستمعون لرجل آخر ، يتكلم لغتهم البشرية بحد ذاتها وكانوا يحفظون عن ظهر قلب أو في ذاكرتهم ما يسمعونه بشكل لم نعد نحن قادرين على تمحيصه أبداً بواسطة المنهج التاريخي . فما حصل يخرج عن إرادتنا أو عن قدرتنا التمحيصية في كلتا الجهتين ، على الرغم من كل ما يقوله التراث الأرثوذكسي أو ما يزعمه بهذا الخصوص " .
في دراسته السابقة من النص درج محمد أركون على التفريق " المنهجي ! " بين ما يسميه بالخطاب القرآني الشفهي ، وبين ما يسميه بالمدونة النصية الرسمية المغلقة التي أشرفت على إعدادها سلطة الدولة ، كما يقول ، وهي " الصحف " التي اعتمدها الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، وإصرار الكاتب على هذه التفرقة ، والحرص على إدراج ذالك في صلب كل نص مكتوب له ، كأنه يشي بأن ثمة فرقاً من نوع ما بين النصين ، وأن ثمة جزءً ما قد سقط من الخطاب القرآني " الشفهي " ولم يسجل في الصحف المحفوظة لدينا اليوم!
ذلك أمر يحسه القارئ لنصوص محمد أركون المختلفة ، لأنه يتعمد الإيحاء به من بعيد ، أو إيداعه لا شعورياً في ضمير القارئ ، ولكنه هنا في حديثه للجمهور الفرنسي كان أكثر صراحة في التنبيه على ذلك الأمر . أما هاشم صالح ، وهو حواري محمد أركون الأثير وشارح نصوصه ، فقد كان أكثر مباشرة حينما عقب على النص الماضي قائلاً إن التأكيد على صحة النص غير ممكن ذلك لأن الوثائق الخاصة بتلك الفترة معدومة ، أو اُتلفت بسبب الصراع السياسي الهائج والعنيف ، فما وصلنا عن تلك الفترة الأولية من وثائق موثوقة قليل جداً " . إذن فالمسألة هي مسألة تشكيك صريح في موثوقية القرآن وقطعية تواتره أو على الأقل القول بأنه لا يوجد يقين أو إجماع على سلامة " المصحف " كما يدعي المفكر الذي يصر على تسمية نفسه بالمفكر الإسلامي محمد أركون !
هذا هو المنهج المتبع في التشكيك في سلامة القرآن . منهج الاستدلال بالضد ، فبدل إعطاء الدليل على عدم صحة القرآن ، يقال إن ليس ثمة دليل على صحة القرآن ، وهو منهج غير منطقي وغير علمي بالتأكيد . والمنهج الأسدُّ - والمستحيل أيضاً - هو أن يثبتوا بالأدلة القاطعة أن تحريفاً ما حدث لنص القرآن الكريم ! !
ولكن هيهات :
فالتشكيك في سلامة ورود وتداول النص القرآني الكامل ، أيسر منه كما يقول أبو الأعلى المودودي ، القول بعدم وروده وحياً من الله تعالى إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، إن المودودي يتحدى أصحاب المنهج التشكيكي التاريخي هؤلاء قائلاً : إن على هؤلاء أن يختبروا مئات المصاحف التاريخية المحفوظة على شكل مخطوطات ، ترجع إلى عهود مختلفة ، وهي متاحة اليوم للقراء في أمهات دور الكتب العالمية ، وليقارنوا أولاً بين هذه المخطوطات عسى أن يجدوا فيها أي اختلاف ، فإن لم يجدوا فالفرصة متاحة لاختبار آخر ، دعهم يحصلون على نسخة من المصحف الذي يباع في مكتبات الجزائر في غرب العالم الإسلامي مثلاً ، وليحصلوا على نسخة منه تباع في ماليزيا أو إندونيسيا في أقصى شرق العالم الإسلامي ، فإن وجدوا النسختين متطابقتين مع النص العثماني القديم ، فليجأوا إلى اختبار ثالث ، دعهم يأتوك بنسخة من القرآن من أي مكان في العالم ، ثم ليذهبوا بتلك النسخة إلى أي حافظ للقرآن الكريم من تلك الملايين العديدة التي تحفظه ، وليسألوه ليتلوه لهم عن ظهر غيب ، فحينذاك سيرون أن تلاوته تتطابق حرفاً حرفاً مع المصحف المطبوع من البداية إلى النهاية . وكفاهم بذلك دليلاً لا ينقض على صحة تداول القرآن الكريم من لدن عهد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، إلى العصر الحالي الذي تثار فيه هذه الشبهات الترهات.
ومع تشكيك أركون في صحة ورود المصحف ، فهو يورد تشكيكاً آخر في صحة الوحي نفسه . إن محمد أركون يريد أن يفهم الوحي كما يقول : " بصفته ظاهرة لغوية وثقافية قبل أن يكون عبارة عن تركيبات ثيولوجية أو لاهوتية " ومعنى ذلك أنه يريد أن يفهم الوحي باعتباره ظاهرة لا دينية ، أو لا تتعلق بالتعاليم الدينية ، " وإنما ظاهرة حياتية هامة يدرسها ويقرر فيها علم اللغة أو علم الاجتماع ، ويحاول أن يفهم وظائفها الآيدولوجية والنفسية ، ثم محدوديتها أو عدم مطابقتها وصحتها من الناحيتين المعنوية والأنثربوبلوجية" . فالوحي الذي ليس هو الوحي نعرفه نحن المسلمون ، وإنما وحي له معنى ومفهوم آخر !
إن الوحي الذي فهمه محمد أركون ، له معنى وتحديد فضفاض واسع : " وتحديدنا الخاص الذي نقدمه عن الوحي يمتاز بخاصية فريدة ، هو أنه يستوعب بوذا وكونفشيوس والحكماء الأفارقة ، وكل الأصوات الكبرى التي جسدت التجربة الجماعية لفئة بشرية ما من أجل إدخالها في قدر تاريخي جديد وإغناء التجربة البشرية عن الإلهي ، إنه يستوعب كل ذلك ولا يقتصر فقط على أديان الوحي التوحيدي ، وعلى هذا يمكننا أن نسير باتجاه فكر ديني آخر غير السائد ، أقصد باتجاه فكر ديني يتجاوز كل التجارب المعروفة للتقديس أو للحرام بالثقافة الإسلامية الكلاسيكية " ، وفي هذه الجملة تنطوي كل نظرية محمد أركون . فالهدف هو خلط المصادر ، أي خلط الديني باللا ديني من ناحية أولى ثم التسوية ما بين أنبياء التوحيد ، وما بين بوذا وكونفشيوس والحكماء الأفارقة وغيرهم ، وتجد فرق الاستغناء عن المصدر الإلهي للوحي والتوجيه . هذا هو التجديد المزعوم للمفكر " الإسلامي " الزعيم محمد أركون . وفي سياق آخر في هذه الدراسة سترى أي معنى مشبوه يقصدون إليه من خلط مصادر التوجيه الديني ..
في هذا الإطار المطاط جداً ، أو في هذا المجال المفتوح بلا تأطير يرى محمد أركون أن بنى القرآن ةشكلها يشير إلى البحث عن فكر ديني آخر غير السائد كما يقول وقد صدق في ذلك وبهذا يكون فكره فكراً دينياً " لا علمانياً بالأحرى " غير الإسلام . وبهذا يكون محمد أركون مستشرقاً مثله مثل سائر المستشرقين ، وتبطل دعواه بأنه يختتلف منهجياً عن المستشرقين الكلاسيكيين ! !
إن الوحي في اللغة له معان مختلفة ، ولكنه في الشرع يعني خطاب الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الملك . والقرآن عند المسلمين هو نص كلام الله تعالى الموحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس فيه حرف واحد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو من كلام البشر ، وترد كلمة " قل " دائماً في سياقات القرآن لتأكيد دلالة هامة جداً وهي أن هذا القول منقول عن طريق النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وأنه ليس له منه شئ ، وقد أعفي النبي صلى الله عليه وسلم حتى من مجرد حفظ الوحي ، عندما حرك لسانه به ليحفظه ، كما هو معروف : " لا تحرك به لسانك لتعجل به ، إنا علينا جمعه وقرآنه ، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " ، وهذه كلها مسائل إيمانية أولية ، لا يسع المسلم أن يتخطاها ، ويكون مسلماً بعد ذلك ، بَلْه أن يكون مفكراً إسلامياً ! !
تجاوز الشريعة :
ولكن محمد أركون يتخطى كل ذلك ويتخطى الشريعة الإسلامية في مقرراتها الحاسمة ، وينصب من نفسه مع ذلك مفكراً " إسلامياً " أو المفكر الإسلامي الأوحد . إن محمد أركون - ابتداءاً - يرفض " أن نطلق تلك الخطابات التبجيلية من أجل حماية قانون ذي أصل إلهي ، وبالتالي الزعم بأنه لا يتغير ولا يتبدل " أو الاعتقاد بأنه يتفوق على كل القوانين التي بلورها البشر في أماكن ومجتمعات أخرى . ومن هذا المنظور يتحدث أركون باستخفاف عن الآيات التي تتحدث عن تعدد الزوجات والطلاق والإرث وتفوق الرجال على النساء والحجاب والنسب ، وفي اعتباره أن هذه الموضوعات حسمتها الحضارة الحديثة ، وأنه من : " التافه أيضاً أن ننخرط في مناقشات طويلة حول هذه الآيات " ..
هذا على مستوى فقه الأسرة والعلاقات الشخصية والمقصود النهائي من وراء هذه العبارات نسف فقه الأسرة بأكمله ، وتبني مبادئ الزواج المدني ، وإن كان أركون لا يصرح بذلك وإنما يلمح به تلميذه " الصالح " حيث يقول في الشروح : " وإذا تفككت بنى القرابة وعلاقات الزواج السائدة في مجتمعاتنا ، فإن ذلك يعني بداية التحول وتغيير القيم التقليدية الراسخة ، وتشكيل نسيج جديد للمجتمع المدني يصهر فئاتها بعضها بالبعض الآخر . إن هذا هو الاجتهاد الشرعي والإضافة النقدية الجديدة التي يقدمها أركون وتابعه ، وبالطبع فمن العبث مناقشة هذه الدعوى الفرية أو الرد عليها من منطلق النظر الشرعي . فالأمر هنا أوضح من شمس النهار . وما فصَّل القرآن االقول أكثر مما فصَّل في فقه الأسرة ، وعلاقات المجتمع والنظام الاجتماعي الإسلامي ، وذلك على غير ما جاء في القرآن في شأن النظامين السياسي والاقتصادي حيث أجمل القول في عموميات كلية وجُعلت تفاصيلها مناطاً للاجتهاد المستمر . إن نصوص فقه الأسرة نصوص قطعية لا تتبدل ، ولم يجرؤ الاستعمار الغربي وهو يتيه بجحافله على أرض الإسلام على إلغاء تلك القوانين ، ولذلك فمحمد أركون وتابعه والموجة الاستشراقية عموماً ، أعجز من أن تهز قناعة المسلمين في شرائعهم في النظام الاجتماعي وقد زالت سلطة الاستعمار !
حقوق الإنسان :
وإذا انتقلنا من فقه الأحوال الشخصية إلى الفقه السياسي ، فإن ليبرالية محمد أركون تصحبنا كذلك ، وكما رأينا سابقاً فمحمد أركون لا يسلم بكل شئ في الإسلام حتى لو كان قاطعاً بالنص القرآني أنه لا يخضع أبداً لأي من الصيغ السائدة للإسلام وذلك " لأنها منقوضة جميعها من قبل الحداثة الفكرية التي أتبناها " . وبهذا المقتضى فمحمد أركون نوع آخر جديد من المسلمين . وآية ذلك أنه يقدم نفسه للغربيين قائلاً : " أنا صوت يرتفع من داخل الإسلام لكي يقول بأن هناك طريقة أخرى لمقاربة الظاهرة الدينية اليوم .. أنا صوت من بين أصوات أخرى تحاول أن تعبر عن نفسها وتمثل مكانتها في المجتمع وفي أوساط الباحثين العلميين ، وذلك من خلال مناقشة مفتوحة ترغب في أن تكون ديموقراطية بالمعنى الفكري والعقلي للكلمة.
وهذه الديموقراطية الليبرالية الأركونية ديموقراطية مرنة تطوع المفاهيم الإسلامية معها حسبما تشاء ، ولا تعترف بأي مفهوم أو اعتقاد ثابت أو ملزم في الإسلام . يقول محمد أركون : " إن الفهم لا التحديد القسري المغلق الذي نحاول تشكيله عن الظاهرة الدينية ليس جوهرانياً ولا ماهوياً أبداً " ، وهذا الكلام يبدو بالنسبة لنا نحن قراء العربية كلاماً غير مفهوم على نحو دقيق . فالمصطلحات المستخدمة هنا مثل " جوهرانياً " و " ماهوياً " مصطلحات لا نتعامل بها في لغتنا التي نعرفها ، بل ينبو عنها ذوفنا اللغوي ، وبها يضيع المعنى أو جل المعنى . ولكن لحسن الحظ فإن الشارح الذي يبدو أكثر حماسةً وأركونية من أركون نفسه ، يتدخل في الوقت المناسب ليقرب هذا المعنى إلى أفهامنا . يقول هاشم صالح : " إن المقصود بالجوهراني والماهوي هنا الثابت الذي لا يتغير ولا يتحول . إنه التصور الذي يرسخه التراث الأرثوذكسي في كل البيئات التقليدية ، فإذن أركون يختلف عن المسلمين الأرثوذكس - وهذه الكلمة من استعمالاتها تعني المسلمين الحنفاء المستقيمين والمحافظين - في أنه لا يلزمه الثابت في الدين . فكل شئ قابل لأن يكون متحولاً في الفهم الأركوني ..
أما الثابت الذي يبقى على ثباته فهو لا يناسب العصر الحديث . ولذلك يعتقد محمد أركون أن الشرع الإسلامي الأصيل ليس فيه حلاً لإشكاليات الحياة المعاصرة . والأولى هنا أن نعمد إلى استيراد الفقه القانوني والسياسي الغربي . وانظر كيف يتهكم محمد أركون من الإعلان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان الذي اُعلن في 19 / 9 / 1981 م في اليونسكو قائلاً : " إن الكثير من مواده قد جاءت تقليداً أو نقلاً حرفياً لمواد حقوق الإنسان الذي أعلنته الثورة الفرنسية في سنة 1789 م ، وإن في ذلك نوعاً من " المنافسة المحاكاتية " . واتهم الأساتذة الذين صاغوا الإعلان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان بأنهم غطوا مواد حقوق الإنسان الغربي " بمفردات وصياغات إسلامية لكي يخفقوا منشأها الأجنبي ، وهكذا ففي اعتقاد أركون أن حقوق الإنسان مسألة غربية صرفة ، وإن الذي يتحدث عنها من وجهة نظر إسلامية فإنه لا يعدو أن يستعير فكر الغرب ويغطيه بأثواب إسلامية - ولذلك رفض أركون أن يتحدث بعنوان : " أصل حقوق الإنسان في الإسلام " عندما دُعي لمحاضرة بهذا العنوان في أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية بباريس ، وقام بتعديل العنوان حتى لا يوحي بوجود أصول إسلامية لحقوق الإنسان ، ثم لكيما يؤكد لسامعيه أن المسلمين لا صلة لهم بحقوق الإنسان . قال عن الإعلان الإسلامي العالمي عن حقوق الإنسان : " لقد اُستقبل هذا الإعلان من قبل المسلمين بنوع من الارتياب والشك " .
وكعادته في التعالم وفي تنصيب نفسه مجتهداً فوق المجتهدين ، يطرح أركون ههنا مسألة منهجية ، فيدعي أن القانون الإسلامي لكيما يتسق مع حقوق الإنسان يجب أن " يهدف أصلاً إلى تجديد التفسير التقليدي ويطرح بالتالي مشكلة قراءة كل تاريخ تشكل ما ندعوه بالقانون الإسلامي - أي الشريعة . فهذه القراءة التاريخية المحضة لا تزال تصطدم حتى الآن بعقبات سياسية وإبستمولوجية ، وذلك لأن القانون الرئيسي لا يزال متصوراً وكأنه من أصل إلهي ولا علاقة له بالبلورة التاريخية التي قام بها البشر " . ومعنى كلام أركون هذا أن قراءة القانون الإٍسلامي يجب ألا تركز على النصوص القرآنية وحدها ، أو إلى تفسيراتها التقليدية ، بل يجب أن نقرأها قراءة تاريخية مصطحبة معها الأدبيات الفقهية التي سطرها البشر غير المقدسين . وأما الهدف من وراء ذلك فهو إسناد أصل القوانين إلى البشر ، لا إلى الله تعالى ، وبالتالي تكتمل عملية سحب القداسة التي تتمتع بها القوانين الإسلامية بحكم مصدرها الإلهي ..
هذه الحيلة " المنهجية " التي يحلم بها أركون حيلة ساذجة ، فنحن نعلم جهود الفقهاء الواسعة في الاجتهاد واستنباط الأحكام لكل حالات الحياة المتجددة التي تواجه المسلم في كل عصر ، وأي مطلع على المكتبة الإسلامية يعرف مدى سعة ذلك التراث الفقهي الزاخر الذي استخرجه الفقهاء " البشر " المسلمون ، ولكن شيئاً من ذلك لا يقود إلى الاعتقاد بأن القانون الإسلامي ذو أصل بشري ، إنما أركون وحده يسرح في أحلامه التي يوحي له بها " منهجه " المصطنع ، ليظن أن بإمكانه اقناع المسلمين بأن قوانينهم وشرائعهم هي ذات أصل بشري لا إلهي في حقيقة أمرها ! . والغريب أن أركون قبل أن يحكم هذه الحيلة جيداً ، ينساها ليقع مع عجلته وغفلته في تعارض تام معها ، إذ يعود ويعترف بوجود هذه القراءة التاريخية التي أنكرها قبل هنيهة . إنه في هذه اللحظة يريد أن يدعم رأي الرئيس التونسي السابق " بورقيبة " التي سبق وأن تجرأ على أحكام كثيرة في القرآن ، منها بعض أحكام الميراث . يقول أركون : " لتوضيح هذه النقطة أضرب لكم المثال التالي : عندما أراد بورقيبة إصلاح القانون المتعلق بالإرث اصطدم فوراً بمعارضة شعبية واضطر للتراجع - وليس السبب فقط هو أنه يوجد نص قرآني صريح بهذا الصدد يقول " أن للذكر مثل حظ الأنثيين " وإنما لأنه يوجد في القانون الإسلامي أيضاً فرع كامل عن مشاكل الإرث وأحكامه ، من إنجاز الفقهاء " ..
وفي هذا النص القصير يمكن للقارئ أن يلاحظ الصفاقة البالغة في الحديث عن إصلاح قوانين الله تعالى ، فكأن الله عز وجل الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم ، يعجز عن وضع قوانين تسير حياته حتى ينبعث لإصلاحها أمثال بورقيبة وأركون . وليلاحظ القارئ أيضاً الخطأ في إيراد نص الآية من قبل هذا الذي يطرح نفسه مجدداً وفقيهاً ، ثم ليلاحظ من قد ينخدع بالإدعاءات المتهجمة تناقض وتخبط أركون وإثباته لما سبق وإن نفاه قبل قليل ! وإزاء ذلك يحتار المرء هل يحتاج المسلم إلى كل هذا القدر من الإدعاء والتشبث بالمنهج والتجديد حتى يدرك مفاهيم وقوانين حقوق الإنسان في الإسلام ؟ !
إن المسلم الذي يتدبر قرآنه لا يحتاج لهذا القسط الزاخر من الإدعاء الغث ليدرك حماية الإسلام لحق الحياة في آيات عديدة في القرآن الكريم ، منها على سبيل المثال قول الله تعالى : " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " ، ولكن أركون مع ادعاءاته الكثيرة عجز عن ذلك . فعندما تطاول المستشرق " أرنالديز " في تعقيبه على محاضرة أركون وقال إن التوراة والإنجيل تأمران بشكل واضح " لا تقتل أبداً " ولكن القرآن لا يمنع إلا قتل المؤمن فقط ، بدليل قول الله تعالى : " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ " ، عند ذلك عجز أركون أن يرد عليه ، بما يدحض ادعاءه هذا من القرآن الذي فيه آيات كثيرة تتعلق بهذا الموضوع .
ويا تُرى ، هل يعجز المسلم العادي في مثل قوله تعالى : " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " ، وفي مثل قوله تعالى : " وأمرهم شورى بينهم " ، وفي مثل قوله تعالى : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " ..
وقل من دين حمى حق حرية الاعتقاد في مثل قوله تعالى : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " ، وهل قام دين بحماية مسعى الإنسان وعرضه من التحسس والملاحقة مثل الإسلام : " ولا تجسسوا " وقدر مبدأ ألاَّ تجريم إلا بدليل في مثل قول الله تعالى : " اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم " .
وأي دين أو مبدأ أكد مبدأ المساواة كما أكده الإسلام في مثل قول الله تعالى : " إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " ، وأي دين نص على العدل حتى مع الأعداء الشانئين مثل الإسلام : " ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى .
وما هذه إلا أمثلة لنصوص كثيرة في هذا المضمار ، يعجز أركون عن استشفاف معانيها ، لأنه قدر سلفاً موالاة لسادته من المستشرقين الفرنسيين القائلين بأن حقوق الإنسان التي أتت بها الثورة الفرنسية تمثل طفرة جديدة غير مسبوقة وفاقت ما بشر به الإسلام من قبل ، ولذلك سخر أركون من هؤلاء الذين صاغوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام ، ودعم دعواه بأمثلة لاحترام حقوق الإنسان في واقع المسلمين اليوم خالطاً بين الدين الحق وواقع المسلمين الردئ ..
وأركون عندما يخلط بين مبادئ الإسلام الصافية ، وبين واقع المسلمين المعاصر الذي تُنتهك فيه حقوق الإنسان ، ( بفضل القيادات السياسية العلمانية المتحكمة فيه ) فإنه يرفض أن يخلط بين مبادئ الإعلان الأمريكي لحقوق الإنسان " في حق السود والهنود الحمر تاريخياً وحالياً " ، كما يرفض الخلط بين الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والانتهاكات الفرنسية لحقوق الإنسان سواء في إقليمها أو في مستعمراتها تاريخياً أو حالياً . وإني وأنا أكتب هذه السطور أتلقى الأخبار بأن عمدة مدينة فرنسية يصر على هدم مسجد في مدينته وأن الرئيس الفرنسي السابق ديستان يحذر من خطر المهاجرين المسلمين إلى فرنسا . وهذه كلها بالطبع في عرف أركون احترامات لا اختراقات لحقوق الإنسان . ألا ما أبخس بضاعتك يا أركون ، وما أشد تطفيف ميزانك الزائغ ، وما أزيف منهجك العلمي المتلون بألوان حقدك الدامي المتنزِّي بالغيظ والقيح النفسي المحقون ضد الإسلام والمسلمين ..
ضد التعليم الإسلامي :
وكراهية أركون الشديدة للإسلام تدعوه لمنع التعليم الإسلامي . فالعلم الإسلامي ينبغي ألا ينشر الدين الإسلامي ، إن عليه فقط أن يدرسه للناشئة دراسة مقارنة محايدة من غير توجيه ، وأن يترك لهم بعد ذلك أن يختاروا . إن عليه أن يدرس الدين باعتباره ظاهرة أنثروبولوجية أو اجتماعية لا باعتباره ظاهرة مقدسة ، يقول أركون : " فالمسلمون عندما يتحدثون عن الإسلام فإنهم يتحدثون فوراً عن مقدس ومتعال موجدين في كل مكان ، ولا يمكن مسَّهما - وجامدين أبدياً - ولكننا نعرف من خلال المقاربة الآيدولوجية كم هما متغيران ونسبيان وقابلان لأن يتلاعب بهما في مجتمع ما " ، ويدعو أركون لذلك لنزع القداسة عن الإسلام مثلما نزع القرآن القداسة عن الآلهة العربية السابقة على الإسلام ، كما يدعو المعلم المسلم لكي يتعامل مع الإسلام على أنه دين متغير ونسبي المعاني!
وليسمح لنا أركون أن نساله هنا كيف يصبح المعلم المسلم مسلماً وهو ينزع القداسة عن الإسلام ، ويسوي بينه وبين الأديان السابقة على الإسلام ؟ اللهم إلا إن كان هذا إسلاماً جديداً يدين به ويدعو له كذلك محمد أركون الذي كان قبل لحظة ينكر الدعوة إلى المعتقدات ثم يضيف أركون إلى ذلك دعوة ارتباط مدارس وكليات تدريس الفكر الإسلامي عن النظام الرسمي الحكومي للتعليم : " أنا لست ضد تدريس الدين على الطريقة التقليدية ولكن ينبغي أن يتم ذلك في الجامع أو الكنيسة وليس في معاهد البحث العلمي والجامعات " ، وهذه دعوة لها أكثر من معنى . إن مما يستنتج منها أن التعليم الإسلامي الذي يقدم في المساجد هو تعليم لا موضوعي ولا علمي ولا تاريخي ، وأن التعليم الذي يقدم في المدارس والكليات هو فقط التعليم الموضوعي . ولكنه تعليم يستلزم ألا يكون مصحوباً بإيمان ولا عاطفة تجاهه ولا دعوة إليه ، فالذي يريد أن يدرس الدين دراسة موضوعية ينبغي ألا يؤمن به ، ولا يتأثر به ، أو على الأقل أن يكون محايداً تجاهه ، وهذا حديث متهافت بالطبع لأن عدم إيمان المستشرقين وعدم إيمان تلاميذهم بالإسلام لم يجعلهم بالضرورة موضوعيين أو محايدين تجاهه ، وإلا فلماذا نرى علامات التحامل والبغضاء تنضح من أقلامهم وهم يتناولون بدراساتهم الشؤون الإسلامية ؟ ! . وفي المقابل فإن إيمان الفقهاء العميق بالإسلام ، لم يحجب سمات الموضوعية والعلمية أن تطل من معظم دراساتهم المتسقة العالية حول الإسلام في عقائده وشرائعه .
ومع أن أركون يطالب بالحياد مع الدين فإنه ليس ضد الحرب على الدين والتعدي على الدين . يقول أركون عن بورقيبة إنه تجرأ حتى " على الاجتهاد في ما يخص أركان العقيدة الدينية ، عندما أذن بصوم رمضان إن كان ذلك يعيق من عملية الإنتاج للدولة والمجتمع ، كما وانقض على قانون الأحوال الشخصية وذلك بواسطة الإصلاحات التي اقترحها لتعديل قانون الطلاق والميراث ومنع تعدد الزوجات . وكان يرى بضرورة حذف المرجعيات الدينية والطائفية من ساحة الفضاء الديني لأنها سبب فرقة وفتنة " . قال أركون ذلك في إجابة على مقابلة مع تلميذه " الصالح " ولما سأله هذا : وهل كان بورقيبة على حق في ذلك ؟ أجابه أركون : " بالطبع كان على حق " وهكذا فالتعدي على الدين جائز ، ولكن الدفاع عن الدين والدعوة إليه والعمل على اقناع الناس بفضائله ومزاياه هو مما لا يجوز في العرف العلمي المنهجي الأركوني !
ومثلما فعل بورقيبة في أخذ التجربة التعليمية الفرنسية ، فإن أركون يدعو لمواصلة التجربة لمحاربة التعليم الديني . يقول أركون إن السمة الإيجابية لتلك التجربة هو : " أنها منعت التبشير وتعليم العقيدة في المدارس العامة والفضاء العام للمجتمع المدني " . ومع أن الفرنسيين والغربيين عموماً يراجعون اليوم خطل هذه التجربة الوخيمة بعد أن رأوا بأم أعينهم نتاجها في أفواج الشباب المتمرد الضال اليائس المندفع في اللا أدْرِيَّة والشك والجريمة والمخدرات والجنس ، إلا أن أركون العائش في فرنسا منذ صباه يصر على أن نبدأ من حيث بدأت فرنسا ، وأن ننتهي حيث انتهت ، حذو النعل بالنعل ، ولا بأس بأن نكرر كل الخطايا و أن نتحمل كل الرزايا .
وفيما بين أحلام التنظير والوهم والعظمة ، جعل أركون من نفسه مسؤولاً عن شؤون المسلمين ، وعند ذلك ، سأله تلميذه " الصالح " : " وما الذي ستفعله بكليات الشريعة " ؟ فأجابه أركون : " ينبغي على كليات الشريعة وعموم المعاهد الدينية التقليدية أن تعدل مناهجها وأساليبها وأن تمارس دورها كما يمارس معهد الدراسات الكاثوليكية في باريس دوره ، وكما يمارس معهد الثيولوجيا البروتستانتية في ستروسبرغ أيضاً دوره " . وسأله تلميذه متعقباً : " وهل يعقل تعليم الأديان بطريقة علمانية " ؟ أجاب أركون : " بالطبع فهناك تعليم علماني للثيولوجيا وتاريخ الأديان والفكر الديني ، يقابل التعليم التقليدي والإيماني العقائدي ! " . واكثر من ذلك طالب أركون ب " إلغاء برامج التعليم السائدة وإلغاء الطريقة التاريخانية والعقائدية التبشيرية لتعليم الدين في المدارس العامة ، وإحلال تاريخ الأديان والأنثروبولوجية الدينية محله ، أي تدريس علم الأديان المقارن وعلم الإنسان مكان الإسلام . والمعروف أن علم الأديان المقارن ومختلف فروع علم الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع تحمل نظرة " أونتولوجية " معادية للأديان بحكم تأسيس هذه العلوم جميعاً في مناخ مناهضة الدين في أوربا . ولذلك فدعوى أركون بالحياد والموضوعية تجاه الدين تتبخر تماماً عندما يفرض عوضاً عن تدريس الدين ، تدريس هذه المناهج التي قامت على العداء للدين .
ولكيما ندرك أبعاد هذه النزعة العدائية لأركون ضد الدين فلننظر إلى تنطعه وهو يتجاوز موضوع المدارس والدين إلى موضوع الشؤون الدينية عموماً ، فوجود وزارة للشؤون الدينية أيضاً أمر قد لا يرضيه : " لا أعرف فيما إذا كان ينبغي علينا المحافظة على وزارة للشؤون الدينية أم لا " ، وذلك لأنه : " إذا حافظت هذه الوزارة بكل مؤسساتها ومعاهدها الدينية على بث التعاليم التقليدية والطائفية واللا تاريخية ، التي تقسم المجتمع وتزرع فيه روح الفتنة والشقاق ، فينبغي إغلاقها فوراً " ، وهكذا فالدين في نظر أركون وأمثاله من ببغاوات الغرب أداة تلقائية للفتنة والشقاق ، وذلك حتى في وطن هو مسلم بكامله ولا يضم أدنى أقلية دينية في حناياه وذلك شأن مثل الجزائر الوطن الأصلي لأركون . إن التجربة الغربية في موضوع الدين ينبغي أن تنقل بحذافيرها حتى ولو لم تكن مناسبة لأوضاعنا ، ولم تكن في أدنى حاجة إليها!.
إن الدواء المر الذي يتجرعه الغرب اليوم لا يكاد يسيغه ، ينبغي علينا تلقائياً أن نتجرعه حتى ولو لم نكن مرضى . هذا هو علاج أركون وبئس العلاج !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.