وزير الصحة المكلف ووالي الخرطوم يدشنان الدفعة الرابعة لعربات الإسعاف لتغطية    البرهان يزور جامعة النيلين ويتفقد مركز الامتحانات بكلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بالجامعة    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. لاعب المريخ السابق بلة جابر: (أكلت اللاعب العالمي ريبيري مع الكورة وقلت ليهو اتخارج وشك المشرط دا)    شاهد بالصورة والفيديو.. مواطن سوداني يعبر عن فرحته بالذهاب للعمل في الزراعة مع زوجته وأطفاله بالغناء على أنغام إحدى الأغنيات التراثية    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    صحة الخرطوم تبحث خطة لإعادة إعمار المرافق الصحية بالتعاون مع الهيئة الشبابية    كمين في جنوب السودان    دبابيس ودالشريف    إتحاد الكرة يكمل التحضيرات لمهرجان ختام الموسم الرياضي بالقضارف    كوليبَالِي.. "شَدولو وركب"!!    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    ارتفاع احتياطيات نيجيريا من النقد الأجنبي بأكثر من ملياري دولار في يوليو    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    شهادة من أهل الصندوق الأسود عن كيكل    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    بنك أمدرمان الوطني .. استئناف العمل في 80% من الفروع بالخرطوم    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجديد منهج العقيدة الإسلامية (2/2)

إن أكبر أزمة للدين ومعتقداته في الغرب ، تنشأ أساسا عن موقفه من العقل . فالإيمان في نظر الغربيين عموما أمر لا صلة له بالعقل ولا دخل للعقل به . ولكن الإسلام له موقف مختلف من العقل . فالقرآن ملئ بالثناء على العقل والعقلاء ، وذم من لا يعقل مثل "إنَّ شَرَّ 0لدَّوَابِّ عِندَ 0للَّهِ 0لصُّمُّ 0لْبُكْمُ 0لَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ" (الأنفال:22)، وجعل الإيمان لمن له عقل يفهم به ، فقال: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ 0للَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (البقرة :242 ) والكفر لمن لا عقل له ، فقال: (وَمَثَلُ 0لَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ 0لَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ" (البقرة: 171) .
والمسلمون عموما يقبلون قاعدة موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول ، التي أحسن بيانها ابن تيمية . ومن المعلوم أن القرآن يشتمل علي أدلة وحجج عقلية كافية للعقول السليمة والفطر الصحيحة ، وقد ذكر ذلك كثير من العلماء منهم ابن تيمية الذي يقول: "والقرآن مملوء من الأدلة العقلية والبراهين اليقينية على المعارف الإلهية والمطالب الدينية ... وجميع طوائف النظار متفقون على أن القرآن اشتمل على الأدلة العقلية في المطالب الدينية ، وهم يذكرون ذلك في كتبهم الأصولية وفي كتب التفسير ."[1]
تجديد التأصيل والتأسيس
فمن الضروري إذن – بادئ ذي بدء – أن يعتمد تجديد منهج تأصيل وتأسيس العقيدة الإسلامية على طريقة القرآن . ولا شك أن من المسلم به ، أن السلف ، وهم الأجيال الأولى من المسلمين من الصحابة وتابعيهم ، لم يكن لهم من منهج في معرفة عقائد الإسلام ، غير ذلك الذي تلقوه وأخذوه من القرآن ومن تعاليم الرسول الله صلوات الله وسلامه عليه . فقد كانت هذه المرحلة هى مرحلة الصفاء – كما سمّاها أحد الدارسين[2] ، وذلك لأن القرآن كان قائما بنفسه مستقلا عن غيره في تبيين مبادئ العقيدة ، وتوضيح تفاصيلها ، واثباتها بالبراهين والحجج العقلية ، ودحض الشبهات عنها والرد على افتراءات مخالفيها .
وقد اتصف منهج القرآن بسمات مميزة وخصائص فريدة ، نذكر بعضها في إجمال واختصار . فمن ذلك الاثبات أولا ثم النفى ثانية وتقرير المبادئ السليمة ثم نقد ما يخالفها . ومن ذلك تقديم البراهين والحجج التى تثبت مبادئ العقيدة ، والتوجه بها للنفس البشرية من جميع مداخلها من عقل وقلب وشعور وعاطفة . ومن ذلك خطاب واقع البيئة التى تنزل فيها وعلاج انحرافاتها ، ولهذا كان الاهتمام بالوثنية العربية أكثر من غيرها ودحض أساطيرها ، ثم مواجهة التحريف الذي أصاب النصرانية واليهودية الديانتين المعروفتين في الجزيرة العربية ، دون التعرض لغيرهما من مجوسية وهندوسية وبوذية واغريقية . ومن ذلك سحر البيان وجزالة اللفظ وسهولة التعبير وبساطته ، مما ييسر فهمه للعامي الجاهل وللعالم الخبير المتخصص .
وقد يقول قائل إذا كان الهدف من تجديد تاصيل العقيدة الإسلامية إثباتها بالبراهين العقلية ، فإن علم الكلام قد قام بهذه المهمة ، فينبغي تجديده وإحياؤه وبعثه في العصر الحاضر ليؤدي الدور الذي أداه في الماضي . ومن المعلوم إن علم الكلام قد نشأ في ظروف مشابهة للظروف التى يعيشها العالم الإسلامي اليوم ، بعد ان اننشرالإسلام في بقاع العالم ، وامتد إلى بيئات تختلف عن بيئته الأولى ، واختلط بثقافات وفلسفات متعددة ، فظهرت إثر ذلك مشكلات عقدية جديدة ، وطرأت شبهات وأثيرت أسئلة لم تكن معروفة من قبل . ولعل ظروف اليوم شبيهه بظروف الأمس ، فلماذا لا يجدد علم الكلام ليقدم منهجا معاصرا للعقيدة الإسلامية ؟
أظنه من الثابت أن للعلماء في القديم والحديث مواقف متباينة من علم الكلام ومناهجه في الاستدلال ، بين مؤيد مستحسن ، وبين رافض معترض ، ولم ينل هذا المنهج قبولا واسعا في عصوره الأولى ، ثم غلب طابعه على الدراسات العقدية عند المتأخرين . ومن الثابت أيضا أن علم الكلام قد نشأ في مرحلته الأولى ، لمواجهة المشكلات الفكرية التى نجمت من الخلافات السياسية والمذهبية والعقدية ، وشيوع آراء وانحرافات أثارت الجدل بين الفرق المختلفة التى ظهرت من خوارج وشيعة وسنة ومعتزلة وغيرها . فتصدى علماء الكلام للرد على هذه الانحرافات بنفس البراهين التى يعتمد عليها أصحابها في اثباتها ، ودفع شبهاتهم بنفس الحجج العقلية التى يستخدمونها ، فكانوا بذلك يحاربونهم بنفس سلاحهم . يقول السفاريني:
"اعلم أننا لا نأخذ الاعتقادات الإسلامية من القواعد الكلامية ، بل إنما نأخذها من النصوص القرآنية والأخبار النبوية ، وليس القصد بالأوضاع الكلامية إلا دفع شبه الخصوم والفرق الضالة عن الطرق الحقية ، فإنهم طعنوا في بعض منها بأنه غير معقول ، فبين لهم بالقواعد الكلامية معقولية ذلك"[3]
وفي مرحلة لاحقه صار صار علم الكلام بنفسه محاولة لإثبات عقائد الدين بالبراهين التي استمدها من مجادلة المنحرفين . ولكن نظرة فاحصة تبين أن براهين علم الكلام إذا كانت تصلح لنقض باطل المنحرفين ، فإنها قد لا تصلح لإثبات عقائد الدين .ولعله من المعلوم أن الكثيرين قد ذهبوا إلى هذا الرأي ، وأقوالهم في ذلك مشهورة معروفة ، منهم الغزالي الذي يقول :
"لما نشأت صنعة الكلام وكثر الخوض فيه وطالت المدة ، تشوف المتكلمون إلي محاولة الذب عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور ، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها ، ولكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى فلم يحصل منه ما يمحق بالكلية ظلمات الحيرة ."[4]
ثم إن معظم المسائل التى اشتغل علم الكلام ببحثها ودراستها ، قد تصلح أن تكون موضوعا للدراسات التاريخية العقدية ، ولكنها لا تصلح لتأصيل وتأسيس مسائل الإيمان في العصر الحاضر. ليس فقط لأن كثيرا من هذه المشكلات لا وجود لها في واقع اليوم ، أولأنه لا فائدة من إثارتها وإحيائها مرة أخرى ، ولكن لأن منهج علم الكلام في تأصيل العقيدة منهج شائك عقيم معقد جاف ، وقد استعار قوالب ومنطق الفلسفة اليونانية الوثنية ، فهو لهذا لا يصلح لهذا العصر ، وإن كان فيه بعض الصلاح في العصور الماضية ، بل ينبغي إطراحه بالكلية عن دراسات تأصيل العقيدة الإسلامية ، والإقبال على منهج القرآن في ذلك . وليس هذا برأي جديد بل قد نادى به كثير من العلماء الأوائل والمعاصرين . ويلخص سيد قطب هذا الموقف القديم الجديد حين يقول:
"وأنا على يقين جازم بأن "التصور الإسلامي" لن يخلص من التشويه والانحراف والمسخ، إلا حين نلقي عنه جملة بكل ما أطلق عليه اسم "الفلسفة الإسلامية". وبكل مباحث "علم الكلام" وبكل ما ثار من الجدل بين الفرق الإسلامية المختلفة في شتى العصور أيضاً! ثم نعود إلى القرآن الكريم، نستمد منه مباشرة "مقومات التصور الإسلامي". مع بيان "خصائصه" التي تفرده من بين سائر التصورات. ولا بأس من بعض الموازنات- التي توضح هذه الخصائص – مع التصورات الأخرى- أما مقومات هذا التصور فيجب أن تستقى من القرآن مباشرة، وتصاغ صياغة مستقلة .. تماماً."[5]
ولكن العودة إلى منهج القرآن الكريم وطريقته ، في التأصيل لمسائل العقيدة الإسلامية تحتاج إلى عدة أمور . فالقرآن مع سلاسة أسلوبه وجزالته وسهولته ، ليس أمرا ميسورا للفهم المباشر لكثير من الناس في العصر الحاضر . فعرض العقيدة الإسلامية اعتمادا عليه لا شك يحتاج إلى جمع واختيار وتبويب وترتيب . ولا بد من التنويه هنا أن هذا الاختيار والتبويب والترتيب ، ينبغي أن يعتمد على منهج القرآن نفسه في مخاطبته للواقع . وعليه فإن كثيرا من الموضوعات التى تناقشها كتب الأوائل ، حتى تلك التى اتبعت منهج الاعتماد على القرآن ، تحتاج إلى تنقيح وحذف وإضافة. فلو القى المرء نظرة فاحصة لكثير من كتب العقيدة المشهورة المتداولة ، مثل العقيدة الطحاوية وشروحها ، أو كتب ابن تيمية المتعددة ، وحلل موضوعاتها ومناقشاتها ، لتبين له أنها مع ثرائها وغنائها ، لا تخاطب العقل المسلم المعاصر ولا تعالج مشكلاته ، ومن الممكن أن يشتغل بها المتخصصون ، ولكنها لا تتناسب مع المبتدئين . ولهذا فهناك حاجة إلى إحسان اختيار المسائل ، وإعادة تبويبها وترتيبها . ومع حسن الاختيار والتبويب ، لا بد من صياغة جديدة مناسبة ، والجمع بين النظر والاستدلال العقلي المستمد من القرآن ، مع التعبير الأدبي والخطاب الرائع . ومما لا شك فيه أن هناك كتابات ومحاولات غنية للمعاصرين ، للتأصيل المعاصر للعقيدة الإسلامية ، كثير منها شائع معروف . اقتصر بعضها على تفصيل وشرح لأمور الإيمان المعهودة من إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر ، ونحى بعضها منحى جديدا بإضافة بحوث عن طبيعة البشر وحقيقة الحياة والطبيعة ، وزاد بعضها بيان آثار الإيمان والتوحيد في الحياة ونظمها من أخلاقية واجتماعية وسياسية واقتصادية . ولا شك أن تلك خطوات مقدرة في طريق طويل ، ومن الممكن إثراء هذا الجانب بمزيد من الجهود والترشيد والتسديد ، في ضوء دراسات تبحث هذا التدوين المعاصر للعقيدة الإسلامية ، وتحلل وتقوم وتزن الكتابات التى اسهمت في تكوينه.
تجديد النقد والتقويم
تزخر مصنفات العقيدة الإسلامية منذ عصورها الأولى وإلى عصرنا الحاضر ، بالنقد والتقويم ، والمقارنة والموازنة بين شتى الآراء والمذاهب والفرق والملل والنحل والديانات والفلسفات . ومما لا شك فيه أن الاتجاه النقدي والتقويمي لكل ما يخالف العقيدة الإسلامية جانب ثر في الدراسات العقدية ، لا غناء للناس عنه في كل زمان ومكان . وليس المقصود من إطراح علم الكلام والفلسفة الإسلامية من مباحث التاصيل والإثبات لقضايا الإيمان ، إلغاؤها بكليتها . فمن ناحية فإن علم الكلام في جانبه النقدي للانحرافات العقدية ، واستعماله النظر والاستدلال العقلي في دحضها ، كان دفاعا محمودا ولم يكن مذموما ، لكن المذموم منه استعارته لاساليب الجدل مع المنحرفين ، وخاصة مناهج الفلسفة اليونانية ومنطقها ، لاثبات العقائد دون الاكتفاء بمنهج النظر القرآني وطرقه في الاستدلال .
والنقد والتقويم لعقائد المخالفين ، وبيان زيفها بالأدلة العقلية ، قد اهتم به القرآن كثيرا . فقد خاطب القرآن كفار العرب ومشركيهم ، وأتباع الأديان المبدلة التى كانت سائدة في العالم القديم ، وعالج أساطيرهم وخرافاتهم وتحريفاتهم ، وأجاب على تساؤلاتهم واستفساراتهم . وطريقة القرآن في ذلك أن يفند حجج الباطل ويدحضها بما يبين مناقضتها للعقل . ولعله يحسن ذكر مثال من ذلك تتبين به طريقة القرآن . فمن المعلوم أن العرب كانت تؤمن أن الملائكة بنات الله ، ولقد تصدى القرآن لنقض هذه الأسطورة في مواطن عديدة ، منها قوله في سورة الصافات: (فَ0سْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ 0لْبَنَاتُ وَلَهُمُ 0لْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا 0لْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ 0للَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى 0لْبَنَاتِ عَلَىٰ 0لْبَنِينَ * مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ * فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ). فقد جادلهم بمنطق من بيئتهم وعرفهم ومقاييسهم الشائعة عندهم ، وناظرهم بحجج تدحض كل ما يمكن أن يتمسكوا به في إثبات دعواهم . يقول الرازي في تفسيره لهذه الآيات:
" ونقل الواحدي عن المفسرين أنهم قالوا: إن قريشاً وأجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح قالوا: الملائكة بنات الله، واعلم أن هذا الكلام يشتمل على أمرين أحدهما: إثبات البنات لله وذلك باطل لأن العرب كانوا يستنكفون من البنت، والشيء الذي يستنكف المخلوق منه كيف يمكن إثباته للخالق والثاني: إثبات أن الملائكة إناث، وهذا أيضاً باطل لأن طريق العلم إما الحس وإما الخبر وإما النظر، أما الحس: فمفقود ههنا لأنهم ما شهدوا كيفية تخليق الله الملائة وهو المراد من قوله: { أَمْ خَلَقْنَا 0لْمَلَٰئِكَةَ إِنَٰثاً وَهُمْ شَٰهِدُونَ } وأما الخبر: فمنقود أيضاً لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقاً قطعاً وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون، لم يدل على صدقهم لا دلالة ولا أمارة، وهو المراد من قوله: { أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ 0للَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ } وأما النظر: فمفقود وبيانه من وجهين الأول: أن دليل العقل من إسناد الأخس إلى الأفضل، فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب كان قولكم باطلاً والوجه الثاني: أن نترك الاستدلال على فساد مذهبهم، بل نطالبهم بإثبات الدليل الدال على صحة مذهبهم فإذا لم يجدوا ذلك الدليل فضده يظهر أنه لم يوجد ما يدل على صحة قولهم وهذا هو المراد من قوله: { أَمْ لَكُمْ سُلْطَٰنٌ مُّبِينٌ * فَأْتُواْ بِكِتَٰبِكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ } فثبت بما ذكرنا أن القول الذي ذهبوا إليه لم يدل على صحته، لا الحس ولا الخبر ولا النظر، فكان المصير إليه باطلاً قطعاً ."[6]
وبمثل هذا الأسلوب في الاستدلال والنظر يمكن تجديد النقد والتقويم ، للانحرافات العقدية والمذهبية الرائجة في العصر الحاضر ، سواء كان ذلك موروثا باقيا من ضلالات العهود الماضية ، أو كان وافدا من الثقافات الأخرى . ولعل أكبر ما ينبغي التصدي له بالدراسة والنقد المذاهب الغربية المعاصرة ، لإلحادها ومناقضتها للدين . ومع أن هذا الاتجاه النقدي للحضارة الغربية وعقائدها قد بدأ منذ بواكير النهضة الإسلامية المعاصرة ، من مثل إقبال ومحمد عبده وغيرهم ، إلا أن الهيمنة الفكرية للغرب لا تزال تحتاج إلى ما يتحدى مسلماتها تحديا حقيقيا ، ينفذ إلى اللباب . وهذا ميدان واسع للتجديد النقدي العقدي ، ينبغي الولوج فيه ببصيرة ودراية ، حتى لا تتكرر أخطاء التاريخ الإسلامي حين واجه الفلسفة اليونانية ، فقد دخل نوابغ من المسلمين في بطن الفلسفة حين نقدوها ولم يخرجوا منها ، كما حكي ذلك أبوبكر بن العربي في وصفه للغزالي في ثنايا رده عليه . إذ شتان بين النقد والتقويم وبين التوفيق والتلفيق .
----------
[1] رسالة الفرقان بين الحق والباطل لابن تيمية ، مجموعة الرسائل الكبرى .
[2] العقيدة الإسلامية في القرآن الكريم ومناهج المتكلمين ، محمد عياش الكبيسي ، ص 15 .
[3] لوائح الأنوار البهية ، السفارينى ، ص 5 .
[4] المنقذ من الضلال ، الغزالي ص 16
[5] سيد قطب ، خصائص التصور الإسلامي ، ص
[6] تفسير الرازي ، سورة الصافات الآيات 149- 157 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.