محمد خليفة، كادر حزب البعث والقحاتي السابق، يتكلم عن الحقيقة هذه الأيام وكأنه أفلاطون    الدوري الخيار الامثل    عائشة الماجدي تكتب: (جودات)    القوات المسلحة تصدر بيانا يفند أكاذيب المليشيا بالفاشر    اشادة من وزارة الخارجية بتقرير منظمة هيومان رايتس ووتش    أهلي جدة يكسر عقدة الشباب بريمونتادا مثيرة    الهلال يحسم لقب الدوري السعودي    الجيش السوداني يتصدى لهجوم شنته قوات الدعم السريع على الفاشر    المريخ يعود للتدريبات وابراهومة يركز على التهديف    برباعية نظيفة.. مانشستر سيتي يستعيد صدارة الدوري الإنكليزي مؤقتًا    يوكوهاما يقلب خسارته أمام العين إلى فوز في ذهاب نهائي "آسيا"    هل يمكن الوثوق بالذكاء الاصطناعي؟.. بحث يكشف قدرات مقلقة في الخداع    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    سألت كل الكان معاك…قالو من ديك ما ظهر!!!    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    عاصفة شمسية "شديدة" تضرب الأرض    «زيارة غالية وخطوة عزيزة».. انتصار السيسي تستقبل حرم سلطان عُمان وترحب بها على أرض مصر – صور    مخرجو السينما المصرية    د. ياسر يوسف إبراهيم يكتب: امنحوا الحرب فرصة في السودان    هل ينقل "الميثاق الوطني" قوى السودان من الخصومة إلى الاتفاق؟    كلام مريم ما مفاجئ لناس متابعين الحاصل داخل حزب الأمة وفي قحت وتقدم وغيرهم    شاهد بالصورة.. حسناء الفن السوداني "مونيكا" تشعل مواقع التواصل الاجتماعي بأزياء قصيرة ومثيرة من إحدى شوارع القاهرة والجمهور يطلق عليها لقب (كيم كارداشيان) السودان    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    محمد سامي ومي عمر وأمير كرارة وميرفت أمين في عزاء والدة كريم عبد العزيز    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حول دعوة د. عبد الله أحمد النعيم .. بقلم: خالد الحاج عبدالمحمود
نشر في سودانيل يوم 10 - 09 - 2011


بسم الله الرحمن الرحيم
من المؤمنينَ رجالٌ صدقُوا ما عاهدُوا الله عليه، فمنْهم من قضى نحبَه، ومنْهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلاً صدق الله العظيم
(1) المنطق المدني
الدكتور عبد الله أحمد النعيم، رجلٌ واسعُ النشاط، جمُّ الحركة، في مجال الحديث والكتابة.. وقد عرفه الناس بالصفة التي يقدّم بها نفسه، وهي أنّه تلميذٌ للأستاذ محمود محمد طه.. وهو بالفعل، قد كان كذلك.. ولكن، منذُ وقتٍ طويل _ربّما منذ تسعينات القرن الماضي_ ظهر د. عبدالله، على تدرّجٍ في الظهور، بمظهر صاحب الدعوة الخاصة.. وأصبح نشاطُه، كلُّه، يدور حول دعوته الخاصة هذه.. وبالطبع هذا من حقّه، ولا توجد فيه مشكلة.. ولكنّ المشكلة هي، أن د. عبدالله يستغل في الترويج لدعوته الخاصة، هذه، اسم الأستاذ محمود، دون وجه حق.. ويسوّق دعوته الخاصة، تحت غطاء الفكرة الجمهورية، والفكرة الجمهورية منها براء.. مما قد يدفع الكثيرين للاعتقاد، أن ما يقول به د. عبد الله، هو من فكر الأستاذ محمود، أو مستندٌ إلى الفكرة الجمهورية، ومتفقٌ معها.. بل إنّ هذا، للأسف، ما ظل يؤكّده د. عبدالله نفسه، للناس، على طول المدى!!
لم أكن، في باديء الأمر، على اطلاع، ومتابعة لما يكتب أو يقول د. عبد الله، فقد كنتُ، شخصياً، حتى عام 2009م، وبحكم معرفتي السابقة به كأخ جمهوري له سابقته في الفكرة، أفترضُ أنه ينطلق من مباديء، ومرتكزات، الفكرة الجمهورية.. ولكنْ بعد اطّلاعي على ما يقول ويكتب، اكتشفتُ، أنّ د. عبد الله، في الواقع، صاحب دعوة خاصة به، وهي دعوة ليست مخالفة للفكرة الجمهورية، فحسب، بل هي مناقضة للفكرة الجمهورية، في الأساس..
وقد دخل بعض الأخوان الجمهوريين، مع د. عبدالله، في حوار، ليبيّنوا له أن ما يطرحه، مخالفٌ لدعوة الأستاذ محمود، وينبغي عليه أن لا ينسب فكره الخاص للأستاذ.. ولكنه لم يُلقِ بالاً إلى ما قيل، واستمر فيما هو فيه، بصورةٍ، أقل ما يُقال عنها، أنها شوهت الفكرة الجمهورية، عند الكثيرين، ممن استمعوا له، أو قرأوا كتاباته، وليس لهم إلمامٌ كافٍ بالفكرة..
وقد شرعتُ، من جانبي، أكتبُ عن دعوة عبدالله، في الموقع الخاص بالجمهوريين منذ عام 2009م.. لكن، وبالرغم من أن د. عبدالله كان يتابع ما أكتب، حسبما قال، إلا أنه لم ينهض بأي حجة في مواجهة ما ورد في كتاباتي.. وقد أبلغتُه بوضوح أن دعوته عامة، ولا يوجد سبب، غير اعتباره الخاص، عندي، يقيّدني بالكتابة في موقع خاص.. وكان غرضي، من ذلك، أن أنصحه، نصيحة الدين، وفقا لمقتضيات أدب النصيحة في الدين.. ولما لم يستجب د. عبدالله لدعوة الحوار، أخبرتُه أنني لن أتقيّد بالكتابة في الموقع الخاص، وسأخرجُ بكتابتي عن دعوته إلى العلن، في تدرّج، عبر المواقع العامة.. وها أنذا أفعل، بغيةَ تصحيح التشويه الموبق الذي ألحقه د. عبدالله بالفكرة الجمهورية، وأدعو، من هنا، د. عبدالله مجدداً للدخول في الحوار..
دعوتي هذه لدكتور عبدالله للحوار، تأتي، بالرغم من علمي أن دعوته، هي من الهشاشة بمكان، بحيث لا تنهض في مضمار المواجهة الفكرية الجادة.. إلا أنني، على كل حال، أفترض، أنّ واجب الصدق، والقصد الصريح، يقضي أن يكون رأي د. عبدالله، نفسه، في دعوته، بخلاف ذلك، فيتصدى للدفاع عنها.
على أن العمل في مجال النصيحة، لدكتور عبدالله مستمرٌ، وهو الأساس.. ولكنْ بما أنه شوّه الفكرة، تشويهاً خطيراً، لم يعد هناك مناصٌ من المواجهة، المحددة والصارمة، التي تضع الأمور في نصابها.
وقد وصل الأمر بدكتور عبدالله إلى حد أن يزعم أنه تلميذ للأستاذ محمود في كل أحواله، وفي كل أقواله العامة!! وأنا، على كلّ حال، سأوضّح مفارقة هذا القول، وخطورته، وأبيّن، أنّ د. عبدالله يعمل عملاً منظماً، ومتصلاً، في تشويه الإسلام، بصورة عامة، وتشويه دعوة الأستاذ محمود، بصورة خاصة.. هذا التشويه تأتي خطورته من كونه تشويه، يقوم به من يدّعي التلمذة للأستاذ محمود، وينسب نفسه للفكرة الجمهورية، ويتحدث باسمها، الأمر الذي ربّما يجوز على الكثيرين، ويدفعهم للاعتقاد أن أفكار د. عبدالله، هذه، هي نفس دعوة الأستاذ محمود، في حين أنها على النقيض منها.
وأنا، في هذه المقالات، سأعمد إلى الفصل الواضح، بين دعوة الأستاذ محمود، ودعوة د. عبدالله أحمد النعيم.. فدعوة الأستاذ محمود متوفرة ومتاحة لمن يرغب، في كتبه، وأحاديثه المسجلة.. ودعوة د. عبدالله تعكسها أحاديثه وكتاباته المتعددة، ولكنها مضمّنة في كتابه الأساسي، المسمّى (الإسلام وعلمانية الدولة)، وهو يعتبر هذا الكتاب بمثابة تتويج لمجهود حياته، كلِّه، إذ يقول: (هذا الكتاب تتويج لمجهود حياتي، وهو الكلمة النهائية التي أود أن أقولها حول مسائل ظللت مهموماً ومشغولاً بها منذ أن كنتُ طالباً في جامعة الخرطوم بالسودان، أواخر ستينات القرن الماضي)!!
كتاب د. عبدالله، هذا، في جملته وفي تفاصيله، هو نقيض دعوة الأستاذ محمود، والغرض الأساسي منه هو العمل على تشويهها، والتنفير عنها، وهذا ما سنبيّنه بوضوح، في حلقات متتالية.
الأمر الذي أعِدُ به د. عبدالله، في كتابتي هذه، هو الوضوح والقصد الصريح، بما يمليه واجبُ الحق، كما يمليه الوفاء بمبدأ النصيحة، فنحنُ لم نعد نكتُب في منتدىً خاص، وما أعِدُه به، هو ما أطلبُه منه، سواءً بسواء.
ود. عبدالله، لا شك، يعلم، تمامَ العلم، أنني لن أنصرف عن مناقشته هو في أمره، إلى مناقشة غيره فيه، فهذا أمرٌ غيرُ وارد، وأنصحُه أن لا يعوّل عليه.
1 المنطق المدني
قبل الدخول في مناقشة، مضمون، طرح الأخ عبدالله، نبدأ بمناقشة منهجه في التفكير، ذلك الذي أسماه (المنطق المدني)..
حول المنطق المدني جاء من أقوال د. عبدالله:
(كيف يمكن موازنة العلاقة بين الدولة والمجتمع، أو بين الدولة والسياسة، عبر آلية المنطق المدني؟؟ المنطق المدني هو الخطاب الذي يعتمد على مرجعية المواطنة وليس المرجعية الدينية العقائدية التي يختلف فيها الناس بالضرورة. وكلمة (مدني) هي ترجمة للكلمة Civic باللغة الإنجليزية، فالدلالة هي للمفهوم المقصود وليس المصطلح، فكل ما يؤكد السعي لمرجعية مشتركة بين عامة المواطنين، وليس المرجعية الدينية بين أصحاب العقيدة الواحدة يؤدي الغرض من كلمة (مدني) في هذا السياق.
المنطق المدني هو منهج في الحوار، في الأمور العامة، وليس أي محتوى محدد من أي منظور فلسفي، ديني أو مفهومي معين. والغرض من وراء هذا المنهج هو مقدرة كل منا على إقناع الآخرين بالحجج، ووسائل الخطاب التي لا تعتمد على العقيدة دائماً، حتى لدى من يتجاوزون مستوى العقيدة من خلال الاعتماد عليها)..
ويقول أيضا: (بالمنطق المدني أعني إذاً وجوب ارتكاز التشريع أو السياسة العامة على المنطق المشاع، الذي يمكن لكل مواطن أن يقبله أو يرفضه أو يقدم البديل من المقترحات، من خلال الحوار العام، دون الاعتماد على دينه أو مزاعم تقواه. المنطق المدني، لا المعتقدات أو الدوافع الشخصية، هو أساس التشريع والسياسات العامة، سواء كان المسلمون أغلبية أو أقلية في المجتمع الذي يعيشون فيه)..
ويضيف: (المطلوب هو العودة إلى المنطق والتفكير المدني، وتشجيعهما، مع إضعاف نزعة الاعتماد على المعتقدات الدينية أو المذهبية الشخصية في تأسيس الحوار على أساسها في السياسة العامة والقانون. ولا يصح افتراض أن المهيمنين على الدولة محايدون في أداء اعمالهم الرسمية، لأن الناس يتصرفون وفقاً لمعتقداتهم، ومبرراتهم الشخصية)..انتهى
إذن، أهم نقاط المنطق المدني، الذي تقوم عليه دعوة د. عبدالله، يمكن إيرادها فيما يلي:
1. هو آلية للحوار، ومنهج له، تقوم على مرجعية مشتركة بين عامة المواطنين، وهو المنطق المشاع الذي يمكن لكل مواطن أن يقبله أو يرفضه أو يقدم البديل من المقترحات، من خلال الحوار العام، دون الاعتماد على دينه، أو مزاعم تقواه.
2. لكي تتحقق للمنطق المدني، صفة العمومية المذكورة، يجب أن يعتمد الخطاب على مرجعية المواطنة، وليس المرجعية الدينية، وذلك لأن الدين قائم على العقيدة دائماً، حتى لدى من يتجاوزون مستوى العقيدة من خلال الاعتماد عليها.. والمنطق المدني منهج في الحوار وليس أي محتوى محدد من أي منظور فلسفي ديني أو مفهومي معين.
كما نرى، الأمر كله يقوم على بعدين أساسيين: مطلب العمومية، ومبدأ الشمول الذي يشمل كل الناس في الحوار.. واستبعاد ما يحول دون هذه العمومية، والشمول، وبالذات استبعاد الدين، في أي مستوىً كان، على أساس أنه يفرّق ولا يجمع، حسب زعم د. عبدالله.
في شرحه لمفهوم المنطق المدني، الذي يدعو إليه، حسب النص أعلاه، قام د. عبدالله بشرح استخدامه لكلمة (مدني)، ولكنه لم يتطرق لتعريف كلمة (منطق)، ربما لأنها كلمة معروفة، وهي فعلاً معروفة، ولكن بخلاف استخدام د. عبدالله لها.. لذلك، علينا، نحن، أن نعرّف الكلمة.
(المنطق) ببساطة شديدة هو (التفكير السليم) الذي تؤدي فيه المقدمات الى نتائجها دون خلل، فهو يقوم على فن الاستدلال الصحيح.. وما هو منطقي، هو ما يطابق قواعد المنطق والتفكير السليم.. فالأمر كله، في المنطق يتعلق بالتفكير الصحيح، الذي يعين الناس أن يصلوا للحقيقة، في الحوار فيما بينهم دون أن يكون هنالك، إضلال، أو تضليل عن هذه الحقيقة موضوع الحوار، سواء أن كان هذا التضليل متعمداً، أو غير متعمد.. وأهم مبادئ التفكير المنطقي، هو مبدأ عدم التناقض، ويعني أنه يستحيل وجود الشيء وعدمه في نفس الوقت، أو صدق القضية وكذبها، في وقتٍ واحد.. كما أنه من أساسيات المنطق السليم، عدم الوقوع في المغالطات المنطقية Fallacies، وهي عديدة.. من أهمها مغالطة استخلاص نتيجة ليست هي النتيجة الضرورية من المقدمة. ومغالطة إسقاط الشرط، ويُستدل عليها بقوله تعالى: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى).. فيقول القائل (لا تقربوا الصلاة) ويسقط (وأنتم سكارى).. والمغالطات اللغوية عديدة..
المنطق كأسلوب للتفكير السليم والاستدلال الصحيح، يشمل كل مجالات التفكير، وليس قاصراً على مجال دون مجال، فيمكن، مثلاً الاستدلال، على عقيدة الإيمان بالله، استدلالاً منطقياً، وكذلك الحال بالنسبة لأي عقيدة أخرى، فلا يوجد مجالٌ، في الفكر البشري، لا يخضع للمنطق .. فالمنطق هو معيار صحة التفكير والاستدلال، فهو الذي يتم وفقه الحكم على الصحة، ولذلك هو المرجع.. ولكن صاحب المنطق المدني جعل للمنطق نفسه مرجعية، إذ يقول: (المنطق المدني هو الخطاب الذي يعتمد على مرجعية المواطنة وليس المرجعية الدينية).. وبذلك، جعل المنطق نفسه محكوماً بغيره!! وما هو هذا الغير؟! المواطنة!! قضية جانبية جداً في الفكر السياسي.
المنطق المدني، منطق (استبعادي)، هو يستبعد الدين، بصورة خاصة، وهو يستبعد الدين، لأنه حسب فهمه يفرق بين الناس، بسبب أنه في كل مستوياته يقوم على العقيدة.. وهنا تكمن المغالطة المنطقية الكبرى، بالنسبة للمنطق المدني، فحسب هذا المنطق، الناس خارج إطار الدين يمكن أن يتحاوروا لأنّ تفكيرهم، لا يقوم على عقيدة.. والمفارقة تأتي من أنه لا يوجد علم، في أي مجال من المجالات، ولا في أي مستوى من المستويات، إلا والعقيدة مقدمة ضرورية له، ومصاحب دائم له!! هذا ينطبق على الدين كما ينطبق على العلم المادي التجريبي، فصحة أي علم تتوقف على صحة العقيدة التي قام عليها، فإذا فسدت هذه العقيدة، فسد العلم المبني عليها، وهذا أيضاً ينطبق على العلم المادي التجريبي، كما ينطبق على الدين.. ولا توجد عقيدة، إلا وتقوم على علم.. وكل علم يشكل قاعدة عقيدية، لعلم أكبر منه، فالاختلاف بين العقيدة والعلم هو اختلاف في المقدار _هو اختلاف في درجة الوثوق، ودرجة الصحة، ودرجة الإحاطة_ وهذه الأمور الثلاثة، لا مجال لاستقصائها، بصورة تامة.. فكل علم، مهما بلغ من الرفعة هو علم ناقص، وهنالك ما هو أكمل منه، وهذا ينطبق حتى على علم اليقين _باستثناء حالة واحدة، هي الشهود الذاتي_ وهذه ليست علماً، بالمعنى الذي نتحدث عنه.
ما هو موضوع العلم؟ أو ماذا نعلم؟ موضوع العلم، في كلمة واحدة هو (الحقيقة).. والحقيقة تتعلق بالوجود، فكل ما هو موجود هو موضوع للعلم.. والعلم بالموجود، يتضمن أولاً حقيقة وجوده، من عدم وجوده، ثم معنى طبيعة وجوده، وهنا مجالات لا حصر لها، من مجالات المعرفة بالشيء الواحد.
ما هو مصدر المعرفة؟ وكيف نعرف؟ في الفكر الديني مصدر المعرفة لجميع الخلائق واحد، هو الله في ذاته، فكل علم هو مستمد من علمه، وهو الذي يعلمه في الحقيقة.. كما أنه تعالى، في ذاته، وفي تنزلاته، هو موضوع المعرفة.. وتنزلاته في جميع صورها، ليست أغياراً.. فالمعنى الجامع لكل شيء، هو الله.. فمعنى الشيء، هو ما يشير إليه، أو ما يدل عليه.. فما من شيء إلا ويشير إلى الله، ويدل عليه.. أما في غير الدين، فمصدر المعرفة، يختلف باختلاف الأفكار والفلسفات، فهو في المادية، يمكن أن يكون الكون المادي، فهو مصدر المعرفة، وموضوعها، ويمكن أن يكون العقل، فهو مصدر المعرفة ووسيلتها، ويمكن أن يكون الحدس.
أما طبيعة المعرفة، فهي علاقة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة.. وتتفاوت هذه العلاقة، بين ما تدركه الحواس _الإدراك الحسي_ وما تدركه العقول، وما تدركه القلوب.. فكل مستوى من المعرفة يصحح ما هو دونه، وهذه عملية سرمدية، فالمعرفة تتم، وتنمو عن طريق التجربة، في الخطأ والصواب.. والمعرفة تقتضي، رؤية موضوع المعرفة كما هو، وهذا أمر أمامه عقبات عديدة منها خداع الحواس، وخداع العقول، ودخول النفس وأغراضها، وتحيزاتها.. فمن أجل المعرفة السليمة، لا بد من التخلص من هذه العقبات والمعوقات، أو تصفيتها..
الوسيلة الأساسية للمعرفة، في مستوى التعدد، هي العقل.. وبديهي أن العقل ليس مكتفياً ذاتياً، ولا يمكن أن يكون مستغنياً بذاته.. وعلى كلٍّ، هو يبدأ من بدايات بسيطة، في الطفولة، ثم ينمو ويتعلم من خلال تجربة المجتمع المنقولة إليه، عن طريق وسيلة اللغة، ووسيلة المجتمع.. والمعرفة، عبر كلا وسيلتي اللغة والمجتمع، تحتاج إلى التصحيح، بصورة دائمة.. فما ينقله لنا المجتمع، وما تنقله لنا اللغة، ليس أكثر من عقيدة، تحتاج أن تُمحص، وتُصحح، لتصبح علماً.. وبالطبع قد لا تصحح، وقد يعتبرها صاحبها، طالما هي رأي الجماعة، أنها الحقيقة.. وهذا يجري في كثير من الأحيان، دون أن يشعر صاحب الاعتقاد، هذا، بحاجته لتصحيح اعتقاده.
وبالطبع هنالك علم نافع، وعلم غير نافع أو ضار.. فالعبرة بالعلم النافع.. ونافع هذه، تتوقف على صحة المعيار الذي نقيس به.. وهذه، بدورها، تتوقف على إطار التوجيه، الذي تتتحدد وفقه الوسائل والغايات، وتتحدد وفقه المفاهيم.. فالعقل، في جميع الحالات هو وسيلة الحياة.. ولكن ما هي الحياة؟ هنالك اختلاف جذري بين مفهوم الحياة في الفكر العلماني، وفي الدين.
المهم أن الحياة في الدين أكثر من مجرد العيش، الذي يلتقي فيه الإنسان مع الحيوان.. فالحياة في الدين تحتاج الى تهذيب لتصبح حياة عليا، حياة إنسانية.. وهذا المستوى الثاني من الحياة، لا وجود له إطلاقاً، في غير الإسلام، كما تطرحه الفكرة الجمهورية.. فالحياة الدنيا وسيلة للحياة الأخرى.. ومن العلم ما يخدم الحياة الدنيا، وهذا مشترك بين الدين والعلمانية، مع اختلاف أساسي، هو أن الدين منذ البداية يضع العلم موضع الوسيلة للحياة العليا.. وعندما تصبح الحياة الدنيا غاية يصبح العلم بها من العلم الضار، لأنه يكون حجاباً، حائلاً دون الحياة الأساسية، الحياة العليا، وهي وحدها الحياة، لأنها الحياة الباقية.. والاختلاف بين الحياة الدنيا والحياة العليا، هو أساساً اختلاف في (القيم)، كما هو اختلاف في مستوى العقل والعلم.. فللحياة الدنيا عقل المعاش، وللحياة العليا عقل المعاد، كما جاء التعبير في الفكرة الجمهورية.. وبالمناسبة هذا أمر وصل له الغرب، في وقتنا الحاضر، إذ أصبح يعتبر العقل مجرد أداة للعيش _العقل الأداتي_ مع اختلاف أساسي مع الدين، إذ يرى أصحاب هذا الرأي، من مفكري الحضارة الغربية أنه لا يوجد، مستوى من العقل، أكثر من مستوى العقل الأداتي، وأن العقل بطبيعته ليس وسيلة للمعرفة، وإنما هو فقط وسيلة للعيش.. وأن قضايا الوجود الكبرى _كما يقول جون ديوي_ لا توجد وسيلة لمعرفتها.. ودون معرفة قضايا الوجود الكبرى، لا معنى للمعرفة، ولا معنى للحياة.. وهذه هي أزمة الانسان المعاصر الحقيقية، وكل القضايا الأخرى تتبع.. وقول ديوي _وآخرين غيره_ صحيح، في إطاره.. فقضايا الوجود الكبرى، لا مجال لمعرفتها _وهي لا بد من معرفتها_ اعتماداً على العقل وحده.. فما ينقص العقل هنا هو العقيدة الصحيحة، التي لا وجود لها خارج الدين _وبالطبع ليس كل دين..
هنالك فرق شاسع جداً، بين أن تكون الحياة هي هذه الدورة من الميلاد وحتى الموت، وبين أن تكون هنالك حياة بعد الموت.. وحياتنا كلها متأثرة بالموت، والخوف من الموت.. ولا مجال لمعرفة حياة ما بعد الموت، إلا عبر المعرفة الدينية التي تبدأ من العقيدة.
فالعقيدة أمر أساسي جداً للفكر، وللحياة، عند جميع البشر.. فحياتُنا كلها تقوم على العقيدة، ولا يمكن أن تستقيم بغير العقيدة.. ففي الحياة اليومية، كل العلوم الطبيعية خارج تخصصنا، هي بالنسبة لنا مجرد عقيدة، وهي عقيدة تعتمد عليها حياتنا.. وأحب أن أضرب مثلاً بمجال الطب لما له من علاقة مباشرة بالحياة.. فالمريض عندما يذهب للطبيب، هو يعتقد أن الطبيب سيعالجه، لأن هنالك لافتة في عيادته، أو حدثه أحدهم عن، أنه درس الطب في جامعة ما، وتخصص في مجال معين.. وهو عندما يتناول الدواء قد لا يعلم، بالضرورة، العلاقة بين مرضه، والدواء، وهو يثق أن الصيدلي أعطاه الدواء الصحيح.. وكذلك صاحب القضية عندما يذهب للمحامي، ومن يريد أن يشيد منزلاً، عندما يتعامل مع المهندس.. والمعرفة في المجالات المختلفة، في العلوم، نحن نؤمن بصحتها، لأننا نؤمن بالعلم بصورة عامة، وإن لم تكن لنا معرفة بالعلم المحدد.
الغيب:
مما يجعل العقيدة أمراً أساسياً، أن حياتنا كلها محاطة بالغيب، ونحن لا نكاد نعلم شيئاً عن الكون الذي نعيش فيه، وكل ما لا نعلمه لا مجال لأن نتعامل معه إلا عن طريق العقيدة في البداية.. ثم إننا دائماً نعيش على أمل ما، والأمل يتعلق بالمستقبل المجهول، فهو غيب، ولا مجال للتعامل معه إلا عن طريق العقيدة في البداية.. إن أبسط، وأوضح تعريف للغيب، يمكن أن يكون هو كلما غاب عن عقولنا، وحواسنا.. والعلم، كل علم، هو تحويل المعلوم، من الغيب الى الشهادة.. وهذا التحويل لا يتم إلا عن طريق العقيدة.. وأول العلم وأبسطه هو الإدراك الحسي.. ونحن عندما نخرج من خلوة الرحم، نبدأ بتحسس بيئتنا، بحواسنا المختلفة، لنعلم عنها.. والفضل الأكبر في تعلمنا يرجع، من بعد الله، الى بيئتنا الاجتماعية، خصوصاً الأسرة، وبصورة أخص الأم.. فنحن نأخذ ثقافة مجتمعنا كمسلمات، وتلعب اللغة دوراً اساسياً في ترسيخ هذه المسلمات.. ولا سبيل للمعرفة، ونمو القدرات العقلية، إلا هذا السبيل.. وهو، هو سبيل الإيمان.. وستظل ثقافة مجتمعنا، ولغته، تشكل الخلفية الأساسية، لمعرفتنا، عن وعي، وعن غير وعي، منّا.. ولا يأتي التصحيح إلا لاحقاً، وهو لا يأتي لكل الناس.. والإدراك الحسي، الذي هو أصل الإدراك، ليس معرفة للأمر كما هو عليه، ولذلك هو إيمان.. نحن نؤمن بأن الأشياء هي كما تدركها حواسنا، ولكنها ليست كذلك!! أنا مثلاً، أرى الآن شجرة خضراء أمامي.. وكل انسان _غير مصاب بعمى الأوان_ سيراها خضراء مثلي.. ولكن هذا اللون الأخضر، وأي لون آخر، غير موجود في الطبيعة، وإنما هي درجات في الضوء.. فكل البشر يدركون الألوان في الطبيعة، وإدراكهم هذا، ما هو إلا إيمان، بمعنى أنه لا ينطبق على الحقيقة، ومع ذلك هم يجمعون عليه، ويشكل بعداً أساسياً في الحياة، لا تكون الحياة من دونه ممتعة.. هذا البعد هو الجمال!!
وكذلك، كل ما ندركه في الوجود، بحواسنا، ليس هو ما عليه الأمر في الواقع!! وذلك لازدواجية حواسنا، ولأن الزمن بعد أساسي، في رؤيتنا للأشياء.. ونحن لأننا نرى بالضوء الذي ينعكس لنا من الأشياء، فنحن دائماً نرى تاريخها، وليس واقعها في اللحظة التي نراها.. فعندما يصلنا الضوء من الشيء الذي نراه، يكون قد مضى وقت من الزمن، حسب المسافة، وبما أن كل شيء متغير، فإن الصورة التي نراها للشيء، تختلف عن واقعه في لحظة الرؤية.. وإذا كانت المسافة بعيدة، يكون الأمر، أوضح.. فقد تكون رؤيتنا للنجم الذي نراه الآن، هي واقعة قبل ملايين السنين، وقد يكون النجم في هذا الوقت، الذي نراه فيه، قد فنى!! وهنالك جوانب كثيرة، مدهشة، يثيرها علم الأعصاب الحديث في هذا الصدد.. ما أريد أن أصل اليه، هنا، هو أنه حتى بالنسبة للادراك الحسي، إن معظم ما ندركه، ليس معرفة، وإنما هو إيمان (عقيدة). والإيمان، بحسب الفكرة الجمهورية، هو القيومية التي بها قامت جميع الأشياء.. فليس هناك عمل، لا يقوم على الإيمان، يمكن أن يكون صالحا (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا)..
العلم الحديث:
لقد كان علماء، العلم المادي التجريبي، إلى وقت قريب، يعتقدون، أن منهجهم _المنهج العلمي_ هو وحده المنهج الموثوق به، وكل المناهج الأخرى غير علمية، وأن حقائق العلم، هي وحدها، الحقائق، لأنها تقوم على الواقع المادي، وليس على الغيب.. واتضح الآن، أن كل هذا مجرد عقيدة، وفقد العلم، والمنهج العلمي، تلك الوثوقية، التي كان يضفيها عليه سدنته، وذلك بفضل الله، ثم بفضل تطور العلم نفسه.
لابد من الاختصار، فأنا أريد هنا أن أؤكد أن العلم المادي التجريبي، ككل معرفة، يقوم على العقيدة بصورة أساسية، تجعله يكون مستحيلاً دون هذه العقيدة!! وهو مصحوب بالعقيدة في جميع أطواره.. ومن باب أولى بالطبع العلوم النظرية.
فالمعرفة، كل معرفة، إنما هي معرفة الحقيقة.. وغاية العلم، كما يرى أصحابه هي معرفة الحقيقة، كما هي في الواقع.. فما هي الحقيقة العلمية؟! يرى بوانكاريه، وهو من كبار فلاسفة العلم، أن الحقيقة، هي: (العلاقات بين الأشياء التي يشترك في إدراكها جميع الكائنات المفكرة، على أن تنتج الانسجام الكلي الشامل).. ويقول برونسكي: (الوحدة الداخلية، والاتساق، والتماسك، في العلم هو الذي يتيح له الصدق "الحقيقة")... ويقول د. قنصوة: (لا يمكن وضع الحقيقة العلمية خارج العلم المتغير، بل تظل دائماً تحت الاختبار المتواصل.. وهي ليست انعكاساً للوجود أو الواقع في مرآة العلم، لأن العلماء لا يكفون عن تغيير الطبيعة لخدمة أهدافهم).. ويقول أيضا: (الحقيقة العلمية ليست هي الواقع reality، بل ما يقرره العلماء عن هذا الواقع، وليست ثمة حقيقة علمية نهائية، بل تواصل النظريات المتعاقبة خطواتها على طريق ذلك الطموح والتطلع، الذي لا يكف لحظة عن التقدم، ولا يزال العلم حتى اليوم مجازفات ومخاطرات، وكل (حقائقه) موقوتة، لا تبقى كذلك إلا إلى حين).. هذا ما عليه جميع العلماء اليوم.
هذا عن الحقيقة في نظر العلم، فماذا عن مدخل العلم لهذه الحقيقة الموقوتة والمتغيرة؟!
إن المنهج العلمي، يقوم على العقيدة، بصورة حاسمة ولا مجال للاختلاف حول ذلك.. فهو يقوم على مسلمات أساسية، لم يبرهن على صحتها، لا عقلياً، ولا تجريبياً، وإنما يسلم بصحتها ابتداءً.. من هذه المسلمات:
1. الانتظام في الطبيعة.
2. الاطراد Uniformity، وهو يعني أن هذا النظام متكرر الوقوع في اطراد.
3. العلية: وهي تعني أن هذا الاضطراد محكوم بالعلاقات العلية بين السبب والنتيجة.
يقول د. صلاح قنصوة: (يسلم رجل العلم، وهو بحكم تعريفه من يستخدم المنهج العلمي، يسلم قبل المضي في خطوات، اصطناع إجراءاته، بمبدأ الحتمية، لأنه إذا ما كان عليه أن يصف مجرى الحوادث، ويفسرها، ويتنبأ بها، ويتحكم فيها، فلابد أن يكون ثمة ضمان يكفل له الاطمئنان في بلوغ نتائجه التي يستخلصها من مجموعة محددة من الوقائع.
فمن المستحيل أن يعرض رجل العلم لكل الوقائع القائمة في كل زمان ومكان، وحسبه ما يحتاج له منها، أو يختاره، أو يصفه، لكي يصل الى التعميم الذي يهيء له أداء وظائف المنهج العلمي من وصف وتفسير وتنبوء وتحكم.. ولن يتحقق له ذلك إلا إذا افترض قبل الشروع في العمل، أن العالم من حوله خاضع لحتمية تجعل ما يصدق عليه هنا يصدق عليه هناك، وما يصدق الآن يصدق في كل زمان.
ويعني هذا أن الظواهر تحدد وقوعها شروط لا تسمح باستثناء.. بيد أن مبدأ الحتمية نفسه يتضمن افتراضات أخرى تسبقه وتحدد محتواه.. وأول هذه الافتراضات أن ثمة نظام Order في الطبيعة، والثاني هو أن هذا النظام متكرر الوقوع في اطراد Uniformity، والثالث هو أن هذا الاطراد محكوم بالعلاقة العلية Causality بين السبب والنتيجة).. ويقول: (فالعلم يبدأ إذا بالاعتقاد بأن العالم منظم).. ويقول الدكتور السيد نفادي: (العلم لاينبني على مباديء وحقائق، أي وقائع فحسب، ولكن أيضاً على مسلمات أساسية.. أولى هذه المسلمات تبلغ حداً من البساطة، يشيع معه إغفالها، وأعني بها القول إن (الطبيعة قابلة للفهم).. وما هذا إلا تأكيد لإيماننا بأن الظواهر التي يتألف منها عالمنا لا تبلغ من التعقيد أو الغموض حداً يستحيل معه فهمها.. والواقع أن هذا الاعتقاد طموح جداً، ولكن بدون هذه المسلمة لن نستطيع على الأرجح أن نشرع في القيام بأي أبحاث من أي نوع).. ويقول: (هنالك مسلمة أخرى يتميز بها العلم، وأعني بها التسليم بأن الطبيعة موحدة، فلولا هذا الايمان البسيط بوجود مجموعة واحدة فقط من القوانين الطبيعية، لما أمكن وجود العلم كما نعرفه الآن).. ويقول د. قنصوة: (أما اطراد الطبيعة فيعني اتصال الحوادث واستمرارها في الزمن وانتظام وقوعها، بحيث أن ما كان سيكون، وهذه المسلمة هي مصدر ما يسمى بمبدأ أو مشكلة الاستقراء في المنهج العلمي، بل هي أساس الاستدلال العلمي على وجه العموم.. فالدعوة القائلة بأن المنهج التجريبي قادر على البرهنة وإثبات الارتباطات الكلية اللامتغيرة، إنما هي دعوى قائمة على الاعتقاد بأن الطبيعة مطردة).
يقول عالم الفيزياء فاينبيرغ: (العلماء شأنهم في ذلك شأن الفنانين، يعتمدون اعتماداً شديداً على الحدس.. فغالباً ما أعرض عن منهج كامل في البحث لمجرد إحساسي بأنه غير صحيح، أو قد أمضي شهوراً في تطوير منهج آخر لمجرد إحساسي بأنه صحيح).. والعقيدة حول مسلمات العلم، أو مصادراته، لا خلاف حولها.
رغم أهمية مبدأ السببية لابد لنا من الاختصار.. فمبدأ السببية هو من المباديء العقلية الضرورية التي لا تحتاج الى برهان، فنحن، في جميع تفاصيل حياتنا، نعمل لأغراض، ونتخذ ما نعتبره أسباباً تؤدي اليها.. ومفهوم السببية هو ما يستند إليه الاستدلال في جميع مجالات التفكير الانساني.. فالدليل عند العقل، هو سبب صحة المستدل عليه.. وخطأ الاستدلال يؤدي بالضرورة الى خطأ النتيجة، المستدل عليها.. يقول مارجينو: (إن مبدأ السببية، في الحقيقة، أحد الشروط الميتافيزيقية الضرورية لقيام النظرية الطبيعية).. ويعلق أبو ريان، على ذلك، بقوله: (وهذه الفكرة تعتبر في واقع الأمر كمصادرة أو فكرة تكاد تكون غريزية.. فالمناهج العلمية في حاجة إلى مصادرات فلسفية قبلية، مثل الإيمان بالسببية، وبساطة الطبيعة ومعقوليتها، وقانون أقل جهد)..
وحتى نهاية القرن التاسع عشر، كان العلم الكلاسيكي، يقوم على الحتمية السببية، أما بعد النسبية، ونظرية الكوانتم، فإن الأمر قد اختلف بصورة جذرية.. لقد انتفت الحتمية من السببية بصورة نهائية، فلم تعد الأسباب تؤدي الى النتائج بالضرورة، فهي قد لا تؤدي!! والعلم بطبيعته لا يبحث عن السبب الحقيقي أو النهائي، وإنما يبحث فقط عن السبب المباشر، وحتى هذا لا تكون النتيجة فيه إلا في حدود احتمال احصائي!! يقول د. السيد نفادي: (إننا لا نبحث في عالم الوجود الواقعي عن الأسباب النهائية مطلقاً، إنما كل ما نريد التوصل إليه هو الأسباب الثانية أو ما يسمى بالأسباب المباشرة لحدوث ظاهرة ما، سواء أن كانت مثل هذه الأسباب، بالمعنى الأصغر لها أو بالمعنى الأكبر الذي ذكره موي).. فالعلم يبحث عن (كيف) تحدث الظاهرة، وليس في (لماذا) تحدث، إلا اذا استعملنا (لماذا) بمعنى (كيف).
يقول فرانك: (إذا حاولنا البحث عن العلاقة السببية بشكل كامل وخالص ومطلق، فلن نستطيع العثور عليها، إذ أنها تعمل بشكل تقريبي، وفي عمليات معينة، تحدد بالزمان والمكان وحتى هذا لا يكون إلا في حالات خصوصية فقط).
ويقول دابرو: (في ضوء الاستجابة العملية لاختبار مبدأ السببية الدقيق عن طريق التجربة: ينبغي النظر إلى هذا المبدأ على اعتبار أنه عقيدة يمكن للبعض قبولها أو يمكن للبعض الآخر رفضها).. ويرى تايلور: (إن عيوب المقولة السببية، باعتبارها مبدأ تفسيرياً، تكمن في أنها تقودنا إلى الارتداد اللامحدود، والارتداد اللامحدود، يعني ببساطة، أنه إذا توصلنا الى سبب ظاهر، فمعنى هذا أن هنالك سبب آخر يسبقه إلى ما لانهاية)!!
والمشكلة كلها، فاقمتها نظرية (اللاتعين) أو عدم اليقين، لهايزبيرج.. فاكتشاف عدم الانتظام في جزيئيات الذرة، جعل هنالك تصوراً في العلم المادي، أن الكون في بنائه الأساسي يقوم على العشوائية، وليس الانتظام.. فظهرت، من ثم، نظرية العشوائية Chaos Theory وقد عارضها اينشتاين بشدة، ولكن لم يستطع دحضها فيزيائياً، وقد قال قولته المشهورة: (إن الله لا يلعب النرد)!! وهذا حق، ولكن اينشتاين رجع فيه إلى مجال الدين، وليس مجال الفيزياء.. وهي قضية لا حل لها إلا بالرجوع إلى هذا المجال الذي رجع له اينشتاين في مقولته هذه.. فالقضية بالنسبة للعلم والدين، وأي تفكير بشري، ليست في وجود العقيدة أو عدمها، فالعقيدة دائماً موجودة، وإنما القضية في صحة العقيدة، التي يعتمد عليها العلم الصحيح.
منهج العلوم يقوم على الفروض، ومن المستحيل في حقه الوصول الى أي نظرية دون البدء بفرضية.. والفرضية اعتقاد.. صاحب الفرضية يعتقد أن تفسير الظاهرة هو بالصورة التي تقترحها فرضيته، ويعمل على إثبات ذلك من خلال التجربة، فإذا نجح، فبها، وإلا بحث عن فرضية أخرى.. فالقانون هو فرضية، تم إثبات صحتها بالتجربة.. وبما أنه لا يوجد أي قانون نهائي في العلم، فلا نظرية نهائية، فحتى النظرية يمكن إثبات خطئها، ولذلك العقيدة يقوم عليها العلم، وتصحبه في جميع مراحله..
والمعرفة التي يقود إليها العلم، هي معرفة الأسباب المباشرة، وبالصورة التي ذكرناها عن السببية.. أما السببية الغائية، فليس للعلم فيها نصيب، وهي مرفوضة عند علماء العلوم الطبيعية، بصورة مبدئية.. أكثر من ذلك، هي عندهم تفسد العلم. من أقوال قنصوة: (ليس في العلم علية غائية تحكم كائنات الطبيعة).. ويقول بيكون: (إن مطلب الغائية يفسد العلوم، بدلاً من أن يرقى بها).. أما ديكارت فيقول: (كل دروب الغائية لا قيمة لها، في الأشياء المادية أو الطبيعية).. علماً بأن العلية الغائية هي أساس المعرفة، وقد أصبح هنالك من علماء الطبيعة من يدركون أهميتها، كما يدركون في نفس الوقت أنها خارج مجال علمهم.. ولقد تمت مناقشة الموضوع برمته بشيء من التفصيل في كتاب (المعرفة وطبيعة الوجود) الذي صدر مؤخرأً، عن دار النهضة العربية، القاهرة.
يقول صاحب المنطق المدني عنه، إنه: (ليس محتوى محدد من أي منظور فلسفي، ديني أو مفهومي معين).. ثم يناقض نفسه مباشرة، ويجعل للمنطق المدني، مضموناً محدداً، فيقول عنه إنه هو (الخطاب الذي يقوم على مرجعية المواطنة)، وهذا مفهوم سياسي محدد.. وهو يستبعد المرجعية الدينية بقوله: (وليس المرجعية الدينية العقائدية)!! فمنطقه، إذن، يقوم على نفي المرجعية الدينية العقائدية، وهذا النفي، نفسه، مفهومٌ محدد.
إن شرط د. عبدالله هذا، بضرورة استبعاد المرجعية الدينية العقائدية لا قيمة له.. ذلك أن أهم الحوارات ينبغي أن تكون حول الأطر المرجعية المختلف حولها.. وهذا هو الحوار الأساسي، وكل القضايا الأخرى تتبع.. والنقطة، الجوهرية في هذا الجانب، هي: هل العقل وحده هو المرجع، أم العقل هو نفسه محتاج لإطار مرجعي.. كما أن شرط د. عبدالله هذا مستحيل، وأوضح دليل على ذلك، أنه هو صاحب الشرط لم يستطع أن يلتزم به.. وهذا ليس مجرد استنتاج مني، ولا هو مبني على معرفتي بدكتور عبدالله، وإنما هو ما يقوله هو بنفسه!! فهو صاحب عقيدة، حسب قوله: (مقترحي أيضاً يرتكز على الإيمان بأن تصنيفات الفهم التي يوظفها الناس في حيواتهم اليومية لا يمكن تقسيمها ببساطة، الى علمانية (أي غير دينية) وأخرى دينية).. وهو يرى أن العقيدة لا تفارق الدين حتى في مرحلة العلم، ولهذا فهو يستبعد شريعة الرسالة الثانية، من هذا الباب، إذ يقول مؤكداً على قوله بضرورة استبعاد العقيدة وعدم الاعتماد عليها: (وهذا القول عندي ينطبق على الشريعة السلفية كما ينطبق على ما أعتقد بأنه شريعة الرسالة الثانية. فعقيدتي في شريعة الرسالة الثانية لا تجعلها قانوناً للدولة)!! إذن، د. عبدالله صاحب عقيدة، ليس فقط بمعنى عقيدته في الرسالة الثانية، وإنما بمعنى الاعتقاد بأن الشريعة الدينية، لا تصبح قانوناً للدولة إلا إذا تم تشريع القاعدة القانونية من خلال المنطق المدني!؟ أكثر من ذلك عقيدته هذه هي عقيدة خاصة جداً، وتقوم على مستحيلات!! ثم إن ما يريد أن يصل إليه، لا يحتاج الى كل هذا اللف والدوران، فقد قالته الفكرة ببساطة ووضوح، عندما قالت: (العبرة ليست بالنص، وإنما بفهم النص)، وعندما أوردتْ قول على بن أبي طالب: (المصحف لا ينطق وإنما ينطق عنه الرجال).. وبصورة خاصة عندما قالت: (ليس هناك قوانين سماء، وقوانين أرض إلا في أوهام الواهمين) وحين قالت: (والقوانين الإسلامية ليست بدعاً في ذلك.. فإنها في حقيقتها وضعية.. ونبتت من الأرض.. وكل ما هنالك أنها عرضت على المثل الأعلى، القانون الطبيعي، فهذبها وشذبها، ونسقها، وعطل منها ما لا يستقيم مع الاتجاه المستقيم) وعندما قالت: (وكذلك الأنبياء، فإنهم يجدون العادات والتقاليد، صالحها، وفاسدها، مختلطاً في عقول، وفي معيشة أممهم.. وهم، بما أعدوا به من أدب السماء، يميزون بين العادات الضارة والعادات الحسنة.. وهذا هو السر في كثرة ورود كلمة (المعروف) في القرآن، فإن المعروف هو ما تواضع عليه الناس، بشرط أن لا يكون معوقاً لغرض من أغراض الدين، وجماع أغراض الدين تحقيق كرامة الانسان).. ونحن لنا إلى هذا الأمر عودة..
إن المنطق المدني لابد أن يقوم على العقل.. والعقل إما أن يكون مكتفياً بذاته، ولا يحتاج، لأي إطار توجيه غيره، كما كان يرى فلاسفة القرن الثامن عشر..أو أنه يحتاج الى إطار توجيه.. وواضحٌ من دعوة د. عبدالله، لضرورة التخلي عن العقيدة، كشرط للمنطق المدني، أنه يرى الاعتماد على العقل وحده، دون الحاجة الى إطار توجيه.. وهذه عقيدة في العقل قد خلفها الزمن بصورة جلية.. بل إن العلم الحديث، قد حسم، وبصورة نهائية، وهم الإرادة الحرة، الأمر الذي يقتضي طرح جميع القضايا، في إطار الواقع المعرفي الجديد.. ولدكتور عبدالله، في طرحه، مشكلة حقيقية في التعامل مع الواقع ، سنتعرض لها في موضعها.
العقيدة والدين:
رأينا أن د. عبدالله، في منهجه الاستبعادي، المسمى (المنطق المدني) يستبعد الدين من الحوار البشري، في مجال السياسة والقانون، بحجة أن الدين في جميع مستوياته، يقوم على العقيدة.. وذهبنا، نحن، إلى أن الفكر البشري في جميع مجالاته، وجميع مستوياته، يقوم على العقيدة، وتحدثنا عن ذلك، بصورة عامة، وفي مجال العلم المادي التجريبي بصورة خاصة، وذلك على اعتبار أن العلم يقوم على التفكير المادي بطبيعته، وإذا كان هنالك انكار لأهمية العقيدة، فالتفكير المادي هو الأقرب لهذا الإنكار، على اعتبار ما فيه من افتتان بالتفكير العلمي.
والآن نريد أن نتحدث عن العقيدة في مجال الدين، وهو الموضوع الأساسي، لأن د. عبدالله يستبعده، ولأن طرحه أساساً يقوم على العلاقة بين الدين والدولة _فصل الدين عن الدولة.. وأحب أن أؤكد أولاً، ما ذهب اليه الأخ عبدالله، من أن الدين في جميع مستوياته، يقوم على العقيدة _الإيمان_ فنحن في هذا نتفق معه.. ولكننا نختلف معه، بصورة جذرية، بأن هذا الأمر قاصر على الدين، وحده.. فقد قلنا إن موضوع العلم، أي علم، وكل علم، هو معرفة الحقيقة.. وميزة المعرفة الدينية، التي لا تدانيها أي معرفة، في أي مجال آخر، هي صحة العقيدة، في الحقيقة.. والحقيقة، في الدين، هي ذات الله، وهي وحدها من لها ثبات وجودي، وأي حقيقة، سواها، ليس لها ثبات وجودي ولا تستطيع أن تدعيه.. وإذا كانت الحقيقة، متغيرة، فهي ليست بحقيقة، وإنما هي مظهر لحقيقة وراءها!! وأي علم، لا يقود الى حقيقة ثابتة، أو ينبني عليها، هو ليس بعلم، أو هو علم بمظهر الحقيقة.. فالحقيقة في الدين منذ البداية، تقوم على المطلق.. ولما كان المقيد، لا يمكن أن يحيط بالمطلق، فإن العقيدة دائماً مقدمة ضرورية لمعرفة المطلق، ولن تنفك.
ثم إن القانون الأساسي، والوحيد، الذي يسيّر كل الوجود، بما فيه الانسان، وعقل الإنسان، هو الإرادة الالهية، المتفردة.. وحول هذا الجانب تقوم أهم عقائد الدين بعد الإيمان بالله.. فالله تعالى، هو وحده الإله بمعنى أنه وحده، تعالى، الفاعل الحقيقي لكل ما يحدث في الوجود، من كبير الأشياء وصغيرها.. هذه الحقيقة، أهم ما جاء به الدين.. والسير الى الله، جله، يقع في إطار هذه الحقيقة.. ولما كان السير الى الله هو علم، وعمل بمقتضى العلم، يؤدي إلى تحقيق الحياة العليا، فإن العقيدة في وحدة الفاعل، التي تعبر عنها كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) لا يدانيها شيء في تحقيق غايات الوجود _غايات الكمال الإنساني.. لقد توصل العلم، بفضل الله، إلى أن الإرادة البشرية الحرة، وهم.. ولكن العلم لا يستطيع أن يخلص الانسان من هذا الوهم.. علماً بأن التخلص من هذا الوهم، هو السبيل الوحيد، لتحقيق الارادة الإنسانية الحرة، فبالتخلص من وهم الإرادة البشرية، والتسليم للإرادة الإلهية، تصبح الإرادة البشرية من الإرادة الإلهية، فتكون حرة، ونافذة (فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد)، كما جاء في الحديث القدسي.. وكل المستويات الأخرى من قضايا الحياة، وقضايا الفكر، تنبثق من هذا المستوى، وتتبع له.. وهذا المستوى لا مجال إليه، إلا مجال العقيدة الصحيحة، في كلمة التوحيد والعمل وفقها، وفي المنهج الذي يقوم عليها.. وما يميز هذا المنهج، بصورة لا يشاركه فيها أي منهج آخر، هو أنه منذ البداية، يقوم على العقيدة الصحيحة، في أصل الوجود، وغايته، والقانون الذي يحكمه.. وهذا لا يمكن أن يتوفر في أي مجال آخر.. ثم هنالك خريطة ترشد السير في شعاب الوجود، هي القرآن، وهنالك بوصلة، تحدد الاتجاه، هي التوحيد، وهنالك دليل يقود المسيرة، وقد خبر الطريق، هو أحمد، صلى الله عليه وسلم.. وكل هذه الجوانب، في أساسيتها، تقوم على العقيدة أولاً، ثم العلم، ثانياً.. ولا مجال لهذا العلم إلا بالعقيدة.. فأهمية الإيمان في الإسلام، أهمية كلية، فهو يقوم عليه كل شيء.. فليس في الوجود خير إلا ويأخذ مبدأه من الايمان بالله.. وليس هنالك عمل، لا يقوم على الإيمان يمكن أن يكون صالحاً.. فالايمان خير في ذاته، ولا سبيل الى الخير بدونه.. ومن جانب الحقيقة، لا يمكن لأي شيء، أن يكون مجرد كيان، بغير الإيمان، فهو القيومية التي قامت بها الأشياء.. والإيمان أصل في جميع مراقي الحرية _راجع أسئلة أحمد الحسين من كتاب أسئلة وأجوبة الأول _ 1970.. ومجرد كون الحقيقة مطلقة، يؤكد لا نهائية العقيدة، فكل معرفة، لا يمكن إلا أن تتقدمها مرحلة، لا يسعها إلا الإيمان، الذي يصبح بدوره قاعدة لمعرفة جديدة، في مستوى جديد.. ومما يزيد العقيدة توكيداً، وأهمية، أن من أسماء الله تعالى (المؤمن).. فقد جاء في القرآن، مثلاً قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن)..(الحشر-23) وقوله: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه).. (البقرة_285) .. وكذلك الحال بالنسبة لكل الأنبياء والرسل.
مرة أخرى القضية ليست إيمان أو لا إيمان، فالإيمان قائم في جميع الحالات.. بل القضية هي، هل هو إيمان بالحق أم إيمان بالباطل.. يقول تعالى: (بل كانوا يعبدون الجن، أكثرهم بهم مؤمنون)..سبأ_41.. ويقول: (والذين آمنوا بالباطل، وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون)..(العنكبوت_52).. فإما إيمان بالله وبما جاء به على لسان رسله، وهذا هو الإيمان الحق.. أو إيمان بغير الله وهو الإيمان بالباطل، ولا يخرج الأمر عن هذين الوجهين.
والإيمان الصحيح وسيلة للمعرفة الصحيحة، دينية أو غير دينية، ومقدمة ضرورية لها.. ولا يمكن أن تقوم معرفة صحيحة على إيمان خاطيء.. والإيمان نفسه معرفة، ولا يقوم إلا على معرفة.. وعندما يتحاور أصحاب العقائد _وهم قد ظلوا عبر التاريخ والى اليوم يتحاورون_ لا يقدمون في حوارهم مجرد عقيدتهم، وإنما يقدمون المعرفة التي تقوم عليها عقيدتهم، والمعرفة التي تؤدي إليها عقيدتهم.. فمثلا، من يؤمن بالله، لا يقول للناس، آمنوا بالله، لأنه عقيدة صحيحة، وإنما يقدم أدلة عقلية، يمكن أن يشترك فيها من لا يؤمنون.. وكذلك الحال لمن يؤمن بدين الإسلام، هو لا يقدم مجرد عقيدة Dogma وإنما يقدم من الأدلة والبراهين، ما يمكن أن يكون مشتركاً مع غير المسلمين.. فصاحب العقيدة، عندما يجادل حول عقيدته، يعمل على إظهار الحق الذي تقوم عليه، فهذا معنى قوله تعالى: (وقل الحقّ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).. والحوار حول الأديان، ليس قاصراً على أصحاب الدين الواحد، وإنما يشمل أصحاب الأديان الأخرى، وإلا لما انتصر دينٌ على دين، ولما قام دينٌ أساساً.. ولو كان هذا الحوار بين أصحاب الأديان المختلفة، أو أصحاب الدين المعين ومن يرفضونه، غير ممكن، لما أمر به الله تعالى.. ففي قوله تعالى: (وجادلهم بالتي هي أحسن)، المقصود مجادلة غير المسلمين.. وهذا ما ظل يجري عبر تاريخ البشرية، منذ أن عرفت البشرية الحوار.. وفي وقتنا الحالي، هنالك العديد من الغربيين، الذين يعتنقون الديانات الشرقية.. وقد قدم لنا أصحاب، الإعجاز العلمي في القرآن، أمثال زغلول النجار، العديد ممن اقتنعوا بالإسلام، ومنهم علماء طبيعة مرموقين.. ومما أقنع هؤلاء بالإسلام، تأكدهم من ورود بعض الحقائق العلمية، المتعلقة بآيات الأفاق في القرآن، لم تعرف إلا في القرن العشرين، ولا يمكن أن تعرف في الجزيرة العربية في القرن السابع االميلادي، الأمر الذي وكّد عندهم، أن القرآن لا يمكن أن يكون من عند محمد، صلى الله عليه وسلم.. مثلاً في الآية البسيطة (والبحر المسجور) كلمة مسجور في اللغة العربية تعني الملتهب ناراً.. وهذا حسب الظاهر يبدو مستحيلاً، فالماء والنار لا يجتمعان.. ولم يكن في وسع المسلمين، إلا أن يسعهم الإيمان، فيردوا الأمر الى قدرة الله.. أما الآن، بعد اكتشاف قيعان البحار، فقد اتضح أن (البحر المسجور) حقيقة علمية!!
المهم أن العقيدة، لا تقوم بغير علم.. ومن طبيعة البشر أنهم، لا يتبعون شيئاً لم تقتنع به عقولهم، ولذلك هم دائما يعارضون ما هو جديد، ويقاومونه بشدة (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً).. فعندما آمن سيدنا أبوبكر، آمن عن علم.. فهو حسب معرفته الطويلة، لصديقه، كان يعلم أنه لا يكذب، فعندما جاءت الدعوة لم يتردد في قبولها، لعلمه المسبق بصدق صاحبها.. وقد قاوم بعض كبار الأصحاب الدعوة وحاربوها بشراسة، وعندما اقتنعوا بها حاربوا الى جانبها.. المهم أن العقيدة لا يمكن قبولها إلا بعلم، في مستوى من المستويات، وهي سبب العلم، وهي، في ذاتها علم، يقول تعالى: (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم)..(البقرة_26).. ويقول: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم)..
الإيمان إنما يكون إيماناً بالغيب، فصاحبه، لا ينكر ما غاب عنه لمجرد أنه لا يدركه، وهو بذلك لا يجعل عقله، وعلمه، حكماً على الوجود. وهذا في حد ذاته علم، وعكسه جهل وادعاء، صاحبه غير مرجو في مجال المعرفة.
وكما أن الإيمان مستويات، كذلك الإيقان.. فكل يقين يقتضي العلم الذي يناسبه.. فأنا مثلاً، على يقين من وجود الطاولة التي أكتب عليها، ولكنني لا أعلم بكل ما يحيط بهذه الطاولة، فيقيني هو بوجودها، ولكن هنالك جوانب أخرى متعلقة بها أنا لا أعرفها، وبعضها لن أستطيع معرفته، والكثير مما يمكن معرفته، عن الطاولة، لا توجد ضرورة لمعرفته.
فاليقين مرتبط بمستوى ما يستيقن منه.. ونحن عندما نتحدث عن علوم اليقين: علم اليقين، وعلم عين اليقين، وعلم حق اليقين، فإننا نستخدم كلمة يقين هنا، استخداماً اصطلاحياً، يتحدث عن درجات معينة من المعرفة بالله، وليس أي معرفة أخرى.. وهذا لا يعني أن اليقين بمعارف دون هذا المستوى غير ممكن.. كما أن القول بأن مراحل الإيمان: الإسلام والإيمان والإحسان، كلها تقع في مرحلة الإيمان، لا ينفي عنها العلم، وإنما يحدد مستوى العلم.. والاختلاف بين الإيمان والإيقان اختلاف درجة.. فاليقين، في الواقع، هو زيادة الإيمان، حتى يتجاوز مرحلة العقيدة إلى العلم.. وهنالك العديد من مجالات المعرفة في المستويات الأدنى، يمكن أن يكون صاحبها على يقين منها، فيجب عدم الخلط بين المعنى الاصطلاحي، والمعنى اللغوي.. فاليقين بصورة عامة يعني: العلم الذي لا يكاد يكون فيه شك.. والشك دائماً موجود في مستوى من المستويات، وبه تكون الزيادة في العلم.. وعن المستويات الدنيا من اليقين، قال تعالى على لسان هدهد سليمان: (أحطت بما لم تحط به، وجئتك من سبأ بنبأ يقين) (النحل_22)، وفي موضع آخر يقول تعالى: (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة، قالوا هذا سحر مبين* وجحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم، ظلماً وعلواً، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين)..(النمل: 13_14).. (واستيقنتها أنفسهم) قطعاً لا تعني أنهم كانوا في مستوى علوم اليقين، فهم لم يكونوا أصحاب يقين بالله، وإنما بالآيات التي شهدوها.. وحتى الراسخين في العلم، لا يتجاوزون الإيمان، يقول تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به، كل من عند ربنا).. وكما يعبر الاستاذ محمود: نحن لا نسمو على العقيدة، وإنما نسمو بها، وعلى كلٍّ، جميع المعرفة الدينية في الأرض، منذ سيدنا آدم، وإلى اليوم، تقع في مراحل الإيمان، لا يخرج عن ذلك إلا المسلمين من الأنبياء والمرسلين.. وهذه المعرفة، التي تقع في مرحلة الإيمان هي أكبر معرفة تحققت في الأرض، ما عدا حالة الاستثناء التي ذكرناها.
هنالك آية، أعتقد أنها دامغة في توكيد أهمية الإيمان، يقول تعالى: (ومن يكفرْ بالإيمان فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين)..(المائدة_5).. (من يكفر بالإيمان) تعني، فيما تعني، من يكفر بمبدأ الإيمان، كما تعني أركان الإيمان.
أنا لستُ في حاجة لإيراد الكم الهائل من المعرفة الواردة في الفكرة، عن العقل وأهمية الفكر، في الإسلام، وعن دور المنهاج في تهذيب عقل المعاش، والانتقال به الى عقل المعاد، وكل ما ورد في هذا الصدد، في تراث الفكرة، ولكنني أحب أن أختم بهذا الحديث النبوي: (روى أنس رضي الله عنه قال: "أثني على رجل عند رسول الله بخير.. فقال لهم: كيف عقله؟ قالوا: يارسول الله نثني عليه بالعبادة وأصناف الخير، وتسألنا عن عقله؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الأحمق العابد يصيب بجهله أعظم من فجور الفاجر.. إنما يرتفع الناس في درجات الزلفى من ربهم على قدر عقولهم")..
يقول د. عبدالله: (ولا يصح افتراض أن المهيمنين على الدولة محايدون في آداء أعمالهم، لأن الناس يتصرفون وفقاً لمعتقداتهم ومبرراتهم الشخصية).. (الناس يتصرفون وفق معتقداتهم) هذا ينطبق على كل الناس، وهو في حق مَنْ مرجعيتهم المنطق المدني أوكد، لأن مرجعيتهم هذه لا علاقة لها من قريب أو بعيد بتهذيب العقول، وتربية النفوس ولا يمكن التخلص من الهوى، الذي يؤدي الى عدم الحياد إلا بالتربية الدينية الصحيحة.. من المستحيل أن يتم الحياد، بصورة تلقائية أو بدون منهج.. فمجرد إبعاد العقيدة من الحوار، لا يؤدي إلى إقناع الآخرين بالحجج.. والمنطق المدني عقيدة، هو عقيدة في أن الحوار دون العقيدة يعين على الإقناع بالحجج.. هو عقيدة في العقل المجرد، ولذلك هو عقيدة بدائية، قد خلفها الزمن بصورة واضحة.. وحتى في القرن الثامن عشر، في أوربا، لم يكن الاعتماد على العقل بهذا التطرف.. يقول د. عبدالله: (وليس المرجعية الدينية العقائدية التي يختلف فيها الناس بالضرورة) ويقول: (وينبني قولي هذا على أن الدين قائم على العقيدة دائماً، حتى لدى من يتجاوزون العقيدة من خلال الاعتماد عليها).. واضح أن صاحب المنطق المدني يؤكد أنه لا أمل في الحوار بالحجة والمنطق، إلا إذا استبعد الدين من هذا الحوار، بما في ذلك الدين في مستواه العلمي، الفكرة الجمهورية، نظراً لأن (الدين قائم على العقيدة دائماً حتى لدى من يتجاوزون مستوى العقيدة من خلال الدين)..
إذن، الضمان الوحيد، بحسب د. عبدالله، هو استبعاد الدين من الحوار، والاعتماد الكلي على المنطق المدني!!
الواقع، إن دعوة د. عبدالله هذه لا تستبعد الدين من الحوار، فقط، بل هي تعمد إلى استبعاده من أن يلعب أي دور في المجتمع.. فالإسلام دين مجتمعي، في المقام الأول، يعمل على تنظيم المجتمع، وإرساء أسس القانون والأخلاق، من القاعدة إلى القمة، وهو لا يقوم إلا بجميع أركانه، معاً.. هذا، ولا عبرة، بزعم د. عبدالله أنه يدعو لفصل الدين عن الدولة، والإبقاء على علاقة الدين بالسياسة.. فهذا الزعم إنما هو مجرد مغالطة، ومراوغة للإيحاء بأنه لا يزال يحتفظ للدين بدورٍ يؤديه في المجتمع.. ولكنّ الواضح، لكل ذي بصر، هو أن دعوة د. عبدالله هذه تهدف إلى تقويض أي دور محتمل للدين في حياة الناس، سواء في المجتمع، أو في نظام الدولة.. وهذه الملاحظة لاحظها، أيضاً، أحد زملاء د. عبدالله، ويدعى د. محمد فاضل، رئيس كرسي بحوث القانون والاقتصاد الإسلامي وأستاذ القانون المساعد في كلية القانون بجامعة تورونتو، كندا، وذلك في سياق مقال له بعنوان (سياسة الإسلام وسياسة العلمانية: هل يتعايشان؟) في التعليق على كتاب د. عبدالله (الإسلام وعلمانية الدولة)، وقد نشر المقال في الإصدارة الدورية المسماة (Journal of Law & Religion)، حيث يقول د. محمد فاضل إن النهج الذي يتبعه د. عبدالله، في منطقه المدني، لا يجعل مفهوم الدولة الإسلامية غير صحيح من الناحية المفهومية فحسب (وهو بالطبع ما يدعيه د. عبدالله!) بل إن هذا النهج يجعل الإسلام، نفسه، لا يقوم كدين في المجتمع!!
وهذا ما سأعمد إلى تبيينه، بالتفصيل والدليل، في هذه المقالات.
وسنرى في الحلقات التالية، منطق، المنطق المدني، كما هو مطبق عند صاحبه وداعيته.
خالد الحاج عبدالمحمود
رفاعة في 2011-09-08
abuzer bashir [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.