في الوقت الذي لم يعد يفصلنا عن الاستفتاء المزمع إجراؤه يوم 9 يناير 2011، سوى ثلاثة أسابيع، الذي سيقرر مستقبل جنوب السودان، سواء لجهة اٌلإقرار بخيار الانفصال،وهو الخيار الذي تبلورت حوله اقتناعات وبات مُسلماً به، أو لجهة بقاء السودان مُوحدا، وهو احتمال شبه معدوم،فإن المقاربة التي يقدمها الخطاب السياسي العربي، على اختلاف مكوناته الأيديولوجية والسياسية، في تناوله لأزمة جنوب السودان، تركز على صيرورة عمل جماعات الضغط الداخلية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وكذلك إسرائيل، اللتين تستهدفان تمزيق وحدة السودان في هذا المجال. لأن ما يحدث في جنوب السودان الآن قد يكون بداية مسلسل جديد لتقسيم يشبه ما حدث في عشرينيات القرن الماضي على يد إنجلترا وفرنسا وهما تقتسمان معاً ما بقي من الدولة العثمانية، أي إعادة إنتاج سايكس بيكو جديدة، من خلال إعادة تقسيم العالم العربي إلى دويلات صغيرة على أساس طائفي وعرقي،مازال حلماً في المشروع الأمريكي –الصهيوني. فالتيار القومي ينظر إلى انفصال جنوب السودان بوصفه سابقة تستهدف تفتيت العالم العربي كله من خلال تحريك مطالب الأقليات سواء كانت إثنية أو دينية، أو قبلية كي تطالب كل منها بدولة مستقلة. والمثال الذي يضربه هذا التيار في هذا السياق، هو حال العراق، الذي تم تدمير وحدته المجتمعية وتنوعه الديني والمذهبي والعرقي بعد الغزو الأمريكي في العام 2003، حيث عجزت السلطة العراقية الجديدة عن بناء دولة مدنية مركزية حديثة، الأمر الذي جعل الأكراد يستغلون ضعف السلطة المركزية لكي يعيدوا تجديد مطالبهم بشأن الانفصال وبناء دولة كردية مستقلة. ومازال المخطط الصهيوني المدعوم أمريكيا يراهن، ليس على تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات مستقلة فحسب، بل على تقسيم دول العالم العربي التي تعاني من انقسامات دينية ومذهبية وعرقية، إلى كيانات صغيرة حتى تصبح إسرائيل هي الدولة الكبرى.منذ سنوات قليلة قدم باحث إسرائيلي يدعى عيديد يينون دراسة لوزارة الخارجية الإسرائيلية عن مستقبل تقسيم العالم العربي أكد فيها على «ضرورة استغلال الانقسامات العربية لأنها تصب في مصلحة إسرائيل.. إن تفتيت العالم العربي يجب أن يكون هدفا إسرائيليا واضحا وصريحا وهناك عوامل كثيرة تساعد على ذلك». أما الحركات والأحزاب الإسلامية على تنوعها واختلافها، فهي تنظر إلى انفصال جنوب السودان من منظار أن الغرب والولاياتالمتحدةالأمريكية المسيحيين يساندان ويدعمان مسيحيي جنوب السودان ضد الحكم الإسلامي في الشمال. فيما تنظر الأحزاب الوطنية العربية ذات الطابع القطري إلى انفصال جنوب السودان بوصفه حدثاً سيقود إلى مزيد من بلقنة الدول العربية المهددة في وحدة نسيجها الوطني. فقد أدّى غياب دولة القانون في البلدان العربية، وسيطرة نموذج الدولة التسلطية، وانعدام الحريات الديمقراطية،و إقصاء تكوينات المجتمع المدني الحديث من الفضاء العام وإنتاج السياسة في صلب المجتمع، واستقواء الأنظمة العربية بالدول الغربية، ولاسيَّما الولاياتالمتحدةالأمريكية لمواجهة نمو تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي، كل هذه العوامل مجتمعة قادت إلى إحداث تقسيمات متوقعة على أساس ديني وعرقي في كل من مصر، والسودان،والعراق، واليمن. فهناك أغلبية عربية إسلامية.. وأقليات إفريقية، وأقليات مسيحية.وهناك الأكراد في شمال العراق.كما تعاني دول المغرب العربي من انقسامات كثيرة بين العرب والبربر ولا توجد دولة عربية لا توجد فيها انقسامات دينية وعرقية وثقافية... وهناك حرب أهلية في اليمن أهلية الصومال أيضا. ففي أثناء عدد من العقود أصبحت الأقليات المحصورة سابقاً كثيراً في فرصها الاستراتيجية بالنسبة لعلاقة قوى غير مواتية ونطاق مؤسسي ثابت وصارم (نظام الملّة)، دفعة واحدة، يتسع مشروعها السياسي الأقلوي إلى ما لا نهاية مجال الممكنات. فثمة تطلعات جديدة، كانت محبوسة أو غير معبّر عنها برزت، منفذة في تجسيد مشروعات سياسية متعلقة بأقليات عدد من الدول العربية. ومن الواضح أن عدداً من هذه الأقليات، المتكّسية فيما مضى في الدول العربية الإسلامية، تتطلع الآن في ظل أزمة الدولة العربية أن تصبح «أمماً» بالمعنى العربي للعبارة، مسلّماً بها بأن تتولد كل منها في دولة تكون خاصة بها. من هذا الواقع سوف تكون أولى الاختيارات الاستراتيجية المتعلقة بالأقليات وأكثر راديكالية، هي الانفصالية في مواجهة الدول العربية المتعددة الطوائف التي نشأت حديثاً على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، واتفاقيات سايكس بيكو.. وكان هذا الاختيار الانفصالي حقيقة نشاطه الأشّد في زمن هزيمة المشاريع الكبرى: القومية والماركسية والإسلامية، حيث كانت التقسيمات وإعادة تجميع المقاطعات، المنفَّذة عبر التلمِّسات والتجارب والتراجعات من قبل الدول الكبرى تعزز جميع الآمال الطائفية والإثنية للأقليات الانفصالية المتهمة بالتواطؤ مع القوى الغربية الكبرى، وإسرائيل. وهكذا، وجدت الدول العربية نفسها إذن من جديد مرمى لتنازع مزدوج يُمارس من جهة باسم الأقليات الطائفية والإثنية الانفصالية، ومن جهة أخرى باسم أمة عربية أوسع. وبالتالي ثمة مشروعان يفضحان «الطابع الاصطناعي واللاشرعية في الدولة العربية الحديثة »، يمزقانها بين خطر التجزئة على أساس ديني وعرقي، وخطر الاتحاد في كيانات أوسع. ومن المعروف أن مشروع وحدة البلدان العربية رغم إخفاقات عديدة في محاولات التوحيد لم يكف أبداً عن التمسك به من جانب عدد من الحركات السياسية العربية. ومن دون إنكار دور المخططات الاستعمارية الغربية والإسرائيلية في استثمار وقائع الأقليات الدينية والإثنية الموجودة على الأرض العربية توظفها لخدمة أهدافها الاستراتيجية في السيطرة على منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي، فإن موضوع جنوب السودان ليس وليد الدولة السودانية الحديثة، بل إنه قديم قِدَم الجذور التاريخية التي قامت عليها الدولة السودانية.