يلحظ المرء كيف أنه ما من صغيرة أو كبيرة في هذا الدين إلاّ وهي تحمل الوجهين معاً: البعيد والقريب.. المغيّب والمنظور.. العقدي والمنفعي.. الأخلاقي والمصلحي.. الجمالي والضروري.. وقس على ذلك سائر الثنائيات المتقابلة الأخرى على امتداد الحياة والخبرة البشرية. خذ مثلاً تحريم الإسلام للغيبة.. إنه موقف أخلاقي.. هذه مسألة معروفة.. ولكن إذا ما حاولنا تفحّص الجانب الآخر وقعنا على المنفعة.. فكثيراً ما يحدث وأن تمارس الغيبة ضد هذا الشخص أو ذاك، وكثيراً ما يتسّرب إليه ما قيل عنه، وقد يفاجئ الآخرين بالحضور.. فإذا بالعلاقات تتأزم، والوشائج تتقطع، والمصالح المتبادلة يصيبها التعثر والأذى. وقس على ذلك مفردات من مثل التجسّس، واستراق النظر إلى الجيران، والرياء، وسائر الممارسات اللاأخلاقية، والتي تقود بالضرورة إلى وجهها المنفعي، فتلحق الأذى بالطرفين معاً. فإذا ما وسعنا المنظور أدركنا كم ينطوي عليه هذا الدين من حكمة، وهو يحذّر ويكرّه، وينهي ويحرّم شبكة من الممارسات التي تنطوي على البعدين معاً، من أجل إقامة حياة سعيدة هانئة آمنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغداً من كل مكان. لنضرب مثلاً آخر على تحريم الإسلام للتبرج.. لتزيّن المرأة وتعطّرها للأجانب، وهي تجتاز النوادي والأسواق والطرقات.. إن ذلك سينعكس وبكل تأكيد إثارة للفتنة ونشراً للفساد، وإشاعة للتميّع، وإبعاداً عن الالتزام الديني.. بل إنه يمضي - على المستوى العملي - إلى ما هو أبعد من ذلك، فيدمّر السوية النفسية للشباب الذين لا يجدون فرصتهم للزواج، ويصيبهم بلعنة الإحساس الملتهب بالكبت والحرمان. من أجل ذلك ستعاقب المرأة التي يشم عطرها في الطرقات بأنها لن تشمّ رائحة الجنة على مسافة أربعين خريفاً.. أو كما قال رسول الله . بل إن هذا الدين يوغل في تعامله مع الظواهر، في خطوطها الخلفية.. في منابعها وبداياتها الأولى.. لكي يوقفها ويستأصلها قبل أن تتسع وتتكاثر وتغدو تياراً يصعب التصدّي له.. إنه يرفع شعار «الوقاية خير من العلاج» رغم أنه قد أعدّ العلاج؛ ليكون جاهزاً في اللحظة المناسبة. إننا - على سبيل المثال - نقرأ في كتاب الله: ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ 30 وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ (النور). ونحن نعرف جميعاً أن النظرة المتعمدة من الرجل للمرأة، ومن هذه للرجل قد تنزلق إلى ما هو أبعد، كما هو معروف في واقع الحياة، وقد تقود إلى ما لا تحمد عقباه، فيما هو معروف كذلك، وكلنا نتذكر قول الشاعر: نظرة فابتسامة فسلامٌ فكلام فموعد فلقاءُ.. وحتى لو توقفت النظرة عند حدودها السلبية التي لا تعقبها خطوة باتجاه الفعل، فإنها تلقي في نفس الناظر حزمة محرقة من التشهّي والإحساس بالحرمان، وتهيّج قوى الكبت المدمرة في أعماق نفسه. والرجل الرجل.. والمرأة المرأة.. هما اللذان يقاومان ببطولة هذا الإغراء عند حافاته الأولى.. ولسوف يكون مردود ذلك بمستوى القدرة على الامتناع: توحداً وطمأنينة وتحصيناً للخبرة الروحية والتعبدية من التضحل والازدواج، ولهذا حدثنا رسول الله [ كيف أن المسلم الذي يغض بصره يجد في نفسه - بالمقابل - حلاوة الإيمان. وكثير من المسلمين في مراحل شبابهم جرّبوا الاثنتين معاً.. وفي الحالين عرفوا كيف أن «التحذير» لم يقف عند حدوده الأخلاقية أو الدينية الصرفة، وإنما تجاوز ذلك إلى الجانب العملي الواقعي من الحياة. إنها هندسة الله سبحانه، المحكمة لمسيرة المسلمين في هذا العالم، وشبكة «الترافيك لايت» المدهشة للعلاقات الاجتماعية، والتي تحمي الحركة في اتجاهاتها كافة من الفوضى والتخبط والارتطام.