العقل السياسي الأمريكي عقل مفتوح يتعامل مع الاحتمالات والحقائق بأبعادها المتعددة. ولكنه يعطي الاعتبار الأكبر للحقائق القوية الفاعلة. أي تلك الحقائق التي تسندها مجموعة ضغط تنافح عنها, وتصر على استصدار سياسات مصلحية بشأنها. العقل الأمريكي قبل أي اعتبار آخر هو عقل براغماتي يفكر في المصالح أولا وثانيا وأخيرا . وأما عوالم الأخلاقيات والمثاليات والحقائق الموضوعية المجردة التي لا تسندها قوى سياسية، واقتصادية، وعسكرية، فهي آخر ما يرنو إليه العقل السياسي الأمريكي. نما العقل السياسي الأمريكي في ظل نظام سياسي يتسم بسمات التدافع، والتصارع. وهي سمات اعتمدت في فلسفة هذا النظام من أجل أن تصل به إلى مرحلة التوازن، فلا تستبد به جهة حاكمة واحدة. ولذلك يبدو نظام الضغط أو مايسمى باللوبي نظاما مشروعا, بل هو الآلية التي عن طريقها تتحقق كافة مصالح المجتمع. وتعج أرجاء الكونجرس بكافة ممثلي جماعا المصالح والضغط التي تعمد إلى التأثير على صنع القوانين والقرارات بما يحقق مصالح معينة لتلك المراكز. ويجتهد ممثلو تلك الجماعات في الاتصال بالنواب وإيصال معلومات معينة إليهم. والإلحاح في طلب تقديم شهاداتهم في جلسات الاستماع التي يزمع عقدها بخصوص إتخاذ تلك القوانين والقرارات. وعادة ماتكون جلسات الاستماع تلك جزء تمهيديا من مرحلة دراسة البدائل التي يتخذ منها القرار. ومجرد حضور ممثلي جماعات الضغط للجلسات البرلمانية، يحظى بتغطيات خبرية جيدة في وسائل الإعلام، الأمر الذي يزيد من وقع الضغط على متخذي القرار. وإذا كان الدستور الأمريكي قد أعطى الكونجرس السلطات الأكبر في مجال صنع السياسة الخارجية، فإنه أعطى السلطات التنفيذية حق اتخاذ السياسات التفصيلية, واقتراح مشروع السياسات الكلية . ويصعب الوصول إلى الرئيس الأمريكي، لأنه فرد لايمكن أن يقابل كل الناس، ولكن لا يصعب الوصول إلى الأجهزة التنفيذية الأخرى المذكورة آنفا. ويمكن توصيل وجهات النظر إليها عن طريق النواب، أو عن طريق المذكرات المكتوبة، أو عن طريق الكتابة إلى الصحف, فهي ذات تأثير شديد على صناع القرار. وقد أعطى الدستور الأمريكي للإعلام امكانات نافذة، بل جعله جزءا من النظام السياسي، يقوم بمهمة مراقبته وضبطه. وعلى عكس المفهوم السائد من أن الإعلام يتابع الأخبار, فإن الإعلام الأمريكى كثيرا مايصنع الأحداث ويوجه مسارها، كما فعل على سبيل المثال بقضية دار فور. فمجرد الإلحاح على نشر خبر ما بطريقة معينة في وسائل الإعلام كشبكات التلفاز الكبرى، والصحف اليومية العملاقة، كثيرا ما يعطي الرأي العام، وصناع القرار، وجهة معينة، ويحفز الجميع لاتخاذ قرارات باتجاه معين. ولهذا تتجه بعض مراكز الضغط لإحداث تهيئة إعلامية تمهيدا لتيسير اتخاذ بعض القرارات. وما يقال عن سيطرة مراكز الضغط الصهيونية على الإعلام الأمريكي هو صحيح في جملته. ولكن لا يعني أن اختراق تلك الأجهزة من قبيل المحال. وبشكل عام يجب الانتباه إلى أن الإعلام الأمريكي إعلام متقدم جدا, ولذا لابد من إعداد أهبة جيدة، وتأهيل أكاديمي وثقافي وأدبي وفني عال، من أجل التعامل معه، وقبل ذلك فهم مداخله وأساليبه. إن الصحف ووسائل الإعلام الأخرى ترحب بنشر المادة المتقنة جيدا, وفي أحيان كثيرة فهي ملزمة أدبيا بنشرها، وفي أحيان مخصوصة تلزم بذلك قانونيا. وفي الوضع العادي يجب ملاحظة أن قضايا معينة غير محبوبة للمواطن الأمريكي بشكل عام, وبالتالي فهي غير مثيرة لشهية الإعلام, وأفضل مدخل لتناولها هو ربطها بقضايا وأحداث تهم الشعب الأمريكي. وفيما يتصل بإعادة المادة وتصميمها فلابد من إعدادها بشكل متوازن، يكتفي بإبراز الحقائق، ويتجنب النبرة العاطفية, ولا يعجل إلى إصدار أحكام الإدانة على الخصم. ويفضل دائما أن يتولى صياغتها خبراء إعلاميون متخصصون ذوو تجربة طويلة في مخاطبة الرأي العام . وعندما تكون المادة معدة جيدا، وحسب الأصول، وعندما تلاقي هوى الناشر، فإنه يقوم بنشرها، وهو سعيد بذلك، لأنه يكون في حاجة إلى مثل تلك المادة الجيدة الجديدة. وإذا لم تصادف هوى ناشر معين، فإنها ستصادف لا محالة هوى ناشر آخر, فدور النشر الإعلامي أكثر من أن تستعصي كلها على الاختراق, ولذلك فلا مجال لليأس إذا مارفضت المادة في دار نشر إعلامية معينة أو في عدد من دور النشر . وبجانب الإعداد الجيد فلابد من مراعاة ناحية أخرى هامة، وهي ناحية ضرورة الإحتراس، والتحرز، وعدم توريط دار نشر في أخطاء يحاسبها عليها القانون، أو يفقدها ثقة الناس. فهذا من أشد ما يفسد القضايا المطروحة، وفضلا عن ذلك، فإنه يحجب فرص النشر في المستقبل. إن الجو الإعلامي الأمريكي ملوث بتحاملات كثيرة ضد السودان، ولكن هذه التحاملات يمكن أن تنقشع، وتتبدد، إذا ما اتصلت جهود إعلامية عربية حثيثة ضدها. فالعقل الأمريكي، كما أسلفنا، عقل متفتح يتجاوب مع الحقائق متى أبرزت إليه بقوة. والأفضل دائما أن تتحرك أي محاولة للسودان لاختراق العقل الأمريكي في سياق محاولة أكبر عربية أو إسلامية الطابع. ويقوم اللوبي العربي بقيادة الدكتور چيمس زغبى بجهود إعلامية جيدة في هذا المجال . كما يقوم اللوبي الإسلامي بقيادة الدكتور نهاد عوض بجهود مماثلة ويطرقان أبواب الإعلام بانتظام . ويخاطبان الرأي العام من خلال التلڤزة الحكومية, ويمارسان بعض الضغط على صناع القرار . وهو ضغط ضعيف حاليا وثماره قليلة ومعدودة. ولكن جهود هذين المركزين تشكل البداية الصحيحة للتحرك السياسي لعرب ومسلمي أمريكا لمناصرة قضاياهم المحلية ومساندة قضايا العالم العربي والإسلامي، ومنها القضية السودانية. وقد برهنت جهودها عمليا على إمكانية اختراق الإعلام الأمريكي. ومصداقا لذلك فقد ذكر چيمس زغبي في لقاء إعلامي أنه لم يفشل مرة واحدة في الحصول على فرصة للحديث غبر التلڤاز. وطبعا كان السبب في ذلك هو اعتداله في الطرح ومراعاته لقواعد العمل الإعلامي. إن تكوين مراكز الضغط هي طبيعة العمل السياسي في أمريكا, وفي هذا الصعيد تتكاثر تلك المراكز بعشرات الآلاف, وفيها مراكز لايتخيل إنسان وجودها على الإطلاق, فمن ذا الذي يصدق أن بأمريكا التي تخترق الكواكب وتبث أقمارها الصناعية بكل مكان لوبي قوي له فروع في ست وعشرين ولاية بالإضافة إلى مقاطعة كولمبيا إسمه جمعية الأرض المسطحة, وهو لوبي مسلح بأفكار دينية ويناضل في الكونجرس لمنع تمويل المدارس الحكومية التي تعلم طلابها فكرة كروية الأرض؟! وهناك مراكز ضغط لدول أجنبية كثيرة تعمل في سبيل التأثير على قرارات السياسة الخارجية الأمريكية، التي تتصل بها. أقواها على الإطلاق هو اللوبى الإسرائيلب (إيباك)، يليه لوبي تايوان، والصين، واليابان، واليونان، والأرمن. وفي حالة تلك المراكز لابد من تسجيلها والتعريف بانتماءتها الخارجية وضبط ممارستها حسب القانون الأمريكي. وفي النهاية يمكن القول بأنه متى ما توفرت الإرادة العربية, وتحددت بسياسات بعينها يتفق عليها كحد أدنى, فيمكن للعرب أن يضغطوا بقوة وبشكل مشروع في سبيل التأثير على قرارات السياسة الخارجية الأمريكية نحو العالم العربي عموما والسودان خصوصا لأنه أكثر الدول معاناة من تحاملات الإعلام الأمريكي.