كان بإمكانه أن يركن إلى الحياة اللطيفة الهانئة، ويؤدي شعائر دينة بهدوء، غير عابئ بما يدور في أرض الإسلام النائية عن موقع داره بالكويت. ولكن أنى له فهو من طراز الدعاة العظماء الذين ما كانوا يرون راحة أجسامهم إلا في راحة أرواحهم! وهذا ما كان يقوله إمام الأئمة محمد رشيد رضا عن نفسه. وقد كانت أمه تداعبه كلما رأته علته الهموم وتقول له: مالي أراك حزينا يا بني هل مات مسلم اليوم في الصين؟! كان رشيد رضا يسير على نهج ابن الخطاب الذي كان يرى نفسه الأبية الزكية مسؤولة عن عثور بغلة بشط العراق، وهكذا كان رضا يرى نفسه مسؤولة عن موت مسلم مقهور بالصين! وجاء على خطاهما الدكتور عبد الرحمن السميط لينزع نفسه عن حياة الرفاهية، ويكرهها على خوض الأوحال، واقتحام الغاب، والتمرس على حياة النصب المشقة بأدغال القارة الإفريقية وصحاراها الجرد، يواجه عسر الحياة وأخطارها، فمن كوبرا تحاصره، إلى عصابات تحاول اغتياله، وبين هذا وذاك يكابد العيش بين أسراب الهوام والبعوض، ويعاني الحر والقر والسغب والظمأ الشديد. كان حب القراءة هاديه وقد عرف به منذ نعومة أظفاره. وقيل إن والده هدده وهو طفل ألا يصحبه معه إلى السوق أبدا، لأنه كلما رأى حرفا مكتوبا توقف عنده ليقرأه. وقيل إنه يذهب إلى مكتبة حولي قبل موعد دوامها الرسمي ليكون أول مرتاديها ثم يمكث فيها حتى يكون آخر المرتدين عنها! وبهذه الثقافة الباذخة تميز عن ركب الدعاة وأصبح داعيا غير تقليدي وغير منحصر بهموم الدعاة الصغار. وبهذا اكتشف عوالم الإسلام الإفريقي وكرس نفسه لها ودخل الإسلام على يديه أكثر من عشرة مليون إفريقي! وبحث عن آثار وأحوال أمة حية تكاد تكون منسية هي أمة الإسلام العظيمة بالأرض الإثيوبية. وكانت أهوال المسلمين في إثيوبية خاصة، وإفريقية عامة، تنسيه أهواله وأمراضه، التي ظلت تنهك جسده، وتعيي أقدامه عن السعي في وعثاء الطريق. ولكنه ما كان يقعد ولا يغفو ولا يستكين، ولا يعتذر لنفسه بعذر مصطنع ولا حقيقي، ولا يترخص ولا يغدو إلى بلاده إلا لزيارة أو علاج ضروري! وعندما نال جائزة الملك فيصل لخدمة الدين ما تردد أن يهبها كلها لتشييد وقف إسلام لتعليم الإفريقيين. وكتب بجانب أبحاثه الطبية كتبا في الدعوة في القارة الإفريقية منها (لبيك أفريقيا)، و(دمعة على أفريقيا)، و(العرب والمسلمون في مدغشقر). وبدا بذلك طرازا جديدا من الدعاة على أرض إفريقية نافس المنصرين الذين استغفلوا أهلها ودنسوا أرضها وهددوا أمنها بإشعالهم روح الكراهية وإضرامهم نيران الفتن. وكان المنصرون من قديم الزمان كما أنبأ كتابهم الخطير الذي ترجم بعنوان (الغارة على العالم الإسلامي) يحذرون منافسة الدعاة الإسلاميين على الأرض الإفريقية، ممن سموهم بالدراويش (يقصدون الصوفية) قائلين إن هؤلاء أمرهم عجيب لأنهم لا يحتاجون إلى مرتبات، ولا ميزانيات، ولا تذاكر سفر، ولا فنادق، فهم سائحون جوالون في الآفاق بلا زاد، ومع ذلك فكل امرئ منهم هو طاقة هدى ونور، تنشر الإسلام في العالمين. ثم جاءهم هذا الغني الدكتور السميط ، الذي تخرج في أرقى الجامعات الغربية، وعمل بأحدث المستشفيات العالمية، وزهد بأعلى الأجور المادية، وانخرط داعية على نهج أولئك الدعاة الصالحين، الذين فزع المنصرون من زهدهم وتجردهم، وعجبوا من إقبال الناس عليهم، فأصبح بجهد ربع قرن قضاه في الدعوة إلى الله تعالى بإفريقية أعظم داعية عرفه العصر الحديث.