بقلم صلاح الدين حافظ الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب. من الواضح أنه تم اختيار العبارات بدقة لتعبر عن المعاني المقصودة بدقة أكبر ووضوح أعمق. هكذا بدأ الصدام الدموي الأخير بين المؤسسة السياسية العسكرية الإسرائيلية، مالكة أقوى ترسانة مسلحة في المنطقة، وبين الشعب الفلسطيني الأعزل، المحبوس في سجن يسمى غزة، الصغيرة المساحة الضيقة الحدود، وعلى رقعتها الضيقة هذه يعيش مليون ونصف مليون خلف القضبان الكهربائية والحوائط الأسمنتية. وهم الأمن الإسرائيلي الوهم المتبدد، اسم ومعنى لعملية فدائية جريئة، حفر خلالها رجال المقاومة الفلسطينية نفقا أرضيا وصلوا من خلاله إلى مركز تجمع عسكري إسرائيلي، وفاجئوه بخوض معركة مباشرة، وقتلوا جنديين وأسروا ثالثا.. ولم يكن الهدف فيما أظن هو مجرد اقتحام مركز إسرائيلي محصن، ولكن الهدف الأبعد والأعمق، هو إيصال رسالة لإسرائيل أن المقاومة تستطيع أن تصل وتقتحم أي موقع في أي مكان في الأرض المحتلة، مهما تكن الصعوبات والتضحيات.. ومعنى ذلك أن المقاومة قادرة على تبديد أسطورة الوهم الزائف، التي نجحت إسرائيل في ترويجها، ورددها من خلفها بعض العرب، من أنها قوة نووية لا تقاوم، وجيشها لا يقهر وترسانتها العسكرية لا تنفد وقدرتها على الرد والانتقام لا تنتهي أو تتوقف! ومعنى ذلك أيضا أن اقتحام المقاومة الفلسطينية لموقع عسكري إسرائيلي، ومقاتلته بالسلاح، أجدى ألف مرة، من تلغيم فتى أو فتاة لتفجير نفسه أو نفسها في مقهى أو سينما أو حافلة لنقل الركاب؛ لأن مباغتة مدنيين وقتلهم مدان ومستنكر إنسانيا، أما مهاجمة عسكريين فهو مبرر وفقا للشرائع والقوانين؛ لأنه دفاع عن النفس والوطن، ولأنه مقاومة للمحتل الغاصب. وبقدر ما أن إسرائيل تنجح في إثارة مشاعر العالم كله شرقا وغربا، استنكارا لعملية فدائية تصيب مدنيين إسرائيليين، باعتبارها إرهابا، بقدر ما أن إقدام إسرائيل على ممارسة القتل اليومي للمدنيين الفلسطينيين، على غرار قصف العائلات بأطفالها ونسائها على شاطئ غزة قبل أيام، لم يعتبر إرهابا، وإنما صنفته السياسات الأوروأمريكية على أنه دفاع عن النفس. بعد أيام قليلة من عناق كاذب وأحضان خادعة، بين أولمرت رئيس وزراء إسرائيل وأبو مازن الرئيس الفلسطيني، في ضيافة الأردن، أصدر أولمرت أوامره بحصار أبو مازن في غزة ومنعه من العودة إلى مقره الرسمي في رام الله، في نطاق عملية أمطار الصيف، مذكرا بقرار سلفه شارون بحصار الرئيس الراحل عرفات في مقره بالمقاطعة في رام الله، ولم يخرج منها إلا قبيل طلوع الروح غريبا في فرنسا! أمطار الصيف.. ضد حماس والمقاومة أمطار الصيف إذن عملية اجتياح عسكري إسرائيلي واسع، ليس هدفها مجرد احتجاز الرمز الفلسطيني الأول أبو مازن في محبس داخل سجن غزة، وليس هدفها مجرد الانتقام لأسر المقاومة الفلسطينية الجندي الإسرائيلي "جلعاد" خلال عملية الوهم المتبدد، ولكن هدفها هو إنهاء مسلسل التحدي الفلسطيني المتصاعد والمتمثل في جناحين: أولهما نشاط المقاومة خصوصا بعد تطوير عملياتها، من مجرد إطلاق صواريخ على المستعمرات الصهيونية، إلى اقتحام المواقع الإسرائيلية المحصنة عسكريا وتكنولوجيا، على غرار الوهم المتبدد، وثانيهما إطلاق الرصاصة الأخيرة والقاتلة على حكومة حماس المنتخبة والمتمركزة في غزة، بكل ما تمثله من معان ومبادئ!. يلفت النظر بمزيد من القلق والاستنكار، أن المواقف العربية والغربية، تلتقي مع الهدف الإسرائيلي ذي الجناحين السابقين، المدعوم بمساندة أمريكية هائلة، ودليلنا على ذلك، أن الضغوط والوساطات والتدخلات والمناشدات العربية والأجنبية، تزاحمت بقوة لإجبار المقاومة على إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي المأسور، بحجة إنقاذ غزة من الاجتياح الإسرائيلي، برغم إدراك الجميع أن الاجتياح كان سيتم حتما، وجرى الإعداد له قبل أسر جلعاد. وبنفس قوة الضغوط والتدخلات، سعت الجهود العربية والأوروبية والأمريكية، على مدى الشهور الماضية، لمحاصرة حكومة حماس المنتخبة ديمقراطيا، وإجهاضها وإجبارها على الانسحاب أو السقوط المدوي، ولا أدل على ذلك من الحصار المشدد ومنع المساعدات ووقف حتى المعونات الإنسانية للمستشفيات والمدارس والعائلات الفقيرة، ناهيك عن وقف رواتب العمال والموظفين. الهدف هو كسر نفس الفلسطيني الذي انتخب حماس ورضي بها، وكسر عين حماس التي نجحت في الانتخابات الديمقراطية وأرادت أن تحكم بالديمقراطية، فإذا بكل القوى المناوئة لها في الداخل وفي الخارج، تتكاتف ضدها لتعريتها وإسقاطها، ووضعها في اختبار صعب، بين أن تتهم تاريخيا بتجويع ومحاصرة وعقاب الشعب الفلسطيني، وبين أن تعيد إسرائيل احتلال غزة، بعد مسرحية فك الارتباط الشهيرة! أما وأن هذا وذاك قد صادفه الفشل، أو قل التباطؤ، فإنه كان ضروريا أن تسقط وتهطل أمطار الصيف في منطقة لا نعرف فيها أمطارا في الصيف، وبدأت إسرائيل ممارسة لعبتها المفضلة، بالاجتياح والعدوان العسكري المباشر، بحجة استعادة جنديها المأسور، وفي سبيل ذلك تطوع المتحدث الرسمي الأمريكي بالقول: إن إسرائيل تدافع عن نفسها وعن حقها الشرعي في الحياة، وهو يعلم جيدا أن عملية أمطار الصيف، بدأت بتدمير محطات الكهرباء والماء والكباري والطرق، ودك المنازل والمدارس والملاعب الرياضية والمستشفيات، بهدف تدمير ما تبقى من البنية التحتية في غزة، مثلما دمرت من قبل مطار غزة، وميناءها البحري ومؤسسة الإذاعة والتليفزيون ومكاتب الإحصاء ومعسكرات الشرطة، بما في ذلك ما موله الاتحاد الأوروبي نفسه من مشروعات!. وهم الاستسلام الفلسطيني وفي حين اعتبرت إسرائيل أن أسر جنديها في عملية الوهم المتبدد عملا إرهابيا، ووافقتها في ذلك أمريكا وأوروبا، وأيدتها أصوات عربية معروفة، فرددته خلفها قوات المتأمركين العرب أصدقاء إسرائيل في السر والعلن، فإن قيام إسرائيل بخطف واعتقال أكثر من مائة شخصية قيادية فلسطينية في يوم واحد، بينهم أكثر من ثلث حكومة حماس: 9 وزراء و24 نائبا منتخبا في المجلس التشريعي والباقي من رؤساء البلديات، ضمن خطوات عملية أمطار الصيف، لم يصفه أحد من هؤلاء بأنه إرهاب، بينما هو إرهاب دولة وفق كل تعريف قانوني أو سياسي! لقد راهنت إسرائيل وحلفاؤها وأصدقاؤها من العرب والغرب، على أن الاقتتال الفلسطيني الداخلي واقع لا محالة، عبر صدام فتح مع حماس، والرئيس الفلسطيني مع رئيس وزرائه، والأمن الوقائي مع قوات الأمن الخاصة، ونواب المجلس التشريعي معا، وبدأت نذر الصدام تبدو في الأفق، لكن الغريب أن يتفق الفرقاء الفلسطينيون الرئيسيون خاصة فتح وحماس والجبهة الشعبية على وثيقة الحوار الوطني، وأن تبدأ عملية أمطار الصيف الإسرائيلية في نفس توقيت إعلان التوافق الفلسطيني، وكأنما الرسالة تقول غير مسموح أن يتفق الفرقاء الفلسطينيون تحت أي ظرف، بل المسموح هو أن يقتلوا بعضهم بعضا، ومن يبقى على قيد الحياة، يتولى مسئولية حراسة الأمن الإسرائيلي، وحمايته من خطر المسجونين داخل سجن غزة (بالمناسبة تعتقل إسرائيل نحو عشرة آلاف فلسطيني، بينهم مئات من النساء والأطفال). ربما تنجح الترسانة العسكرية الوحشية الإسرائيلية، المدعومة أمريكيا وأوروبيا، في اغتيال قيادات حماس، وتقويض الحكومة الفلسطينية المنتخبة، وفي قتل أو اعتقال الوزراء والمدراء والنواب، وفي تدمير باقي البنية التحتية، وفي إظلام قطاع غزة وتجويع شعبها، تحت شعار أمطار الصيف، ودون أن تلقي رد فعل عربي على مستوى هذا العدوان، ودون أن تصادف إدانة دولية واحدة، كما حدث من قبل عشرات المرات. لكن المؤكد أن الوهم قد تبدد، وهم الأمن الإسرائيلي، والجيش الذي لا يقهر، والدولة الديمقراطية، والمواقع الحصينة والصواريخ التي تطير إلى أبعد مدي، والحماية الأمريكية الإستراتيجية، فوق وتحت الترسانة النووية قدس أقداس الدولة اليهودية.. كل ذلك يتبدد وهمه درجة بعد درجة بكل خطورته على أمن المنطقة! وبقدر ما سبق أن عاشت إسرائيل حالة تبدد هذا الوهم، في أيام حرب أكتوبر المجيدة عام 1973، بقدر ما هي الآن تستعيد ذات الذكرى الرهيبة، برغم غياب الجيوش وصمت المدافع عبر الحدود العربية، ذلك أن إرادة المقاومة والحق الشرعي في الدفاع عن شرف الوطن، والتضحية بالنفس دفاعا عن مبدأ وقيمة وموقف، يظل هو محرك الشعب الفلسطيني، حتى وهو تحت الحصار والعقاب الوحشي، يقاتل عريانا من أي غطاء، عربيا كان أو دوليا، فقد تخلى الكل، وقال نفسي نفسي، هلعاً من أي عقاب أو حتى كلمة عتاب، من سيدة الكون. وبالمناسبة، هل ما زال المتأمركون العرب، يعتبرون كلمة أمريكا هي الكلمة العليا الوحيدة، وأن أمطار الصيف هي وحدها التي ستفك عقدة الصراع، وتنهي الصداع، وأن انفلات القوة الصهيونية، يوجب علينا قبول الاستسلام لإرادتها! خير الكلام: يقول أبو القاسم الشابي: هو الحق يغفي ثم ينهض ساخطًا فيهدم ما شاد الظلام ويحطم * مقال نشر بجريدة الأهرام، 5 يوليو 2006.