مجلس السيادةينفي ما يتم تداوله حول مراجعة الجنسية السودانية    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقالات: رمضان وإحياء مشاعر الأمة الواحدة
نشر في السودان الإسلامي يوم 22 - 09 - 2007

الصيام ليس أداة لمعالجة المسلم كفرد مستقل ومنفصل عن الجماعة والأمة بل هو منهج فردي يؤدى في إطار الجماعة، ليرقى بالفرد المسلم ويجعل منه "إنسان الإستخلاف" ذا الإحساس التام بالأمة وينقل الأمة من الكبوة والجثوم إلى حالة "الإبتغاء الحضاري" والصيام يجزل للأمة العطاء في إحياء مشاعر وحدتها. وفيما يلي بيان لذلك.
مقدمة:
لم يحتف الإسلام بشعيرة من العبادات كما احتفى بصوم رمضان، حتى انه جعله من خاصة الله تبارك وتعالى، يقول الحق جلَّ وعلا ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا وأجزي به) فالله تبارك وتعالى يريده "إنسان الإستخلاف" متخلق بكمال العبودية .
وحتى يقوى الإنسان على تحقيق العبودية التي يريدها الله منه؛ كان عليه إخضاع قواه الثلاث التي يكون عليها الفعل الإنساني وتطويعها لأمر الله تعالى ، يقول شيخ الإسلام إبن تيمية: ( قوى الإنسان ثلاث هي: قوة العقل وقوة الغضب وقوة الشهوة . فأعلاها القوة العقلية التي يختص بها الإنسان دون سائر الدواب وتشاركه فيها الملائكة، كما قال أبو بكر بن عبد العزيز من أصحابنا وغيره : خلق للملائكة عقول بلا شهوة وخلق للبهائم شهوة بلا عقل وخلق للإنسان عقل وشهوة فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة ومن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه . ثم القوة الغضبية التي فيها دفع المضرة ، ثم القوة الشهوية التي فيها جلب المنفعة ) .
والصوم هو الذي يحدث التوازن بين قوى النفس الثلاث. فالقوى الغضبية هي التي بها يصول الأبطال في معارك الإسلام ويجولون، وعندما تنحرف هذه القوة عن ميدانها الأصيل إلى بنيات الطرق وتبطش وتقتل خطئاً يأتي أمر الله الذي يرد النفس لفطرتهم ويعالج فيها جانحة الهوى ويخفض منها عالية الطغيان، يعالجها بالصوم إذا صعب عليها عتق رقبة، وبصيام شهرين متتابعين، فتعود النفس وقد طهرت من إزهاق روح وقتل نفس وَ(مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) [النساءالاية:92] بل يأخذها بآداب أخرى مع صيام الشهرين ، فهي لا تسطع أن تتابع جموح النفس الغضوب إن سابها أحد أو قاتلها ولكن تتخذ من التحصن ب " اللهم إني صائم" من عاديات البشر وقسوتهم ، وهي مدرسة الستين ، التي تنصر على أقوى المؤسسات العقابية في عالمنا الحديث التي يتيه فيها الإنسان المعاصر بزخرف من العلم.
وكمال القوى العقلية أن تهدي صاحبها للإيمان وإعلان إيمانها بمنطق صحيح وأن تجعل من التزام المسلم الصراط المستقيم في سلوكه هَدياً له وسمتاً ، ولكن النفس قد تجانب الصواب ، ويأتي الصوم ليردها إلى قواعدها آمنة مطمئنة شاكرة راضية : (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
ومثل ذلك تهاون بعض المسلمين في الحفاظ على الرباط الوثيق:الزواج، ويتخذونه قسماً وحلفاً؛ يقضون به أغراضهم ويحسمون به خلافاتهم ، والإسلام لا يعاقب الأسرة جميعها لطغيان لسان الزوج بعقوبة واحدة ، لكنه قوَّم الزوج بالحرمان من الفراش شهرين يزين نهارها بالصيام (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ . فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا) [المجادلة الآية3-4].
كما أن الصوم وسيلة ربانية في التربية والتقويم عند الزلل والانحراف فهو أيضاً وسيلة في بناء الذات المسلمة التي تقوم بأمر الله فهماً وإلتزاماً : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [البقرة : 180 ].
وجعل عباده يتقلبون في عبادهم بين فصول العام ،فمرة يصومونه شتاء وأخرى خريفاً ، ليس لهم من الأمر شيء ، وكل عام يتغير المناخ والعبودية هي هي ، والعبد هو هو ، كما أن الرب هو هو . واختيار الله لشهر رمضان كشهر للصوم هو زيادة في تعبيد المسلمين الأوائل لله رب العالمين ، فالعرب سمّت رمضان لأن العرب كانت تعده أشد فصول عامها حرارةً.
ولكن الصيام ليس أداة لمعالجة المسلم كفرد مستقل ومنفصل عن الجماعة والأمة بل هو منهج فردي يؤدى في إطار الجماعة، ليرقى بالفرد المسلم إلى مرحلة الإحساس التام بالأمة.
المحور الأول : سياق فرض صيام رمضان
أولاً: سياق نزول آيات الصوم
تأخذ هذه الورقة بمنهج الأستاذ سعيد حوى في التعامل مع نصوص القرآن الكريم، حيث تأخذ الآيات كحزم موضوعية، تمثل كل حزمة مقطعاً مكتمل الملامح، مستوفي أركان الموضوع، وعبر هذا الأسلوب ، فإن الآيات الكريمة التي تنزل فيها فرض صيام رمضان على المسلمون، جاءت في سياق مقطع فريد حيث ينزع الأفضلية من الأجناس والأشياء والجهات ويردها إلى القيم والنفع العام، ويربطها بتقوى القلوب و(تلك مجموعة متجاورة- من الآيات- في قطاع واحد من قطاعات السورة وهذه وتلك مشدودة برباط واحد إلى تقوى الله وخشيته حيث يتكرر ذكر التقوى في التعقيب على التنظيمات الاجتماعية والتكاليف التعبدية سواء بسواء وحيث تجيء كلها عقب آية البر التي استوعبت قواعد التصور الإيماني وقواعد السلوك العملي ،حيث يبدأ بقوله تعالى: (قال تعالى: "لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (البقرة:177)
وعند تحليل المقطع القرآني، نجده (في آية واحدة يضع قواعد التصور الإيماني الصحيح وقواعد السلوك الإيماني الصحيح ويحدد صفة الصادقين المتقين) - وهي : إيمان ، وانفاق، وإقام الصلاة، ودفع الزكاة، والوفاء بالعهد والصبر على كل حال- جاء ذلك في خطاب مباشر لأمتين مشغولتان بصناعة الحياة، كل حسب هواه، ولكل شرعةً ومنهاجاً، وغاية ومقصداً: أمة القرآن وأمة التوراة ، يجئ هذا الخطاب ليحسم جدلاً بين هاتين الأمتين حول القبلة، بعد أن أدار المسلمون وجوههم نحو البيت الحرم ببكة، ولم يديروا قلوبهم عن بيت المقدس، جاء حاسماً لينقل الجدل من الحدث إلى المعني، ومن التاريخي والسباق الرسالات نزولا إلى الحاضر الماثل والرسالة الواجبة تجاه الخالق عبادةً والكون رعايةً وحفظاً والخلق إحساناً وتوفيقاً، والحياة العامة ، تشريعاً وقانوناً.. إذ يأتي ( حديث عن القصاص في القتلى وتشريعاته- يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم- وفيه حديث عن الوصية عند الموت- كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم - ثم حديث عن فريضة الصوم وشعيرة الدعاء وشعيرة الاعتكاف وفي النهاية حديث عن التقاضي في الأموال وفي التعقيب على القصاص ترد إشارة إلى التقوى ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون وفي التعقيب على الوصية ترد الإشارة إلى التقوى كذلك كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت أن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين وفي التعقيب على الصيام ترد الإشارة إلى التقوى أيضا يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ثم ترد نفس الإشارة بعد الحديث عن الاعتكاف في نهاية الحديث عن أحكام الصوم "تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون" ولا تبعد التعقيبات القليلة الباقية في الدرس عن معنى التقوى واستجاشة الحساسية والشعور بالله في القلوب فتجيء هذه التعقيبات ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون إن الله سميع عليم إن الله غفور رحيم) . وهو اطراد يوجه النظر إلى حقيقة هذا الدين إنه وحدة لا تتجزأ تنظيماته الاجتماعية وقواعده التشريعية وشعائره التعبدية كلها منبثقة من العقيدة فيه ; وكلها نابعة من التصور الكلي الذي تنشئه هذه العقيدة ; وكلها مشدودة برباط واحد إلى الله ، لتنشئ وتعد " إنسان الاستخلاف" ( هو الإنسان الذي يتطابق مع الخطاب الإلهي، ويستجيب لنداء الإسلام ويمارس وظائفه الأساسية في العبادة والإعمار والإنقاذ والتعارف، ويسعى دوماً إلى إيجاد الشروط التي تأهله لتقديم الإسلام للناس، وتوفير الوسط الذي تعيش فيه تعاليمه، وتشريعاته، وتسمو فيه ذاته الإنسان وتتكرم وتتصارع فيه الحسنة مع السيئة فتغلبها الحسنة) لتحقق عالم "الإبتغاء الحضاري" وعبر بناء هذا الإنسان المطلوب ، يمكن بناء مجتمع جديد مستقل في قيمه وموازينه، وفي تصوره ومنطلقاته، (إن ميلاد الجماعة في التاريخ ، يعني من جهة ؛ ظهور فكرة جديدة داخل حركة المجتمع، تكون مسنودة في كل الحلات بقيادة تغييرية، ويعني من جهة أخرى، بداية ظهور حركة وجود جديد ، ينزع إلى تحدي الوضع القائم ، ويسير بشكل معين ، لتحقيق غاياته، ومضامين عقيدته من الناحية الواقعية. بمعنى أن الحركة الجديدة، سوف تؤدي إلى توليد نموذج تربوي، لبناء إنسان جديد، يتبنى الفكرة الجديدة، ويعمل من أجل تحقيقها في حياة الناس" وهذا سيؤدي إلى وضع نواة اجتماع بشري يتميز بخصائص ثقافية معينة، مازالت في حيز القوة) . و لذا عقبت آيات الجهاد آيات الصيام، (قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين)[البقرة 190]، لهذا (كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليه الجهاد في سبيل الله لتقرير منهجه في الأرض وللقوامة به على البشرية وللشهادة على الناس فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد ; كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها واحتمال ضغطها وثقلها إيثارا لما عند الله من الرضى والمتاع وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك ; والذي تتناثر على جوانبه الرغاب والشهوات ; والذي تهتف بالسالكيه آلاف المغريات وذلك كله إلى جانب ما يتكشف على مدار الزمان من آثار نافعة للصوم في وظائف الأبدان)
ثانياً: السياق العملي الذي فرض فيه صوم شهر رمضان:
من المعلوم أن الصوم فرض في السنة الثانية من هجرته صلوات الله وسلامه عليه، ومن الطبيعي أن تفرض كل شرائع الإسلام على المسلمين، الذين استجابوا لأمر الله ورسوله، وتركوا الأهل والمال والأوطان ، في سبيل ربهم جل وعلى، ولكن التدرج وفق ناموس ينسجم مع التطور الإيماني الصاعد في نفوس المؤمنين والواقع الاجتماعي وشروطه القاسية التي تحيط بحياتهم، وكما يقول المفكر السيلاني المسلم البروفيسير عبد المجيد مكين (الظواهر الإسلامية لا يمكن إدراكها بمعزل عن منهاج الوحي، وسياقه الذاتي)، فإن محاولتنا تتبع فرض الصيام على المؤمنين في سياق التاريخي الحياتي للجماعة المسلمة، يفرض علينا أن نعود لبواكير حياة الجماعة في المدينة المنورة ، بل إلى ساعات الهجرة الإولى، لنعرف مكان الصيام في جيد حسناء الشريعة. يتفق المؤرخون المسلمون من كتاب السيرة النبوية ، على أن النبي صلى الله الله وعليه وسلم أول مقدمه المدينة قد سلك خطوات متدرجة ومحسوبة وهي :
- تأسيس المثابة الإيمانية : ببنائه مسجد قباء في الإسبوع الأول الذي أقامه بين سكانها وهم بنو عمرو بن عوف بن مالك، وببنائه المسجد النبوي بالمدينة
- الاتصال الوطني: حيث اتصل أول فراغه من المسجد النبوي ، بيهود يثرب بواسطة عبد الله بن سلام ودعاهم إلى الإسلام
- كتابة الدستور : لتنظيم العلاقة بين سكان المدينة النبوية، من مسلمين ويهود من جهة وبين المسلمين من مهاجرين وأنصار من جهة أخرى، حيث "كتب كتابا وضمنه ميثاقا في غاية الدقة وحسن السياسة ، فألف بين سكان المدينة من الأ،صار والمهاجرين وجيرانهم من طوائف اليهود ، فأصبحوا به كتلة واحد يستطيعون أن يقفوا في وجه من يريد أهل المدينة بسوء
- المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار" في ظرف كان المهاجرين فيه أحوج ما يكونون إلى من يخفف عنهم آلام الغربة والفاقة والفرقة إذ تركوا ديارهم وأموالهم وحلوا ببلد لم يكن يتسع حتى لأهله فضلاً عن النازحين إليه "
- فرض الآذان على المسلمين للصلاة وقد عاش المسلمون تشريع الآذان بمشاعرهم الظاهرة والباطنة وشاركوا في آحداث التشريع عبر رؤية أحدهم.
- بعث سرايا الجهاد ( بعد أن أصبحت المدينة وكأنها دار إسلام محضة على الرغم ممن فيها من المشركين والمنافقين واليهود)
- غزوة بدر الكبرى
أما السنة الثانية ، فقد شهدت أحداثاُ مهمة وتشريعات رفيعة كريمة ، لدعم مسيرة التشريع وحركة المؤمنين بهذا الدين وتميزهم عن سائر الملل والنحل، حيث شهدت:
- تحويل القبلة ، من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة في مكة المكرمة، وهذا الحدث كان زلزالا ضخماً، للجماعة المسلمة .
- فرض صيام رمضان ، شرع صلاة العيد وزكاة الفطر .
وبعد هذه السنة بدأت مسيرة جهادية ضخمة لم تتوقف حتى وفاته صلوات الله وسلامه عليه وكمال التشريع، فقد شهدت السنة الثالثة وحدها،أربع غزوات منها غزوة أحد، وسريتين. لهذا (كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليه الجهاد في سبيل الله لتقرير منهجه في الأرض وللقوامة به على البشرية وللشهادة على الناس فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد ; كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها واحتمال ضغطها وثقلها إيثارا لما عند الله من الرضى والمتاع وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك ; والذي تتناثر على جوانبه الرغاب والشهوات ; والذي تهتف بالسالكيه آلاف المغريات وذلك كله إلى جانب ما يتكشف على مدار الزمان من آثار نافعة للصوم في وظائف الأبدان)
ومن الواضح أن الصيام ، كان تتويجاً لمسيرة طويلة في بناء الأمة المسلمة الواحدة التي تشعر أنها جسداً واحداً يقوم بواجب الرسالة فهماً وإلتزاماً، وهو باتيان في هذا التسلسل ، يأتي في سياق العمل العام، الذي يتعلق بالسياسية وشؤون المدينة/ الدولة، والجماعة المكونة لها ، لذا نجد كل لوازم رمضان وتوابعه وآدابه إنما تسير هذا المسار وتسلك هذا الطريق، طريق تجميع الأمة في صعيد واحد وإحياء مشاعر الأمة الواحدة في كيانها.. وحينها تتحول المواعظ إلى قوانيين والتعاليم إلى لوائح والقيم إلى روح تسري في جسد الأمة، وتنظم حياتها؛ لأنه (حين تعمد أمة الإسلام إلى تجسيد روحها في رسوم وشكليات ونظم ولوائح، فإنها تقوم في الحقيقة بتنظيم الوعي المدني لديها) و(بما أن القيم تتعلق بالسلوك الفردي للناس وبما أنها قابلة لأشكال من التأويل والتجاوز والتقدير المختلف، فإن فاعلية كثير من القيم ومدى قدرتها على صنع السلوك الشخصي بصباغها يتوقفان على نوعية الإطار المرجعي الذي يستمد المجتمع من قيمه الكبرى) ، والقرآن كان حاضراً ليسد هذه الثغرة، والقرآن قرين رمضان، ففيه أُنزلت، وعنده تستروح النفوس الصائمات، حتى أنه تبارك وتعالي يكاد يعرِّف شهر رمضان بنسبته للقرآن: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن بينات من الهدى والفرقان).
إن المنهج النبوي وهو يتحرك لبناء المشروع - الأممي- القرآني إنطلاقا من بناء الإنسان ، يضع في اعتباره نموذج هذا الإنسان الذي يفترض فيه التأهل لحمل أعباء الإستخلاف في الأرض) ، ويصفه بأوصاف ويخص بخصائص، وهي السمات التي أسماها القرآن الكريم : البر، وهي صفات إيمانية اجتماعية، تقوم في نفس الفرد وتمتد ظلالها للمجتمع ،وهي:
- الإيمان : وهو شعاب ست أعلاها الإيمان بالله، والرسالة والجزاء
- الانفاق: هو يمتد أفقيا ليغطي شرائح مختلفة ومتعددة في المجتمع، لإنهاضها من كبوته، وإدخالها دورة "الإبتغاء الحضاري"، وهم:{ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ}
- إقامة الصلاة
- وإيتاء الزكاة، لمصارفها الثمانية المعلومة.
- الوفاء بالعهد، مهما كان.
- والصبر وهو على ثلاث ضروب: في البأساء ، والضراء، وحين البأس،وهو القتال الضاري.
والإنسان أو الأمة التي تتخلق بهذه الصفات، هي أمة الصدق والتقوى. لهذا ( حين انبعثت أمة الإسلام لبناء عالم جديد، على هدي جديد، كانت روحها طليقة بصورة لم تعهدها البشرية من قبل؛ فلا قيود ولا رسوم ولا أشكال، و إنما التدفق بالعطاء والتضحية والإيثار والبذل والتفاني والتجاوز لكل محددات المكان وإرث الزمان ومحدودية العقل على نحو مؤثر ومثير) .
ويأتي رمضان عام بعد عام ليحافظ على هذه القيم ثابتة وشاخصة في دنيا المسلمين، ويحول بينها والزوال، إذ لو زالت المطابقة بين القيم التي أفرزت النظم وبين الواقع الاجتماعي؛ فإن فاعلية هذه القيم تأخذ في التراجع، وتأخذ الجماعة أو الأمة في الإضمحلال.
المحور الثاني : رمضان مخزن مشاعر الأمة الواحدة
ويمثل الصيام أحد أهم هذه المحركات الرئيسية السنوية، بكل تفاصيله وإجراءاته، فهو يشد الناس، نحو أهداف يصنعها لهم مرة بعد مرة، ليوقظ المشاعر ويجمع الصف وهي:
إثبات الشهر:
حيث يشد الناس كل الناس، لترقب طلعة هلال شهر رمضان، ويجعل مناط الصيام وابتداره، مرتبط بالناس عامة، لا يخص جهة أو يميز جماعة بتلك الخصيصة، فقد كان النداء الرباني (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، يحث المسلمين كلهم وينتدبهم للقيام بهذه المهمة. وجعل شهادة هذا الرائي المسلم، كافية لأن تمسك بموجبها كل أمة الإسلام صائمة، وهو معنى عميق وعظيم، حين يصبح بمقدور كل مسلم أن يكون نائباً عن الأمة، وتكون الأمة واثقة من أفرادها في دينهم وتقواهم ومواقفهم وشهادتهم، وهو موقف إسلامي كمطرد، في رد الاعتبار للفرد المسلم، وحمايته من الذوبان في جماعية مهلكة، حتى في الحروب ( أجرنا من أجرت يا أم هانئ) وبلغت هذا القيمة قيمتها القصوى حتى أن أبا سفيان زعيم قريش، استشفع بالحسن بن على ابن أبي طالب ليرد الرسول صلى الله عليو وسلم العهد مع قريش، وهو ابن أربع سنين.
الأمر الثاني في قضية الشهادة، هو إنها تربط المسلم، بأفق أعلى، تصل مادياً بين الأرض والسماء، وبين مفهوم العبادة والكون واستنطاقه، وينزع عن الكون كل الرؤى الأسطورية التي سبغت عليه صفات الربوبية، ليجعله مادةً مسخرة للإنسان، لاستكشافها وتسخيرها والإستفادة منها.
وغير هذه هذا الشهادة العامة، المثبتة لشهر رمضان، التي تكرر مرة واحدة في العام، ينتقل بنا الإسلام في رمضان لشهادة أخرى، يومية، وهي استبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود، عند تحرى الفجر للإمساك عن الطعام والشرب، عند بزوغ الفجر الصادق(كلوا وأشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل)، وهي الخطوات الصاعدة في بناء الثقة والأخلاص في نفوس المسلمين، وهذه الثقة قادرة على الانتقال من علاقة بين العابد والمبعود، إلى ثقة عريضة بين العباد فيما بينهم، إذ لا أحد يمكنه أن يشكك في صيام الأمة المليار التي أعلنت بطوعها واختيارها لله صوماً. وبهذا القدر الوافر من الثقة والذاتية يكون الصيام بذلك قد ساعد في (تأويل الكون تأويلاً روحياً وتحرير الفرد، وتوجيه تطور المجتمع الإنساني على أساس روحي) كما يقول المفكر المسلم محمد إقبال رحمه الله. و يضيف إقبال أيضاً بُعدا روحياً دافئاً بقوله: إن( المنتهى الأخير، يجب ألا يُبحث عنه في حركة الأفلاك، و إنما يبحث عنه في وجود كوني روحاني مقدس لا نهاية له ، ورحلة العقل إلى هذا المنتهى الأخير رحلة طويلة شاقة) (وَ أَنَّ إِلَى رَبِّكَ اُلْمُنْتَهَى). وهو الذي عناه سيد قطب في مقدمة الظلال (عشت - في ظلال القرآن - أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله ، وحركة هذا الكون الذي أبدعه الله . . ثم أنظر . . فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية . . والنشأة الإنسانية ممتدة في شعاب هذا المدى المتطاول كله إنما هو قسط من ذلك النصيب . وما يفوته هنا من الجزاء لا يفوته هناك . فلا ظلم ولا بخس ولا ضياع . على أن المرحلة التي يقطعها على ظهر هذا الكوكب إنما هي رحلة في كون حي مأنوس ، وعالم صديق ودود . كون ذي روح تتلقى وتستجيب ، وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع: ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال . . تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده . . أي راحة ، وأي سعة وأي أنس ، وأي ثقة يفيضها على القلب هذا التصور الشامل الكامل الفسيح الصحيح ؟
التذكير بوحدة الأمة تاريخياً ودوامها:
(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)، فاعرفوا نسبكم الإيماني وتاريخكم الإنساني، وبهذا الإحساس يشعر المؤمن الصائم ( ذو نسب عريق ، ضارب في شعاب الزمان . إنه واحد من ذلك الموكب الكريم ، الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم: نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ويعقوب ويوسف ، وموسى وعيسى ، ومحمد . . عليهم الصلاة والسلام . . وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون . . هذا الموكب الكريم ، الممتد في شعاب الزمان من قديم ، يواجه - كما يتجلى في ظلال القرآن - مواقف متشابهة ، وأزمات متشابهة ، وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور ، وتغير المكان ، وتعدد الأقوام . يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى ، والاضطهاد والبغي ، والتهديد والتشريد . ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو ، مطمئن الضمير ، واثقا من نصر الله ، متعلقا بالرجاء فيه ، متوقعا في كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد) وهذا الوعي التاريخي، يبعث في النفس معاني واقعية أخرى، ذات صلة بالمعني السالف، فالذين من قبلنا، كانوا من أعراق شتى وأقطار مختلفة، ويتحدثون لغات متباينة، وشرائع تختلف في تفاصيلها رغم اتفاقها في الأصل الواحد الذي هو الإسلام، هو معنى يتصل بواقعنا الذي نحي، فنحن - أمة الإسلام- وراث النبوة والرسالات والأنبياء، ونحن ، أمم شتى في أعراقها و لسانها وألوانها ومذاهبها الفقهية ومدارسها العقدية، ولكننا نتفق في أصل الإسلام والرسالة وتوحيد الله تبارك وتعالى، وهذا المعني الرمضاني الدافئ يبعث رغبة في التسامي على الفروق والالتقاء على الأصول والمشترك وهو أحد وسائل إحياء مشاعر الأمة الواحدة.
رمضان والقرآن:
هو الشهر الذي نزل في القرآن بينات من الهدى والفرقان، وهو الشهر الي طلب من المسلمين المداوم على تلاوة القرآن والقنوت به، والقرآن هو الكتاب الوحيد الذي عجز الناس أمامه، فلم يستطعوا إقامة بينة على أنه مفترى أو مضطرب أو متناقض، بل بل عجزوا أن يأتوا بآية واحدة من مثله، وكان القرآن شجاعاً وهو يؤكد مطلع الصفحة الثانية من المصحف الشريف ، عند مطلع سورة البقرة بأنه الكتاب الذي (لا ريب فيه، هدى للمتقين الذي يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)، وبقِي القرآن صامداً بإعجازه؛ يخرج الأمة للشهود الحضاري كلما غابت أو كادت أن تغيب، وظل هو الوشيجة التي تجمع المؤمنين كلما حزبهم الأمر أو تفرقوا ، ودام اللغة الوحيدة التي تجمع المسلمين من عرب وعجم.
والقرآن في خطوطه العريضة التي يعرفها كل أحد حتى وإن لم يكن يحفظ آية منه، أكد وحدة الأمة وأحدية ربها، وتمام رسالتها وأخوة أتباعها، وصفاتهم وصفات أعدائهم، وكلها معاني كلية تحي الوحدة ومشاعرها في النفوس والواقع،ويتعمق هذا المعني بصلاة التراويح والتهجد، وهي من فقه الخليفة الراشد الفاروق رضي الله عنه، حيث أصبح المسلمون يتصافون في رمضان صفاً واحداً ويتوجهون إلى قبلة واحدة ويتضرعون لرب واحد ويتلون كتاباً واحداً هو القرآن الكريم ( الجامعة الكبرى التي تخرج فيها ذلك الجيل الذي قاد البشرية تلك القيادة الحكيمة الراشدة القيادة التي لم تعرف لها البشرية نظيرا من قبل ولا من بعد في تاريخ البشرية الطويل وما يزال هذا المنهج الذي خرج ذلك الجيل وتلك القيادة على استعداد لتخريج أجيال وقيادات على مدار الزمان لو رجعت الأمة المسلمة إلى هذا المعين ولو آمنت حقا بهذا القرآن ولو جعلته منهجاً للحياة لا كلمات تغنى باللسان لتطريب الأذان).
الإستطاعة شرط بقاء مشاعر الوحدة
إن الاستطاعة لمن أعظم المفاهيم ، التي يعمقها صيام رمضان. هو مفهوم خطير جداً، حيث ينسرب من العبادات الشعائرية كالصلاة والصوم واالحج إلى الحياة العامة، وقبول الناس بمبدأ الإستطاعة في الأعمال وهو المتكأ الفكري والنظري، الذي يمهد أرضية التعاذر والتعافر بين الناس، ولا تبقى أخوة ولا تدوم مودة، دون تغافر وتعاذر. والصيام جاء وقرر شروط استطاعة متعددة منها الذاتي القائم بشخص الإنسان، كالمرض ومنها المتعلق بما حوله كالسفر، (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر) (كلوا وأشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل)،(أحل لكم ليل الصيام الرفث إلى نسائكم) وقد استنبط الفقهاء منها أحكام للحامل والمرأة المرضعة، والمهم، أنها تفتح الباب واسعاً لتفسير مواقف الأفراد والجماعات والأمم، وإطار للأخوة رغم تباين المواقف.
زكاة الفطر والتضامن الاجتماعي:
شرع الإسلام زكاة الفطر طهرة للصائم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات". فالإسلام يريد لهذه النفقة أن توحد قلوب الصائمين غاية الوحدة ؛ حتى أن الشيخ الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله يقول:"إن زكاة الفطر فرض على كل مسلم، صغيراً أو كبيراً ذكر أو أنثى حراً أو عبداً؛ لما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على الذكر والأنثى والصغير والكبير والحر والعبد من المسلمين وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس للصلاة" (متفق على صحته).
ثم يتوج هذا التضامن بالخروج إلى صلاة العيد، جميعاً أيضاً، حتى الحيض من النساء!
توحيد المشاعر بالدعاء:
إن إشارة القرآن الكريم بالدعاء، عقب آيات الصيام، لإشارة موحية بالصلة الوثيقة بين الصيام وأهدافه، وبين الدعاء كوسيلة فاعلة لتحقيق تلك الأهداف، فالصيام يقذف الحقيقة النورانية الملائكية في نفس الصائم، و)إن الإنسان الذي استنارت روحه بنور الإيمان ، يستطيع عرض حاجاته كلها بلا حواجز ولا مانع بين ذلك الجميل ذي الجلال ، ذلك القدير ذي الكمال ويطلب ما يحقق رغباته، أينما كان هذا الإنسان وحيثما حلَّ. فيفرش حاجاته ومطاليبه كلها أمام ذلك الرحيم الذي يملك خزائن الرحمة الواسعة مستندا إلى قوته المطلقة فيمتلئ عندئذ فرحاً كاملاً وسروراً غامراً) ومما اطرد من أساليب القرآن في الدعاء أنه يأتي بصيغة الجماعة ( ربنا ..اهدنا ..ألخ) ، والدعاء هو الآلة الربانية التي تسل سخيمة النفوس وتجمع القلوب، وبه انتصر الأنبياء على القلوب القاسية ( عسى أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله)..( اللهم اهدي دوساً ) وبه صال اتباع الرسل كصاحب يس (قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي و جعلني من المكرمين). [سورة يس آية 26-27 ] والدعاء يحقق السكينة النفسية والأخوة العضوية، ولهذا شرع قنوت النوازل.
الخلاصة:
الصيام ليس أداة لمعالجة المسلم كفرد مستقل ومنفصل عن الجماعة والأمة بل هو منهج فردي يؤدى في إطار الجماعة، ليرقى بالفرد المسلم ويجعل منه "إنسان الإستخلاف" ذا الإحساس التام بالأمة وينقل الأمة من الكبوة والجثوم إلى حالة "الإبتغاء الحضاري" والصيام يجزل للأمة العطاء في إحياء مشاعر وحدتها. يقول الأستاذ راشد الغنوشي (إن الإسلام مركبة ضخمة تكفلت بانطلاقتها واستمرار اختراقها الفضاءات ومغالبة الصعاب، مجموعة من المحركات الدقيقة المتينة: الصلاة والزكاة والحج والصيام والتلاوة والجماعة والدولة، فإذا عملت جميعها على أفضل صورة كان أداء المركبة عظيما. أما إذا أصاب بعضها عطب فينحط أداؤها بقدر ذلك، ولكنها لا تتوقف عن الحركة، لأن نظام الصيانة سرعان ما يشتغل "إنّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" (الحجر 8)، فيتنادى المصلحون لتلافي العطل، وتندفع المركبة مجددا قوية فعالة: "يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها" (أبو داود). ويمثل الصيام أحد أهم هذه المحركات الرئيسية السنوية) والمجددة لتلك الطاقات والمشاعر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.