إن اسرائيل كدولة يهودية تشكل خطرا ليس على نفسها وسكانها فحسب، بل على اليهود كافة، وعلى الدول والشعوب الأخرى في الشرق الأوسط وما وراءه. مع ملاحظة أن تعريف اسرائيل بأنها (دولة يهودية) متأصل في الطابع اليهودي لدولة إسرائيل.. وكان لمبدأ اسرائيل كدولة يهودية أهميته العظمى لدى السياسيين الاسرائيليين منذ نشوء الدولة. وقد غُرس هذا المبدأ في أذهان السكان اليهود بمختلف الوسائل.. وفي عام 1985 اقرت الكنيست بأغلبية ساحقة قانونا دستوريا (غير قابل للنقض) يقضي بالغاء برنامج أي حزب يعارض مبدأ (الدولة اليهودية).. ودعوني أبدأ بالتعريف الاسرائيلي لمصطلح (اليهودي)، فاسرائيل بحسب هذا التعريف هي (مُلْكٌ) لأشخاص تعرِّفهم السلطات الاسرائيلية كيهود، بصرف النظر عن المكان الذي يعيشون فيه، وتعود أي اسرائيل اليهم وحدهم. اما من ناحية أخرى، فاسرائيل كدولة يهودية، لا تعود لمواطنيها من (غير اليهود) الذين تُعتبر مكانتهم لديها مكانة (دونية) على الصعيد الرسمي نفسه.. ومن المفارقات: ان المسيحيين اذا اقترحوا تحويل الولاياتالمتحدة الى (دولة مسيحية) تعود فقط لمواطنين يعرّفون رسميا بأنهم (مسيحيون)، لو حدث ذلك، فإن يهود الولاياتالمتحدة سوف يعتبرون ذلك (معاداة للسامية)!!.. وبحسب القانون الاسرائيلي، يعتبر الشخص (يهوديا)، إذا كانت والدته أو جدته، أو جدته لأمه، أو جدته لجدته: يهودية في ديانتها، أو اذا اعتنق الشخص الديانة اليهودية بطريقة ترضي السلطات الاسرائيلية، ولكن بشرط ألا يكون هذا الشخص قد تحول في وقت من الأوقات عن اليهودية واعتنق ديانة أخرى.. ويعتمد هذا المفهوم على (التعريف التلمودي) لمن هو اليهودي.. ومن اجراءات تطبيق هذا التعريف مثلا بالنسبة للإناث: تخويل أو تكليف ثلاثة حاخامات بمعاينة الإناث وهن عاريات في (حمام التطهير)، وهو طقس وان كان معروفا لقراء الصحف العبرية، فإن وسائل الاعلام باللغة الانجليزية غالبا ما تحجم عن ذكره، على الرغم من كونه بلا ريب موضوعا مثيرا لاهتمام القراء.. في عام 1956 اعلن بن جوريون ان السبب الحقيقي لحرب السويس هو (اعادة مملكة داود وسليمان الى حدودها التوراتية). وعند هذه النقطة من خطابه، وقف أعضاء الكنيست كافة، وأنشدوا النشيد الوطني الاسرائيلي».. اسرائيل شاحاك في كتابه (الديانة اليهودية وتاريخ اليهود: وطأة 3000 سنة).. وقد ابتدأنا المقال بهذه الفقرات المشبعة من كلام شاحاك. أولا: لأن (الدولة اليهودية) تعريفا وممارسة مفهوم يؤرق بحدة شرائح يهودية واسعة من كل المستويات.. ثانياً: لأن البروفسور اسرائيل شاحاك مفكر يهودي ثقيل الوزن، صريح الطرح، نافذ الرؤية. ولسنا في حاجة الى التذكير ب (العامل الزمني) لطرح هذه القضية. ف (تأصيل مفهوم الدولة اليهودية على صعيد دولي) هو جوهر ومقصد مؤتمر أنابولس. ولقد جرى التأصيل على ألسنة بوش وأولمرت وسواهما.. وليست المسائل الأخرى في المؤتمر الا مساعدة أو خادمة لهذا المفهوم المركزي (في عقيدة بوش وأولمرت). ماذا تعني (المعالنة) بأن اسرائيل (دولة يهودية)؟.. وماذا يعني تأصيل ذلك: استراتيجيا وسياسيا؟ يعني أولا : (تقديس) السياسات والمسالك والمواقف الاسرائيلية، ليس من الناحية السامية (الخارجية الامريكية تعد كل نقد لسياسة اسرائيل: معاداة للسامية)!. وانما تقديس السياسة الاسرائيلية: بمقتضى (إيمان ديني). ولقد ظهرت بفداحة مخاطر هذا التقديس وآثاره: قبل هذا (التأصيل الدولي لمفهوم الدولة اليهودية): 1 بالعودة الى اسرائيل شاحاك: فإننا نقرأ في كتابه المذكور آنفا قوله: «كلما أصبحت سياسة الدولة الاسرائيلية أكثر (يهودية): تأثرت هذه السياسات بالاعتبارات الايدلوجية اليهودية. وهذا التأثير الايدلوجي لا يدركه عادة الخبراء الأجانب الذين يميلون الى تجاهل تأثير الديانة اليهودية على سياسات إسرائيل» أو التقليل من أهميته. وهذا يفسر: لماذا كانت معظم تكهناتهم غير صحيحة»؟!. 2 من هذه المخاطر المبكرة لمفهوم الدولة اليهودية: استدعاء الفظائع العسكرية التاريخية وتبنيها وممارستها من خلال استراتيجية عدوانية متوحشة.. ومن أمثلة هذا الاستدعاء: «وهكذا هاجم يوشع كل أرض الجبل والمناطق السهلية والسفح ودمرها وقتل ملوكها، ولم يفلت منهم ناج، بل قضى على كل حي كما أمر الرب إله إسرائيل».. سفر يوشع 10 - 28 - 40.. ومستحيل أن يكون الله جل ثناؤه قد أمر بهذا، لأن الله كتب على نفسه الرحمة، وحرم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرما.. ولأن الكتاب الحق الذي أنزل على موسى عليه السلام وهو التوراة: رحمة كله: «ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة».. والرحمة والتوحش العسكري نقيضان لا يجتمعان. 3 ان هذا الاستدعاء لهذه الفظائع الدينية: أصبح سياسة أو استراتيجية للجيش الاسرائيلي.. لقد أصدرت قيادة المنطقة الوسطى في إسرائيل كتيبا: ألفه كاهن هذه القيادة وقال فيه: «عندما تصادف قواتنا مدنيين خلال الحرب أو أثناء عملية مطاردة، أو في غارة من الغارات. وما دام هناك عدم يقين حول ما اذا كان هؤلاء المدنيون غير قادرين على ايذاء قواتنا، فيمكن قتلهم بحسب الها لاخاه، بل يجب قتلهم، إذ ينبغي عدم الثقة بالعربي في أي ظرف حتى وإن أعطى انطباعا بأنه متمدن، ففي الحرب يسمح لقواتنا وهي تهاجم العدو، بل هي مأمورة بقتل حتى المدنيين الطيبين، أي الذين يتظاهرون بأنهم طيبون»!. إذا كانت هذه الآثار والمخاطر الفتاكة قد حدثت قبل (التأصيل والتقنين الدولي لمفهوم الدولة اليهودية). فإنها ستكون أشد وأحد وأفدح وأفجر بعد هذا التأصيل والتقنين.. فإن ل (التقنين): آثارا عميقة جدا في السلوك والفعل، سواء كان هذا السلوك والفعل: اجتماعياً أو عسكرياً أو سياسياً.. وهذه حقيقة مبثوثة في النتاج الفكري والفلسفي لكبار علماء (القانون الاجتماعي) وكبار خبراء السيكلوجيا والتربية. ثانياً: يعني تأصيل مفهوم الدولة اليهودية: (تحريم) عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم التي طردوا منها بالقوة والذبح عام 1948.. يعني بالضبط الغاء القرار رقم 181 الذي اصدرته الأممالمتحدة عام 1947 والقاضي بتقسيم فلسطين كلها بين الفلسطينيين واليهود.. كما يعني الغاء رقم 194 الصادر عن الهيئة نفسها عام 1948 القاضي بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم.. بدهي: ان المطالبة العلنية بهذه القرارات تنطوي على احراجات شديدة للأمم المتحدة، واسرائيل، والولاياتالمتحدة، وفلسطين وعربان لا يردون يد لامس، من هنا، رغم هذا الالغاء أو ذوّب في مفهوم (الدولة اليهودية) التي من خصائصها البدهية الفلسفية عند اليهود : ان تكون ظاهرة غير ملوثة بأي عرق أو ديانة أخرى، أي طاهرة مطهرة من الوجود الفلسطيني، إلا أن يكون وجود خدمة فحسب.. ولا ريب في ان هذه (الطهارة) الكاملة للدولة اليهودية (أمنية ثابتة) عند قادة اسرائيل اجمعين.. يقول رئيس الدولة العبرية الحالي: شمعون بيريز، في كتابه (الشرق الأوسط الجديد).. يقول: «والمطالبة بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين يجب أن ينظر إليها من خلال هذه الخلفية التاريخية المعقدة. فالعودة إذا قبلت ستمسح الوجه القومي لدولة إسرائيل، محولة الأغلبية اليهودية إلى أقلية. وبالتالي فليست هناك أية فرصة لقبولها سواء الآن أو في المستقبل «!!» فلا توجد حكومة اسرائيلية واحدة توافق على استراتيجية من شأنها ان تدمر كياننا الوطني، فالموافقة على حق العودة تتعارض مع حق اسرائيل في تقرير المصير».. وجوهر تقرير المصير في سائر الأدبيات الاسرائيلية هو قيام (دولة يهودية خالصة). ثالثاً: يعني تأصيل مفهوم الدولة اليهودية على صعيد سياسي قانوني: إقليمي وعالمي : (حفز) التيارات والجماعات الدينية في المنطقة على إقامة دولة أو دول دينية أيضا. تحت شعار (لا يفل الدولة الدينية اليهودية إلا الدولة أو الدول الدينية الاسلامية التي تحمل ذات المفاهيم: أي في التكوين والقوة والقيادة). ويلزم التنبه العلمي والسياسي إلى أن (رد الفعل) لا يستدعي رد فعل مساويا في الحجم، مضادا في الاتجاه فقط، بل يستدعي رد فعل من ذات النوع أو الكيف.. والقرائن كثيرة في المجال نفسه منها: أ قرينة وجود إسرائيل نفسها. بشعاراته الدينية، ولا سيما على ألسنة مؤسسيها الأوائل. هذا الوجود: عزز وجود الجماعات الدينية في المنطقة، وعطف الجماهير نحوها.. ب وقرينة: أن التأجيج الايدلوجي الديني الذي أشعله المحافظون الجدد في أميركا، قد ألهب جذوة التدين السياسي وغير السياسي في العالم الإسلامي.. ونحن نرجح، بل نجزم بأن تأصيل مفهوم الدولة اليهودية، والمعالنة الإعلامية والسياسية والقانونية به: سيقوي حجج الطامحين إلى الحكم باسم الدين.. فهل يدرك ذلك الذين أسرفوا في مجاملة الاسرائيليين والأمريكيين في قضية الدولة اليهودية وغيرها .. هل يدركون أنهم في ذات الوقت الذي يجاملون فيه الذين لا يستحقون ذرة من مجاملة: إنما ينزلون أفدح الأضرار بأمنهم واستقرارهم: في الحاضر والمستقبل؟ المصدر: الشرق الأوسط