الجيش الكويتي: الصواريخ الباليستية العابرة فوق البلاد في نطاقات جوية مرتفعة جداً ولا تشكل أي تهديد    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    المريخ فِي نَواكْشوط (يَبْقَى لحِينَ السَّدَاد)    اردول: افتتاح مكتب ولاية الخرطوم بضاحية شرق النيل    شاهد بالصورة والفيديو.. وسط ضحكات المتابعين.. ناشط سوداني يوثق فشل نقل تجربة "الشربوت" السوداني للمواطن المصري    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    المريخ يكرم القائم بالأعمال و شخصيات ومؤسسات موريتانية تقديرًا لحسن الضيافة    خطوة مثيرة لمصابي ميليشيا الدعم السريع    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    برمجة دوري ربك بعد الفصل في الشكاوي    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    مجلس إدارة جديد لنادي الرابطة كوستي    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالصورة.. السلطانة هدى عربي تخطف الأضواء بإطلالة مميزة مع والدتها    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    شاهد بالصورة.. السلطانة هدى عربي تخطف الأضواء بإطلالة مميزة مع والدتها    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    على طريقة البليهي.. "مشادة قوية" بين ياسر إبراهيم وميسي    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    وصول 335 من المبعدين لدنقلا جراء أحداث منطقة المثلث الحدودية    ترامب يبلغ نتنياهو باحتمال انضمام أمريكا إلى العملية العسكرية ضد إيران    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    كيف أدخلت إسرائيل المسيرات إلى قلب إيران؟    خلال ساعات.. مهمة منتظرة لمدرب المريخ    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    تنفيذ حكم إعدام في السعودية يثير جدلاً واسعًا    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    ضربة إيرانية مباشرة في ريشون ليتسيون تثير صدمة في إسرائيل    معركة جديدة بين ليفربول وبايرن بسبب صلاح    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    رئيس مجلس الوزراء يؤكد أهمية الكهرباء في نهضة وإعادة اعمار البلاد    رئيس مجلس الوزراء يؤكد أهمية الكهرباء في نهضة وإعادة اعمار البلاد    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    فجرًا.. السلطات في السودان تلقيّ القبض على34 متّهمًا بينهم نظاميين    رئيس مجلس الوزراء يقدم تهاني عيد الاضحي المبارك لشرطة ولاية البحر الاحمر    وفاة حاجة من ولاية البحر الأحمر بمكة    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    مسؤول سوداني يطلق دعوة للتجار بشأن الأضحية    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    علامات خفية لنقص المغنيسيوم.. لا تتجاهلها    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سلاطين دارفور وصُرَّة الحرمين الشريفين

عندما لاح في الأفق كُدُور نجم الدولة المهدية في خواتيم القرن الرابع عشر للهجرة/ التاسع عشر للميلاد، حزم، ملازم الخليفة عبد الله التعايشي، علي دينار بن زكريا بن السلطان محمد الفضل الرأي بالعودة إلى ديار أجداده قبل خوض المعركة الفاصلة في كرري على تخوم الحاضرة أم درمان، وإعادة ملكهم الذي سلبته جيوش الغزو التركي-المصري وأعوانها عام 1291ه/1874م، ورفضت المهدية أن تعيد إليهم حقهم السليب في إطار سلطة شبة مستقلة يتعارض سلوكها مع توجهات المهدية الأيديولوجية.
الصورة لمحمل السلطان علي دينار عام 1904، ماراً بامدرمان، بمعية الشيخ السيماوي
شعرة معاوية
وبعد رحلة عناء طويلة حط علي دينار رحاله بمعقل أجداده بالفاشر عام 1315ه/1898م، وصفى فاتورة حسابه مع المعارضين، ثم عجم عيدان سلطانه على المنطقة، وبدأ في خطب ود قادة الحكم الثنائي وجنرالاته في السودان (1315-1375ه/1898-1956م)، بحجة أنه سيظل مخلصاً لحكومة العهد الثنائي بالخرطوم، متى أقرت هذه الأخيرة شرعية سلطانه على دارفور. ويبدو أن الحكومة في الخرطوم لم تكن راغبة في توريط نفسها في صراع مع السلطان علي دينار، لأنها كانت لا تملك مالاً، ولا رجالاً، ولا مواصلات تعينها على غزو دارفور المتمردة القصية، ومن ثم آثرت الإذعان إلى توصيات اللورد كرومر، المندوب البريطاني السامي في القاهرة، حيث ارشدها على قبول سلطان علي دينار على دارفور، شريطة أن يعلن ولاءه التام إلى سيادة الحكومة برفع العلمين على سرايا قصره بالفاشر، ويدفع جزية سنوية تقدر بخمسمائة جنيه أستراليني، وذلك تعبيراً عن ولائه المشكوك في أمره. ويبدو أن السلطان علي دينار قد تعامل مع هذا الواقع بوعي سياسي متقدم، يقضي بإبقاء "شعرة معاوية" موصولة بينه وبين صاغة القرار السياسي في الخرطوم، ولذا لم يسمح لأي مسؤول حكومي بزيارة الفاشر، ولم يشد الرحال إلى الخرطوم بغية تلقي النصح والارشاد من أهل السيادة والسلطان، بل ظل على موقفه المشوب بالحيطة والحذر إلى أن اندلعت الحرب الكونية الأولى، وبموجبها أضحى الطرفان على طرفي نقيض، وقطعا شعرة معاوية التي كانت بينهما.
المحمل الشريف لمكة والمدينة
وفي أثناء هذه الفترة المشوب بالحيطة والحذر (1317-1332ه/1900-1914م) استقل السلطان دينار بحنكة سياسية أعلان حاكم السودان العام، ونجت باشا، في منشور أصدره لخاصة أهل السودان وعامتهم في 28 شوال 1317ه/ 28 فبراير 1900م، وأبان فيه سياسة حكومة السودان الجديدة، وفي بعض مقاطعة قال: "ولقد بدأتُ بتشييد مساجدكم، وإقامة شعائر دينكم المقدسة، وتسهيل طريق الحج إلى بيت الله الحرام، بعد أن حال بينكم وبينه أولئك الطغاة العصاة الذين استأصل الله شأفتهم." (نعوم شقير، ص 193). فلا جدال أن موقفه هذا تجاه فرضية الحج كان عبارة عن كلمة حق أُريد بها باطل، يمكن أن يشوه من خلاله صورة المهدية في أذهان الناس.
بيد أن السلطان علي دينار استثمر هذا الموقف استثماراً سياسياً حاذقاً من أجل تمكين قواعد سلطانه السياسية في دارفور، ومن ثم أرسل خطاباً إلى سلاطين باشا مفش عام السودان يطلب منه البت في ثلاث قضايا مهمة، تتمثل في رسم حدود سلطنة دارفور، ومساعدته الجيش الحكومي مادياً، والسماح له بإرسال المحمل الشريف إلى مكة المكرمة كما كان يفعل أسلافه سنوياً. فرد عليه حاكم السودان العام، ونجت باشا، بخطاب صادر في 12 محرم 1319ه/ 1 مايو 1901م، أقر فيه تعيين السلطان علي دينار حاكماً عاماً على دارفور، شريطة أن يلتزم بقرارات الحكومة وسيادتها المبسوطة على كل أنحاء السودان، وبدلاً من دعمه المادي لجيش الحكومة طلب منه أن يدفع جزية سنوية تقدير بخمسمائة جنيه أسترليني، أما قضية المحمل فقد ترك له الخيرة من أمره، تعللاً بأن الطريق سيظل مفتوحاً بين السودان والحجاز، فعلى السلطان علي دينار أن يتصرف ويتدبر أمره بما يراه مناسباً في هذا الشأن. (ثيوبولد، ص 42-43). وفي ضوء هذه الترتيبات السياسية أرسل السلطان علي دينار إلى سلاطين باشا خطاباً مؤرخاً في 6 رجب 1321ه/ 27 سبتمبر 1903م، يخاطبه قائلاً:
[...] أعلم مكارمكم أفندم أنني قد وجهت الأفكار بإرسال الوقف للحرمين الشريفين، وقد تجهز الآن قادماً لأرض الحجاز صحبة المعين من ملوكنا المكرم صالح علي، ومن معه من الرجال قادماً، فغاية الأمل حال وصوله أمدرمان لم يتأخر غير راحة يوم أو يومين، فحالاً تقوموا بواجبات سفره بكافة من معه، وتحرروا له الرواح لمديرون المحطاة بربر، ولغاية سواكن، بسرعة قدومهم وشمول نظر سعادتكم نحوهم [...] وبعد عودتهم يفادونا بهم، وهما عل أثر جوابكم يأتونا، كما أملي في سعادتكم رجائي في علو همتكم أدام الله بقاكم. (دار الوثائق القومية بالخرطوم، مخابرات، 7/1/5)
ويبدو أن هذه الرحلة الحجازية قد كُللت بالنجاح، كما جاء في خطاب السلطان علي دينار المعنون لسلاطين باشا في 27 جمادي آخر 1322ه/ 7 سبتمبر 1904م، والذي تقرأ بعض مقاطعه هكذا: "... وزيادة سرورنا وحبورنا قيامكم في أمر المحمل النبوي الذي بُعث منطرفنا للحرمين الشريفين، مكة المشرفة والمدينة المنورة، وعلى ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ومقابلتكم بالأكرام والإجلال والراحة في كافة لوازم تسهيلاته، وسرعة سفريته على جانب أعتاب الحكومة العادلة في ذهابة وإيابه [...]. وقد تم وصول جمل المحمل ومن معه من المعينين بالسلامة."
صُرَّة الحرمين الشريفين
فلا عجب أن نجاح هذه المهمة قد شجع السلطان على دينار على إرسال محمل ثان في عام 1321ه/1904م، مزودٍ بصُرّة الحرمين الشريفين، إلا أن الصُرَّة قد نهبت في الطريق قبل أن تصل إلى مكة، الأمر الذي دفع سلاطين باشا لإرسال خطاب إلى السلطان علي دينار ينصحه بعدم إرسال المحمل الشريف سنوياً إلى الأراضي المقدسة، وذلك تفادياً لمخاطر الطريق، ويقترح عليه بأن تكون رحلة المحمل الشريف مرة واحدة كل سنتين أو ثلاث سنوات، ويتجلى هذا المقترح في قوله:
جناب السلطان: إن الحكومة لن تدخر وسعاً في منح المساعدة للمحمل الشريف وسوف لن نتأخر على هذا حرصاً منها على إحترام الدين والشعائر الإسلامية، وأنا متأسف لعدم وصول هديتكم المرسله لبيت الله الحرام. وطالما أن الطريق بعيد وفيه صعوبات فأري أنه لا يوجد موجب لإرسال هذا المحمل كل سنه، بل كل سنتين أو ثلاثة، لأن الثواب ليس بكثرة التردد والمواصلة، بل بحسن النية. (دار الوثائق القومية الخرطوم، مخابرات، 7/2/4/24).
ويبدو أن هذا المقترح قد وجد قبولاً لدى السلطان علي دينار، لأن لم يرسل محملاً شريفاً إلى الأراضي المقدسة عام /1322ه/1905م، بل استأنف ذلك عام 1324ه/1906م، عندما أرسل خطاباً إلى سلاطين باشا، في 18 شعبان 1324ه/ 3 ديسمبر 1906م، يوضح فيه أن المحمل الشريف قد توجه إلى الخرطوم تحت أمرة الشيخ محمد سيماوي الركابي، وفي صحبته ثلاثمائة حاج، ويفصِّل في ذات الخطاب محتويات صُرَّة الحرمين الشريفين التي تتكون من "1100 ونصف قنطار سن فيل، و17 مربوع ريش نعام، و30 رطل ريش نعام أسود، و34 رطل ريش ربده"، ثم يوصى ببيعها في أمدرمان إذا كانت الأسعار مجزية، وفي حالة العدم يتم عرضها في الحجاز، علماً بأن عائداتها ستوزع حسب مصارفها المعلومة لدي أمير الحج الشيخ محمد سيماوي. (دار الوثائق القومية الخرطوم، مخابرات، 7/1/8/176).
وبعد ثلاثة أعوام بدأ التواصل بين السلطان علي دينار وسلاطين باشا، حيث حرر علي دينار خطاباً إلى سلاطين باشا، في 20 جمادى آخر 1327ه/ 8 يوليو 1909م، جاء فيه: "من بعد السلام اللطيف لذاك المقام المنيف نخبر جناب سعادتكم افندم يكون معلوم إننا فيهذا العام عازمين على إرسال المحمل الشريف للحرمين الشريفين انشالله ومن الوجوب اعلامكم بذلك افندم." (دار الوثائق القومية الخرطوم، مخابرات، 2/4/15).
وفي 15 شوال 1331ه/16 سبتمبر 1913م، خاطب السلطان علي دينار سلاطين باشا، معلماً أياه بتحرك المحمل الشريف من الفاشر إلي الخرطوم، ومنها إلى سواكن، ثم الأراضي المقدسة، دون أن يدرك أن ذلك المحمل سيكون آخر المحامل الدارفورية الشريفة وصُررها المباركة إلى الحرمين الشريفين، وفي هذا المضمار يقول:
... نعرض لجناب دولتكم أفندم أن محملنا لله ورسوله مضت لنا في إرساله عدة أعوام ولم أرسلناه، وفيهذا العام استصوبنا إرساله، وها هو قادماً للحرمين الشريفين بعون الله معية خدامنا محمد الشيخ سيماوي، والخدما المحافظين على المحمل الشريف، ومعهم الحجاج من الوطن، ومن حيث أنه من الواجب إعلام سعادتكم بما ذكر فلزم عرض هذا لجناب سعادتكم وبه أرجوا من الحكومة تعديهم على جناح السرعة لموافات الحج بالراحة حسب المعهود في عدالتها وتفيدون بما يتم في أمرهم بعد التوجه ونكون ممنون ومتشكر أفندم. (دار الوثائق القومية الخرطوم، مخابرات، 7/2/15/834).
في هذه الإثناء كان سلاطين باشا مقيماً في قاهرة المعز، فأرسل في 1شوال 1327ه/16 أكتوبر 1909م، برقية لمفتش مركز مدينة النهود يطلب منه أخطار السلطان علي دينار في جبل الحلة بأن المحمل الشريف قد وصل سالماً آمناً إلى الخرطوم، ومنها في طريقه إلى الإراضي المقدسة. فكان هذا المحمل هو آخر محمل تودعة مدينة الفاشر أبوزكريا، وبعده اُسدل الستار على إرث سلاطين الفور وتقليدهم الإسلامي التليد، الذي أضحى أمانة في ذمة التاريخ والمؤرخين.
وداع المحمل في الفاشر
وتحدثنا المصادر التاريخية أن تحرك المحمل الشريف في الأعوام المشار إليها أعلاه كان له طعم ومذاق خاص في مدينة الفاشر، حيث تتقاطر جموع المودعين إلى ساحة قصر السلطان علي دينار، "ليشهِّلوا" موكب المحمل الشريف الذي يتقدمه أمير الحج وفقيه الصلوات الجامعة، وفلول الحجيج القادمة من مدن دارفور وضواحيها والتخوم المجاورة لها. وعندما يستقيم ميسم التجمع في ساحة القصر السلطاني، ويتعالى صوت القرع على نحاسات السلطان، وترفع أصوات المزامير، يخرج ممثل السلطان إلى الجموع ويخطرهم بأوامره القاضية بتحرك المحمل الشريف. وفي ضوء هذه الإشارة السلطانية يبدأ الموكب مشهلاً بآي الذكر الحكيم التي يتلوها طلاب الخلاوي وحفظة القرآن، زافِّين بها المحمل إلى مشارف مدينة الفاشر. وبعد ذلك يتوجه الموكب صوب الحاضرة الخرطوم، محروساً بجند من الفور يحملون حراباً مذوقة بريش النعام، وبعد راحة قصيرة في الخرطوم يتجدد المسير تجاه الأراضي المقدسة عبر ميناء سواكن ومن بعدها بورتسودان. ويقال أن الناس في جدة ومكة كانوا يخرجون زرافات ووحداناً لمشاهدة محمل دارفور وحراسه الذين درجوا على تقديم بعض العروض الفنية بحرابهم المذوقة بريش النعام وذلك في خفة ومهارة.
محمل دارفور الشريف وتداعيات الحرب الكونية الأولى
في السنوات السابقة لإنداع الحرب الكونية الأولى بدأت تتوتر العلاقات بين السلطان علي دينار وحكومة السودان، لأن السلطان، كما يرى المؤرخ مكي شبيكة، "منذ البداية لم يطمئن لها، وما كان يريد عرشاً يُشاد على حماية أو تدخل أجنبي، بل كان يريد عرشاً خالصاً مستقلاً، ولكنه من حسن السياسة رأى أن يستعين بالحكومة للوصول إلى غايته." (شبيكة، ص 423) وفي هذا الجو المشحون بالترغب والحذر أرسل ونجت باشا خطاباً يخطر فيه السلطان بإندلاع الحرب ضد ألمانيا، ويحثه على عدم الأخذ بالإشاعات الكاذبة، ووقوفه صفاً في جانب الحلفاء، ويمضي الخطاب ويقول: "وليكن بعلمكم أن أخبار هذه الحرب الحقيقية تنشرها جريدة السودان، التي تظهر في الخرطوم، والتي على ما أظن تصلكم في دارفور، فإذا بلغكم من بعض الناس الجهلاء الذين لا يعرفون الحقائق أو المفسدين الذي يحبون نشر أخبار كاذبة لا تنطبق على ما تنشره الجريدة المذكورة، فإني أوصيكم بأن تأمروا موظيفكم بالقبض على هؤلاء الكاذبين، وتبقوهم عندكم تحت المراقبة أو ترسلوهم للحكومة." (ثيوبولد، ص 138)
ويبدو أن هذا الخطاب قد أُرسل جساً لنبض السلطان علي دينار الذي كان مشكوكاً في أمر مساندته للحلفاء. وفي هذه الأثناء بدأ السلطان اتصالاته بالخليفة العثماني في استانبول والشيخ محمد المهدي السنوسي في جغبوب (ليبيا)، وقد خاطب الخليفة في هذا الشأن بقوله:
وقد أحاطت أيدى النصارى الكلاب الكفار بالمسلمين من يميننا وشمالنا وورائنا وأمامننا، وجازوا ديار المسلمين كلها، ممالك البعض سلطانها مقتول، والبعض سلطانها مأسور، والبعض سلطانها مقهور، ويلعبون بأيديهم كالعصفور، ما عدا دارفور قد حفظها الله من ظلمات الكفار. والداعي أنهم حالوا بيننا وبين الحرمين الشريفين اللذين حرسهم الله ومنحكم بخدمتهما. ولم نر حيلة نتوسل بها لأداء الفرض الذي فرضه الله علينا من حج بيته الحرام، وزيارة نبيه عليه الصلاة والسلام، وانجبرنا على مواصلة دولة الانجليز، وسرنا نعاملهم تارة بالمشاحنة معهم، وتارة رغبة في حفظ إيماننا وإسلامنا في بلادنا. (شبيكة، ص 425-426)
ورداً على هذا الخطاب بعث أنور باشا، وزير الحرب العثماني، خطاباً للسلطان علي دينار في 13 ربيع أول 1333ه/3 فبراير 1915م، يهيب فيه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بحمل السلاح ومساندة دولة الخلافة في مواجهة الحلفاء، ويخطر السلطان علي دينار بأن الخليفة قد أعلن الجهاد المسلح، وأن المشيخة الإسلامية افتت بأن الجهاد الآن فرض عين على كافة المسلمين. ويبدو أن السلطان قد سر بهذا الخطاب، ورد علي أنور باشا قائلاً: "ونخبر جنابكم أننا منذ انتشار الحرب بين جلالة سلطان الإسلام وبين الألداء الكفار والفساق الأنجليز وفرنسا وما يليهم، فمن وقته قطعت ما كان بيني وبين الكفار الملعون من العلائق الودية، وجاهرتهم بالعدواة، وأعلنتهم بالحرب، واستعديت لهم بقدر ما يستطعنى من القوة، غيرة في دين الله، وحمية للإسلام." (شبيكة، ص 426).
الخاتمة
فهذا هو موقف السلطان علي دينار الذي أدى إلى قطع شعرة معاوية بينه وبين حكومة السودان، وقاد أيضاً إلى تعطيل المحمل الشريف والصُرَّة الدافورية إلى الأراضي المقدسة. وتبلورت حصيلة ذلك المشهد في إعلان الحرب على السلطان علي دينار الذي أعلن من جانبه الجهاد على حكومة السودان وأنصارها ممن صاغوا سفر الولاء في الخرطوم، ودخل معهم في مواجهة عسكرية مشكوفة وغير متوازنة الأطرف، لكنها كانت تقوم علي مبادئ آمن السلطان بها ورعيته الذين آثروا الجهاد ضد الغزاة بشراسة، وظلوا يقاتلون إلى أن واجه قائدهم السلطان قدره المحتوم من رصاصة طائشة أردته قتيلاً في 10 محرم 1335ه/ 6 نوفمبر 1916م. وبذلك اسدل الإنجليز وأعوانهم الستار على صفحة من صفحات تاريخ دارفور الحديث (1315-1335ه/ 1898-1916م)، ودقوا اسفيناً في نعش موكب المحمل الشريف الذي كان جزءاًً لا يتجزأ من أعياد أهل الفاشر أبو زكريا ومناسباتهم الدينية العظيمة في ذلك الحين.
مراجع مختارة:
أ.ب. ثيوبولد، علي دينار آخر سلطان لدارفور (1898-1916)، لندن، 1965م (بالإنجليزية).
أحمد عبد الرحيم نصر، أغوات الحرمين الشريفين: دارسة تاريخية مقارنة، ط 2، كوالا لمبور: الجامعة الإسلامية العالمية، 2006م.
أمين سامي، تقويم النيل، القاهرة: مطعبة دار الكتب، 1936م.
مكي شبيكة، السودان عبر القرون، القاهرة: مطعبة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1966م.
يحي محمد إبراهيم، تاريخ التعليم الديني في السودان، بيروت: دار الجيل، 1987م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.