أية محاولة لحث الطرفين المتصارعين في لبنان لإنهاء الصراع الدائر الآن بين أنصار الموالاة وأنصار المعارضة دون التعرض لإقناع الطرفين لاعتراف كل طرف بالآخر .. أية محاولة من هذا القبيل لن تحل مشكلة لبنان. لبنان طوال عمره كان يسير وفق معادلة لبنانية أصيلة عنوانها (لا غالب ولا مغلوب). كان ذلك في زمن غير الزمن. الآن حل زمن جديد أصبح العنصر الأول في تحريكه عنصر خارجي. الصراع السياسي في لبنان اليوم تحركه نظرة أخرى تصحيحية. فقد اتفق أركان الطوائف اللبنانية عند فجر الاستقلال على معادلة افتراضية هي أن أهم سلطة في الدولة، وهي رئاسة الجمهورية، تؤول للمسيحيين الموارنة، وتؤول السلطة الثانية، وهي رئاسة الوزارة، للمسلمين السنة، وتؤول السلطة الثالثة وهي رئاسة المجلس التشريعي للمسلمين الشيعة، وقام تبرير ذلك على أن المسيحيين أقلية في لبنان مقارنة بالمسلمين السنة والشيعة، بالإضافة إلى أن الطوائف المسيحية بالنسبة للمنطقة العربية هم جزر صغيرة معزولة وسط محيط متلاطم من الطوائف الإسلامية. هذه النظرة التصالحية لا تقوم على المبدأ الديمقراطي الذي يقول إن الأغلبية العددية هي التي تؤسس لنسب المشاركة في الحكم. والنظرة الحسابية تقول إن المسلمين الشيعة في لبنان هم أكبر الطوائف الدينية عددا ولكنهم أقنعوا بأن يتقبلوا أساس التصالح في النظرية السياسية اللبنانية بأن يعتبروا ثالث طائفة في المكاسب السياسية. الآن تغيرت المعادلات السياسية في المنطقة أو هي في طريقها للتغيير، إذ ظهرت في المنطقة قوى جديدة تمثل لاعبين لا تريد لهم جهات عالمية كثيرة أن (يئبوا) (يقبوا) على وجه الدنيا، كما تصدح بها المقولة الشعبية المصرية. فالشيعة، انطلاقا من إيران ومرورا بالعراق والخليج ولبنان يسعون لإعادة تشكيل خريطة المنطقة السياسية. وجزء كبير من إعادة هذا التشكيل تسببت فيه الإدارة الأمريكية بإسقاطها حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين، حيث جير زوال صدام لإيران مكسبا أساسيا في العراق دون أن تطلق رصاصة واحدة، وهو المكسب الذي أصبح أهم مداخل إيران لإعادة تشكيل المنطقة العربية كلها وليس العراق والخليج ولبنان فحسب. الرياح في المنطقة تهب الآن في أشرعة سفن السياسة الإيرانية وسفن الشيعة بوجه عام. الآن تتصاعد نبرة التصلب من كل الفرقاء في لبنان، وهو يبدو تصلبا بلا سقف. فمن مطلب تعجيزي من قبل الموالاة تجاه المعارضة إلى مطلب معارض يبدو أشد تعجيزا تجاه الحكومة. بالرؤية الإستراتيجية فإن نتائج تصلب طرفي الحكم في لبنان والثبات على مواقف مبدئية غير خاضعة للنقاش تصب في مجملها في نظرية إعادة تشكيل المنطقة شيعيا. الخطأ الأساسي لجماعة الموالاة هو أن جعلت المعارضة الشيعية (وهي في أوج قوتها) خصما لها، ثم إن إطالتها لأمد الخلاف اللبناني بين الموالاة والمعارضة يتيح للشيعة أن يستنفدوا معظم طلباتهم بالنسبة للحكم، وهو خطوة رئيسية في اتجاه الهيمنة عليه بشكل من الأشكال.