إن ما لا شك فيه أن تعاقب الفتن وتكاثرها وطلب بعضها بعضا طلبا حثيثا، لهو من سمات عصرنا الحاضر الذي علت فيه الحضارة المادية وسما فيه بنيانها. كل ذلك كان نظير سقوط حاد في الجانب الروحي والصفاء الانساني، حتى أصبحنا نعيش أجواء تعصف بها رياح الأهواء والمحن والحروب والفتن. ولا جرم حينئذ ان يتزلزل كيان المجتمعات المسلمة ويقوض بنيانها على حين غرة بعد تراكم التداعيات بعضها على بعض، ليخر على شعوبها سقف الاستقرار والسلامة من فوقهم ، وتأتيهم الطوارق في عسعسة الليال أو تنفس الصباح من حيث يشعرون أو لا يشعرون. والواقع أن ذلكم كله لم يكن بدعا من السنن الإلهية وليس هو طفرة لا يسبقها مقدمات ولا مسببات، وإنما هو شرر ووميض جمر كان يرى خلل الرماد وسط ميدان الأمة الإسلامية، في الوقت الذي بحت فيه أصوات الناصحين وأسفت له قلوب المشفقين على أمتهم ومجتمعاتهم. غير أن أمة الإسلام وا أسفاه لم تستبين النصح إلا ضحى الغد ولات حين مناص. كما أنه غير خاف علينا معاشر المسلمين ما يحل ببعض المجتمعات المسلمة بين الحين والآخر من فتن ورزايا وحروب طاحنة، تلسع عموم أمة الاسلام بلهيبها على مرأى ومسمع العالم أجمع، ما يستدعي إيقاظ الضمير المسلم وإذكاء الغيرة الإسلامية لدى الشعوب المسلمة حكاما وعلماء ومصلحين، على ما يواجهه بنو الملة من عنت وشدائد جراء تلكم الحروب التي اجتاحت حياضهم ومشاريعهم واستاصلت شافتهم وجعلتهم مذعورين شذر مذر. وإنه ينبغي لنا عباد الله كل ما لاحت في الأفق غياية فتنة او شرارة حرب أن نتذكر ما كان يتمثل به سلفنا الصالح -رضي الله عنهم- حين ما تقبل الفتن أوتشم رائحة الحروب؛ بما رواه البخاري في صحيحه عن خلف بن حوشب : أن السلف كانوا يقولون عند الفتن: الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ولَّت عجوزاً غير ذات حليل شمطاء يكره لونها وتغيرت مكروهة للشم والتقبيل انه ينبغي على المسلمين ان يسبروا الأحداث والمدلهمات بعقل المستبين سبيل المجرمين، وان نحللها على وجه الإنصاف وطلب الحق والنصح للمسلمين، فإن الاكتفاء بمجرد التلاوم وإلقاء التعلة على الغير والرمي بالداء ثم الانسلال منه، لهو حجة العاجز القانط. وأن لكل رامق بعين النقد ان يرى التراشق بالتهم قد بلغ تكاثرا زاحم الهدف الأساس للخروج من كل أزمة بعقل صحيح وافق نير، ومن المؤسف الا نجد إلا لائما للعلماء فحسب او لائما للمصلحين والمثقفين فحسب او لائما للساسة والقادة فحسب وما القادة والساسة والعلماء والمصلحون إلا جزء من كل . ولا استقلال باللوم على صنف دون آخر؛ غير أن الأنصبة في ذلكم تتفاوت بحسب موقع كل من المسؤولية التي ألقاها الله على عاتق كل مسلم مكلف حيث يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم (ألا كلكم راع وكلم مسؤول عن رعيته). انه كان لزاما علينا ان نوقن جميعا بأن غير المسلمين لم ينتصروا علينا بجيوشهم وخيلهم ورجلهم قدر ما انتصروا علينا بفراغ قلوبنا وفقدنا لهويتنا واخلادنا الى الفوضى والأرض، والنأي بالأنفس عن المسؤولية وافتقارنا الى ما يجمعنا لا ما يفرقنا والى ما نعتز به لا ما نستحي منه، حتى صرنا بعد ذلك خاضعين لغيرنا طوعا أو كرها من خلال ما أصبحنا بسببه عالة على فلسفة غير المسلمين ومادتهم وسيادتهم . فكانت النتيجة الحتمية ان كثرة آلامنا ونكئت جراحنا واستبيحت حرماتنا وقذف في قلوبنا الرعب والوهن حتى صرنا نقر كارهين حينا ومستسلمين احيانا بأن باطل غيرنا حق وحقنا باطل على تخوف ومضض.