غريب هذا التصرف أو بالأحرى عدم التصرف الرشيد والحكيم من الرئيس المصري مبارك فيما يجرى من أحداث متلاحقة فى الشارع المصري الحقيقي الذى تتابعه كل أرجاء المعمورة لحظة بلحظة لا كما تصر أجهزة الدولة المختلة تصويره بأن كل شئ على ما يرام ، وتكمن الغرابة فى الكيفية التى يتحمل فيها شخص سويّ كل هذه الكراهية من شعب إدعى كغيره من الرؤساء والحكام العرب أنهم معبودون بالنسبة المعروفة إياها بالرغم من أن الكراهية فى حد ذاتها مقرفة بل مقززة فى أحيان كثيرة وتفوق كثيرا من المحرمات . ولثقل العمى اللوني الذى غشي مبارك ومن حوله طوال الثلاث عقود إستكثر الرئيس على نفسه الإعتذار الذى يُعد رخيصاً جداً للشعب المصري عن أخطائه السياسية وديكتاتوريته وجرائم نظام أمنه ضد الشعب فى خطاباته العرجاء الثلاث التى حاول فيها التهديد المبطن لشعبٍ ضاق به الحال لدرجة لم يعد يطيق غير رحيله ورحيل نظامه أو عصابته التى لا تتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم لتظل فى السلطة وتمتلئ كروشها التى لا تشبع مهما جاع الآخرون . مبارك تجاهل الرسائل الكثيرة السابقة التى كان فيها الكثير من الإحترام والأدب والذوق مع التقدير لتاريخه فى السنوات القليلة الماضية على الأقل عند كل تظاهرة تخرج لسببٍ أو لآخر حتى وصل الحال بالشعب للدرجة التى أسقط فيها كل شئ كان يكنه للرئيس من قبل وأولها الخوف ولم يعد يرى أو يسمع أو يرضى بغير رحيله ولكن مبارك لا زال فى فرعنته المعهودة ريثما يستعيد زمام الأمور كما يعتقد أو كما يصورها له المنتفعون والإنتهازيون من حوله عن طريق بوق النظام المسمى بالتلفزيون القومي الذى يؤدي دور القذارة ككل أجهزة الأنظمة الديكتاتورية والشمولية بأن مثل هذه التظاهرات ستكون كغيرها وستتم السيطرة عليها من قبل قوات الأمن أى أنها مجرد ( هيصه وهتعدى ) بالرغم من أن الشعارات المرفوعة يمكن ترجمتها بوضوح إلى أنها ( مش هيصه ومش هتعدى ..... أحسن تاخد الموضوع جدي ) مبارك كغيره من الرؤساء والحكام العرب لا يستطيع أن يشذ عن القاعدة التى تقول أنهم لن يتركوا كراسي الحكم إلا الى القبر حتى لو كان ماراً بطريق الإهانة والإذلال الذى يؤدي للهروب أو بالإغتيال أو المحاكمة والشنق . مبارك فى تشبثه المميت والمخزي بالسلطة أنموذج كريه وبغيض آخر للحكام والرؤساء العرب الذين يعتقدون أنهم لا سواهم من حمى البلد وأسسها وبناها وحارب من أجلها ولا يهمهم بعد ذلك أن يهدموها على رؤوس كل من يعارضهم أو يقول لهم ( تلت التلاته كم ) مبارك ومعه بقية الحكام والرؤساء العرب يعتقدون أن بدونهم لن تكون هناك دولة ولا مملكة ولا سلطنة ولا إمارة ولا نظام ولا قانون ولا تطور ولا علاقات إقليمية ولا دولية بل ولا حياة وسيختفي الخبز وتتوقف كل أشكال الحياة مع أن الحقائق والأمثلة والنماذج فى التاريخ الحديث والقديم تقول غير ذلك . مبارك الذى حكم لثلاث عقود ولم يستطع بل لم يتجرأ أن يعين نائباً له حتى لو كان من تلك الشاكلة الكرتونية برغم كل الدعوات والمناشدات والمطالبات وها هو الآن يعتقد أنه فى هذه اللحظات الأخيرة والمهينة بتعيين عمر سليمان ومن ثم تشكيل حكومة لعبة تبادل الكراسي أنه سيستعيد كرامته المهدرة ونفسه المحطمة بعد كل هذه الهتافات الداوية والمدوية من قبل الشعب الذى قال كلمته وانتهى . لا أعتقد أن بمقدور مبارك بعد مرور كل هذه الأعوام الطويلة فى سدة الحكم حتى لو كان المنطق منطق الطير ولم يستطع فيه أن يؤسس لدولة حديثة وقوية ومتماسكة وحرة وأبية ومؤسسة جيداً للأجيال القادمة يستطيع ذلك فى ثلاثة ايام أو أسابيع أو أشهر على الأكثر تماماً كما حدث من بن علي فى تونس وخطابه المرتجف والجبان الذى يحمل عنوان ( فهمتكم ) وهو الذى لم يفهم طوال ثلاث وعشرون عاماً ليفهم فى ثلاث أسابيع !! مبارك يتسلى بمصر والمصريين ولا أعتقد أنه لا يشاهد الأحداث التى تجري ليلاً ونهاراً فى مصر كلا وألف كلا إنه يشاهدها وربما ( يقزقز لب ) أيضاً بل ويضحك من داخله أحياناً ويؤشر بيده سراً عندما ترشق سيارات الدفاع المدني المتظاهرين بالماء البارد أثناء الصلاة وكذلك عندما تدهس سيارات الأمن المتظارهين وهو يستغرب كيف نجا أحدهم من الموت المحقق من تحت عجلات عربات الشرطة ومكافحة الشغب التى لا تعرف كيف تدهس شخصاً بطريقة صحيحة وقد يشعر بالفرح أيضاً عند دخول راكبي الجمال والأحصنة والبلطجية الذين حاولوا شق صفوف المنتفضين عليه وعلى حكمه لإستعادة الأمن والنظام المفترى عليه وهم يضربون ويطعنون ويركلون وترفس إبلهم كذلك بل أكاد أجزم بأنه وزمرته يعتقدون أن ما يدور أمامهم مجرد فلم سينمائي فريد لم تستطع السينما المصرية كتابته ولا إستطاع كاتب أن يفكر فيه أو جال فى خاطر مخرج ليخرجه وإن حدث ذلك فقطعاً ستوقف عرضه رقابة البلطجية الأخرى . لقد أهين مبارك وتم إذلاله فى هذه الإنتفاضة ومُسحت بكرامته وتاريخه صفحات الأرض ولن تستطيع كل هذه الأجهزة البائسة المسبحة والمطبلة له أن تعيد لشخصه واحدا من ألف منها ولو ظلت تنعق إلى يوم الدين ولن تنفعه كذلك كل هذه المحاولات اليائسة للترقيع والتلميع ورفع صوره وهو فى سن المراهقة من أنصاره الذين أساؤوا إليه بتصرفاتهم الهمجية واللا أخلاقية هذه ، وخير له ولمصر ولشعب مصر أن يترجل الآن ، وأما محاولته إستدرار عطف الشعب وكسر إرادته باجترار ماضيه الذى لم ينكره أحد ولكن أيضاً لن يسمح له أحد بأن يجعله سبباً أو سيفاً يجب أن يظل مسلطاً على أعناق الناس وتظل صورته حاضرة فى كل مكان ومرفق مع أنه نسي تماماً هذا الماضي بما مارسه من ظلم وقهر وديكتاتورية كادت أن تؤدي الى التوريث لولا هذه الإنتفاضة المجيدة ، أما المزايدة على الفراغ الدستوري والتشكيك فى الرموز والبدائل المحتملة لقيادة مصر فى حالة رحيل رأس النظام ومن معه وتخويف الناس من الفوضى وعدم الأمن من رجال الأمن الهاربين والمندسين وسط المتظاهرين وممارسة هذا الدور الخبيث والقذر فى حق مصر والمصريين لن تجدي أبداً بل لم تعد هذه الأوراق تصلح أمام إرادة الشعوب للتغيير وتنظيف أجهزة الدولة وشد مفاصلها للنهوض الصحيح والصحي نحو المستقبل . عبدالماجد موسى / لندن