3تلقت تيريزا ماي، مع توليها رسميّا مهام رئاسة الحكومة البريطانية، دعوة من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لزيارة برلين؛ كما اتفقت ميركل مع ماي، في اتصال هاتفي لتهنئتها بمنصبها الجديد، على ضرورة استمرار التعاون بروح "الصداقة المتينة" بين البلدين، بما في ذلك أثناء مفاوضات البريكست، فكلتاهما تعلم جيدا أنه لا مفر من استمرار العلاقة بين الطرفين، حتى لو كانت على غير ما تشتهي كل منهما. العرب محمود القصاص [نُشر في 19/07/2016، العدد: 10339، ص(6)] أرضية مشتركة تساعد على صياغة علاقة جديدة لندن - للمرة الثانية تتولى امرأة، تيريزا ماي، قيادة الحكومة والحزب الحاكم في بريطانيا، لكنها المرة الأولى التي يتزامن فيها هذا الوضع مع تولي قيادة نسائية أخرى، أنجيلا ميركل، مقاليد الحكم في ألمانيا. ونظرا إلى أن ألمانيا هي قاطرة الاتحاد الأوروبي وصاحبة أكبر اقتصاد فيه، فإن هذا يعني أن ملامح العلاقة الجديدة بين بريطانيا وأوروبا سترسمها، إلى حد كبير، الزعيمتان ماي وميركل. وبالنسبة إلى موقف تيريزا ماي من الاتحاد الأوروبي، فقد اختارت بدهاء شديد موقفا هادئا ومعتدلا أثناء النقاشات الساخنة التي سبقت الاستفتاء على علاقة بريطانيا بالاتحاد. وعلى الرغم من أن موقف ماي المعلن هو تأييد المعسكر الداعم لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، والذي كان يقوده رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون، إلا أن ماي اختارت أن تبقى بعيدة عن الأضواء، ولم تشارك في حلقات النقاش الصاخبة التي سبقت الاستفتاء. وبالتالي لم تكن من رموز أي من المعسكرين، المطالب بخروج بريطانيا من الاتحاد أو باستمرارها فيه. كما أن ماي اشتهرت أثناء توليها لوزارة الداخلية باتباع سياسات أكثر حزما تجاه المهاجرين واللاجئين، وهو ما يلقى قبولا وتأييدا من جانب معسكر الخروج. ‘تيريزا ماي ماضية بقوة للخروج من الاتحاد الأوروبي، وفريقها الذي سيفاوض الأوروبيين منسجم تماما مع هذه المهمة' وأكدت ماي بعد توليها لرئاسة الوزراء أنه لا يمكن التراجع عما قرره الناخبون في الاستفتاء، "وأن خروج بريطانيا يعني خروج بريطانيا"، بحسب ما قالت. كما أنها اختارت مجموعة من الشخصيات البارزة في حزب المحافظين، التي دعمت بقوة خيار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لتولي مناصب وزارية هامة، وأبرزهم بوريس جونسون الذي أصبح وزيرا للخارجية، بالإضافة إلى ديفيد دافيز الذي تولى منصبا جديدا، وهو وزير الدولة للخروج من الاتحاد الأوروبي، ووليام فوكس الذي أصبح وزير الدولة للتجارة الدولية. وكل هذا يعني أن ماي ماضية بقوة للخروج من الاتحاد الأوروبي، وأن فريقها الذي سيفاوض الأوربيين منسجم تماما مع هذه المهمة. ولكن يبقى السؤال الذي ينتظر إجابة واضحة من هذا الفريق: ما هي بالتحديد صيغة العلاقة الجديدة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي؟ نحن نعرف من مواقف تيريزا ماي أنها تبحث عن صيغة تضمن لبريطانيا حرية التجارة مع الاتحاد الأوروبي عبر السوق الأوروبية الموحدة، وذلك على أساس أن هذه السوق هي الأهم بالنسبة إلى بريطانيا، وتستقبل وحدها نحو نصف الصادرات البريطانية. لكن في ذات الوقت يرفض معسكر الخروج من أوروبا مبدأ حرية انتقال مواطني الاتحاد الأوروبي بين الدول الأعضاء في الاتحاد، والذي أدى إلى زيادة أعداد المهاجرين الأوروبيين إلى بريطانيا، خاصة من شرق أوروبا، الأمر الذي كان من أبرز أسباب التصويت للخروج من الاتحاد الأوروبي. ميركل.. رمانة الميزان على الجانب الآخر تصر أنجيلا ميركل، ومعها قادة الاتحاد الأوروبي، على الحفاظ على الحريات الأربع لكل من يتمتع بعضوية السوق الأوروبية الموحدة، وهي حرية انتقال السلع والخدمات ورؤوس الأموال والأفراد. وبحسب تعبير دونالد توسك، رئيس المجلس الأوروبي، فإن الاتحاد لن يقبل بعضوية "حسب الطلب" إذا كانت بريطانيا تبحث عن ذلك، بحيث تختار ما يناسبها، وهو حرية التجارة، وتتخلى عما لا يناسبها، وهو حرية انتقال الأفراد. غير أنه في ذات الوقت كان أسلوب ميركل في التعامل مع القضايا الهامة يتسم عادة بالتمهل والتأني في اتخاذ القرارات، واتباع نهج يميل إلى التهدئة بدلا من المواجهة، والتأجيل بدلا من التسرع، وقبول التسويات بدلا من التشدد. فصحيح أن ميركل تصر على التزام بريطانيا بحرية تنقل الأفراد إذا رغبت في التجارة بلا قيود مع السوق الأوروبية، لكن الصحيح أيضا أن هناك مجالا واسعا للتفاوض حول طريقة تنظيم حركة الأفراد بين الدول الأوروبية، وتفاصيل الاتفاقات التجارية التي يمكن أن تخدم مصالح الطرفين: بريطانيا والاتحاد الأوروبي. ‘على ميركل أن توازن بين الضغط على بريطانيا من جانب والحاجة إلى تجنب تضارب المصالح من جانب آخر' وهناك مشكلة أخرى تواجه ميركل وهي قيام بريطانيا مؤخرا بتخفيض الضرائب على الاستثمارات الخارجية لتصبح أقل بكثير من ألمانيا وفرنسا وغيرهما من أعضاء الاتحاد. وتخشى ميركل أن يتحول الأمر إلى منافسة بين بريطانيا والاتحاد على جذب رؤوس الأموال الخارجية بدلا من علاقة الشراكة بين الطرفين. وهذا يعني أن من مصلحة ألمانيا أن تصل إلى إبرام اتفاق مع بريطانيا يحقق شراكة مرضية، ومن ثمة على ميركل أن توازن بين الضغط على بريطانيا من جانب والحاجة إلى تجنب تضارب المصالح من جانب آخر. أرضية مشتركة ربما تتشابه ميركل وماي في الكثير من الأمور، فكلتاهما تقود حزبا حاكما يمينيا، وهو الحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا، وحزب المحافظين في إنكلترا، وكلتاهما لديه خبرة طويلة في العمل السياسي والحزبي، وتحظيان بالشعبية والاحترام في صفوف الحزب الذي تقوده، وكل منهما نشأت في أسرة محافظة، حيث كان الأب هو رجل الدين المسيحي بالنسبة إلى السيدتين، أي أن هناك أرضية مشتركة بين السيدتين يمكن أن تساعدهما على صياغة علاقة جديدة. الجغرافيا تجبر بريطانيا على استمرار علاقتها مع أوروبا، والتاريخ يؤكد أن كل ما يحدث في أوروبا يؤثر سواء أكان ذلك عاجلا أم آجلا على بريطانيا، والزعيمتان تعرفان جيدا أنه لا مفر من استمرار العلاقة بين الطرفين، حتى لو كانت على غير ما يشتهي كل منهما. كاتب مصري مقيم في لندن