بدأ العالم يدرك يوما بعد يوم أن الآباء والأجداد في الماضي كانوا أكثر حكمة وبساطة وإدراكا في ما يخص حياتهم الصحية، حيث كان الغذاء أسلوب حياة، لذلك أوْلوا عملية تخمير الطعام أهمية بالغة نظرا لدورها الهام من الناحية الاقتصادية والغذائية والصحية. العرب [نُشر في 29/07/2016، العدد: 10349، ص(20)] تشكيلة جراثيم تغير مستقبل الطعام نيويورك - بعدما شكل موضع نقد لرواد الموجة الجديدة في مطبخ السبعينات، يعود التخمير بقوة إلى عالم الطعام إذ بات مصدر إلهام لطهاة وخبراء متخصصين في فن الطبخ الراقي، يجمعهم السعي إلى توسيع مروحة المذاقات المتاحة أمامهم. وتقوم هذه الطريقة التقليدية على تحضير أنواع مختلفة من الأطعمة من خلال تحويل مكوناتها بالاعتماد على الجسيمات الدقيقة. ويطال التخمير عدة منتجات مستخدمة في الحياة اليومية بعضها يكتسي رمزية كبيرة في المطبخ الفرنسي كالخبز والجبن والزبدة واللحوم المقددة. غير أن الكثير من الطهاة آثروا الابتعاد عن التخمير في تحضير أطباقهم بسبب المخاوف المتنامية من الجراثيم خصوصا بتأثير نتيجة البحوث التي أجراها العالم الفرنسي الشهير لويس باستور فضلا عن تأثير حركة "المطبخ الجديد" في سبعينات القرن الماضي والتي تركز على أهمية الاعتماد على المذاقات الطبيعية للمنتجات من دون أي تحويل. غير أن الطاهي الفرنسي المخضرم يانيك الينو يؤكد أن التخمير يسمح بالاستفادة من "كل التنوع في الأرض". هذا الطاهي المعروف بعمله البارز في مجال تطوير الصلصات بفضل مسار يقوم على الطهو بحرارة تقل عن 85 درجة مئوية ومن ثم زيادة الكثافة عبر التبريد، قرر جمع هذه التقنية مع التخمير. ويوضح الينو الذي حصل على 3 نجوم من دليل ميشلان أن "التخمير يساعدني على البحث عن المذاق الذي لم تتح لي يوما فرصة الحصول عليه". ويلفت الطاهي إلى أنه بفضل هذه التقنيات "أدركنا أن مذاق نبتة الكرفس يختلف تبعا للمنطقة التي تنبت فيها سواء أكانت النورماندي أم باريس أم الجنوب الفرنسي"، مضيفا "ما نبحث عنه هو إطالة المدة التي يصمد فيها الطَّعْم داخل الفم. لقد فتحنا عالما من المذاقات، تتيح الإفادة من مروحة مذهلة" من الخيارات. ومنذ بضعة أشهر، يقدم يانيك الينو أطباقا في مطعمه الفاخر الواقع في جادة الشانزيليزيه الباريسية قام بإعدادها بفضل نتيجة هذه البحوث التي أجراها. اللحوم المقددة على طريقة الأجداد تعطي للطعام نكهة خاصة ومن بين هذه الأطعمة المتنوعة؛ فطيرة مصنوعة من عجينة رقيقة الطبقات محضرة مع شرائح صغيرة من الكرفس النيء المخمر والأفوكادو "المتروك مدة 18 شهرا على الشجرة"، تضاف إليها صلصة من نبات اللفت المخمر والفطر المخمر والصويا. وفي آسيا حيث يحتل التخمير حيزا كبيرا في مجال الطبخ، يقدم الطاهي التايواني اندريه تشيانغ تشكيلة كبيرة من الأطباق في مطعمه في سنغافورة الذي حصل أخيرا على نجمتين من دليل ميشلان الشهير للمطاعم. وهو يركز في أطباقه على الجمع بين المكونات والعصائر المخمرة التي تستخدم فيها حبوب وأغذية مختلفة كالشعير والذرة والأرز والشوفان للحصول على مذاقات جديدة، حتى أن خبراء في الكيمياء وعلوم الحياة يذهبون أبعد من ذلك ويستخدمون أحدث المعارف في مجال الجراثيم من أجل "فتح آفاق جديدة على صعيد المذاقات والطّعوم". ويوضح كميل دولوبيك الحائز على شهادة دكتوراه في علوم الأحياء المجهرية وعراب شركة ناشئة متخصصة في تخمير البن بأن "ما تغير خلال السنوات الأخيرة هو أننا انتقلنا من عمليات التخمير الطبيعية والعفوية إلى تخمير يمكن التحكم فيه". ويشير هذا الخبير إلى "أننا نختار البعض من الجراثيم الطبيعية بناء على قدرتها على التهام جزيئات تؤثر سلبا على مذاق البن لنقوم بعدها بتكوين جراثيم أخرى". ويشتمل مختبر شركته الموجود في نيويورك على مجموعة من 700 جرثومة مختارة بعناية يتولى الاهتمام بها "كقائد الأوركسترا". وفي مقالة نشرتها حديثا مجلة "نيتشر مايكروبيولوجي" العلمية البريطانية، تشبه الكيميائية المتخصصة في المذاقات ارييل جونسون التخمير ب"أداة جديدة ذات أهمية بالغة تضاهي تلك العائدة للسكين في التقشير وللمقلاة في القلي".