في المقابلة التي أجريت مطلع الاسبوع الماضي مع الرئيس البشير (صحيفة الشرق الاوسط) ، سئل عن السبب في تراجعه عن قراره بانشاء لمفوضية مكافحة الفساد التي كان قد أعلن عنها ، وفي اجابته على السؤال قال الرئيس: ( بالفعل كنت أعتقد في ضرورة قيام جسم غير حكومي يقوم على الشفافية لمكافحة الفساد ، ولكن ما قدمه لي وزير العدل من رأي حول هذا الموضوع كشف عن أن مسألة الفساد لا تستحق أن تنشأ لها مفوضية ، ذلك أن الآليات والقوانين الموجودة – والحديث لا يزال للرئيس – كافية لمكافحته ، فقانون الثراء الحرام ونيابة المال العام يكفيان لتغطية الجهد الحكومي لمكافحة الفساد ، ولذلك رأينا عدم جدوى انشاء المفوضية واكتفينا بتعيين "مكتب شكاوي" يلحق بمكتب رئيس الجمهورية لمتابعة ما تكتبه الصحف والتحري فيما تثيره من مواضيع تتعلق بالفساد " . مثل هذا القول ، يؤكد – من جديد – بأن مصيبتنا في التعامل الحكومي على مستوى رأس الجمهورية مع ملف الفساد ، يفوق بمقدار كبير مصيبتنا في الفساد نفسه ، وقبل الخوض في تفاصيل ذلك ، ينبغي علينا الوقوف على ما قال به الرئيس من اختزال لحجم المشكلة في تعليقه بذات المقابلة الصحفية حول ما تثيره الصحف اليومية حول قضايا الفساد ، يقول الرئيس : ( للأسف الصحافة تتأثر بالكلام الذي يدور في المجالس دون أدلة دامغة ، فأحد الصحفيين ، كان أكثر شخص يكتب ويتحدث عن الفساد، وعندما استدعاه وزير العدل وشرح له قانون الثراء الحرام ونيابة المال العام ، وقال له هات ما عندك من أدلة ووثائق ومستندات لنرى هل هي تندرج تحت قانون الثراء الحرام أم نيابة المال العام، قال له الصحفي ليس عندي دليل، وعندما سأله وزير العدل عمٌا يكتب، قال إن الناس هم الذين يتحدثون عن وجود فساد). قد يجد لنا القارئ العذر في تكرارنا القول (ما دام الرئيس ووزير عدله "دوسة" يكرران الخطأ في فهم القانون) لنكشف عن حالة التدليس التي تتغنى بها حكومة الانقاذ – في كل مرة – في الاشارة الى قانون الثراء الحرام كدليل على طهارة الحكم وكفاية نصوص القانون لمحاربة ظاهرة الفساد والمفسدين ، فقد قلنا في غير مرة ، أن قانون الثراء الحرام لا يستلزم لتطبيقه تقديم (أدلة) لاثبات الفساد مثل التي تحدث عنها الرئيس وناصحه "دوسة" ، ذلك أن من واجب لجنة مكافحة الثراء الحرام – بحسب القانون - أن تقوم من تلقاء نفسها بالتحقق من صحة المعلومات التي ترد اليها بأي طريقة كانت وتبلغ علمها (سواء بما يكتب في الصحف أو غيرها) ، والحال كذلك ، فانه من سوء الفهم والتقدير معاً ، أن يُطلب من صحيفة (الراكوبة) ، مثلاً ، تقديم الدليل على صحة تملك السيد/ نافع علي نافع للمزرعة الاسطورية التي نشرت صورها قبل ايام قليلة ، أو يُطلب تقديم الدليل على شراء رئيس القضاء لمنزل ملياري بمدينة الرياض يُدفع ثمنه من الخزينة العامة ، ويتم تسجيله باسمه الشخصي بزعم تعويضه عن اخلائه لمسكنه الحكومي بهدف توسعة مباني جهاز أمن الدولة ، اذ أن قيام الدليل على صحة أو بطلان مثل هذه (المعلومات) ، يمكن العثور عليه بسجلات الدولة لا ارشيف الصحف !!!!، ومن ثم ، ليس هناك ما يستوجب التحري أو مع (مصدر المعلومات) سواء كان مواطنا صالحاً أو صحفيا طالحاً. لقد صدق الرئيس حين قال بأن هناك ما يكفي من القوانين لمكافحة الفساد، وصدق أيضاً حين قال بأنه ليس هناك ما يستلزم قيام مفوضية لمكافحة الفساد، فلدينا من القوانين ولجان العدالة ما يفيض عن حاجتنا ويزيد بما يكفي للتصدير ، ذلك أن المعضلة الحقيقية التي تحول دون بلوغ العدالة المنشودة (سواء في مكافحة الفساد أو دفع الضرر أو رد المظالم) ، هي في تدخل الجهاز التنفيذي للدولة في أمر تطبيق العدالة، وهي مهمة سلطة القضاء وحده ، ويبقى السؤال !! لماذا عجز القضاء السوداني عن القيام بدوره في محاكمة قضايا الفساد !!! على الرغم مما ظللنا نقول به في حق قضاء الانقاذ ، الاٌ أنه من الظلم أن نحمٌل القضاء وحده مسئولية عجزه عن القيام بدوره الطبيعي في تحقيق العدالة في حماية المال العام ، فالواقع أن الجزء الأكبر من هذه المسئولية تتحمله (النيابة العامة) التي أصبحت صاحبة الولاية الحصرية في اتخاذ القرار بتحريك الدعوى العمومية من عدمه ، ففي السابق – قبل مجيئ الانقاذ – كان القضاء يتولى (تحريك) الدعوى العمومية بتلقي (الشكوى) مباشرة من المواطن سواء فيما يتصل بدعاوي الحسبة العامة أو الحقوق الشخصية ، ثم يقوم بالاشراف على سير التحريات وتوجيهها حتى مرحلة تقديم المتهم أو المتهمين للمحاكمة، وبصدور قانون النائب العام الحالي ، فقد صارت هذه السلطة في يد النيابة العامة وحدها ، لا سلطان للقضاء عليها، ومن ثمٌ فقد انحصر دور القضاء في اجراء المحاكمات للقضايا التي (تعرضها) عليه النيابة العامة وفق تقديرها. لا تنحصر مشكلة النيابة العامة في السودان على كونها تابعة كلياً للجهاز التنفيذي ، فمثل هذا العيب تشترك معنا فيه كثير من الدول التي تشاطرنا محنة العدالة المفقودة (في الولاياتالمتحدة ودول العالم المتقدم التي تأخذ بنظام النيابة العامة نعتبر سلطة قضائية مستقلة عن جهاز الدولة التنفيذي) ، بيد أن المشكلة الحقيقية تكمن في أن النيابة العامة ، على الرغم من أنها تعتبر سلطة شبه قضائية ، وتوصف بأنها (الخصم العادل) الاٌ أنها في السودان ، مهنة نشأت في كنف حكومة عسكرية ، وليس لها من الارث والتقاليد التي تساعد القائمين بامرها على تنفيذ أصولها على نحو دقيق ، فهي – كما سبق لنا وصفها – عبارة عن شرطة في زي مدني، فتجربة النيابة في تحريك قضايا الفساد وحماية المال العام تحكي عن نفسهاولا تحتاج منٌا الى تعليق ، ويكفي أن يجلس على رأسها وزير صاحب النصيحة التي قدمها للرئيس على النحو الذي دفعنا لهذه الكتابة . لقد كشفت المحاكمات التي تجري حالياً لرموز النظام المصري ، أن الشعوب – من أمثالنا - لا يتيسر لها معرفة مقدار الحجم الحقيقي للفساد الاٌ اذا ذهبت الأنظمة التى تقوم برعايته وتنكر وجوده من الأساس ، ففي الاسبوع قضت محكمة جنايات القاهرة بالسجن لمدة خمس سنوات على رئيس التلفزيون المصري بتهمة تبديد أموال عامة قيل أنه انفقها في انتاج (مسلسلات) هايفة ، كما قضت بالسجن لمدة سبع سنوات على (الفقي) وزير الاعلام السابق بتهمة اهدار أموال عامة نتيجة تغاضيه عن تحصيل رسوم بث محطات فضائية لمباريات رياضية . حين تهب رياح التغيير لدينا ، فسوف لن يجد قضاء (الثورة القادمة) الوقت الكافي لمثل هذا النوع من القضايا (الناعمة) ، وغداً لناظره قريب !!! سيف الدولة حمدناالله عبدالقادر [email protected]