مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    لم يقنعني تبرير مراسل العربية أسباب إرتدائه الكدمول    نشطاء قحت والعملاء شذاذ الافاق باعوا دماء وارواح واعراض اهل السودان مقابل الدرهم والدولار    ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب مانشستر سيتي بركلات الترجيح    ركلات الترجيح تحمل ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب السيتي    وزير الخارجية السوداني الجديد حسين عوض.. السفير الذي لم تقبله لندن!    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    سيكافا بطولة المستضعفين؟؟؟    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    شاهد بالفيديو.. بعد فترة من الغياب.. الراقصة آية أفرو تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بوصلة رقص مثيرة على أنغام (بت قطعة من سكر)    مصر.. فرض شروط جديدة على الفنادق السياحية    شاهد بالصورة والفيديو.. ببنطلون ممزق وفاضح أظهر مفاتنها.. حسناء سودانية تستعرض جمالها وتقدم فواصل من الرقص المثير على أنغام أغنية الفنانة إيمان الشريف    ماذا كشفت صور حطام صواريخ في الهجوم الإيراني على إسرائيل؟    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    مقتل 33899 فلسطينيا في الهجوم الإسرائيلي منذ أكتوبر    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    ترتيبات لعقد مؤتمر تأهيل وإعادة إعمار الصناعات السودانية    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    محمد بن زايد وولي عهد السعودية يبحثان هاتفياً التطورات في المنطقة    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة تنضم لقوات الدعم السريع وتتوسط الجنود بالمناقل وتوجه رسالة لقائدها "قجة" والجمهور يسخر: (شكلها البورة قامت بيك)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء فاضحة.. الفنانة عشة الجبل تظهر في مقطع وهي تغني داخل غرفتها: (ما بتجي مني شينة)    رباعية نارية .. باريس سان جيرمان يقصي برشلونة    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هوامش على دفتر ثورة أكتوبر
نشر في السودان اليوم يوم 23 - 10 - 2012


قبل أن تقرأ هذه السطور:
هذه الخواطر قدمت أصلا لجمعية أصدقاء الكتاب السودانية في مدينة الدمام، المملكة العربية السعودية، في مناسبة احتفالها بالذكرى الثالثة والأربعين لثورة أكتوبر ، ثم نشرتها في بعض المواقع الكترونية بعد أن أدخلت عليها بعض التعديلات والإضافات ، وأعيد نشرها في الذكرى الثامنة والأربعين لثورة أكتوبر، بعد أن حذفت منها أجزاء مطولة تعني بعض القراء. هي في مجملها مشاهدات وانطباعات من الذاكرة رغم أني لا أحسب نفسي مؤهلا للكتابة عن ثورة أكتوبر حتى من موقع المشاهد، كنت حينها قادما جديدا للجامعة وللخرطوم أحمل معي كل قلة معرفتي وضيق أفقي.
الجو العام الداخلي:
قبل اندلاع الثورة كانت المآخذ على سلطة نوفمبر العسكرية تتلخص في الآتي:
اتجاه الحكومة العسكرية لتصعيد الحل العسكري لمشكلة الجنوب بسياسة الأرض المحروقة لم يجد القبول ولم يصب النجاح.
* أفرطت السلطة في قمع الحريات وحربها على النقابات العمالية والاتحادات الطلابية ودخلت في صراع لا ينتهي معها.
معالجة النظام لقضية مياه النيل كانت سيئة للغاية تمخض عنها اتفاقية مياه النيل عام 1959م وإغراق وادي حلفا وتهجير سكانها بشكل مضر بمصالح البلاد الاستراتيجية وما صاحب ذلك من ممارسات فاسدة في تشييد خزان خشم القربة ومدينة حلفا الجديدة.
*وقف النظام حليفا قويا لهيلاسلاسي امبراطور أثيوبيا ، وقام بتسليمه منقستو نواي قائد المحاولة الانقلابية التي جرت في أثيوبيا ولجأ للسودان فأعدمه هيلاسلاسي، وكان النظام كذلك عونا لهيلاسلاسي على الثورة الإريترية التي بدأت في ذلك الوقت كفاحها المسلح والتي يتعاطف معها الشعب السوداني تقليديا.
موقف النظام السلبي من ثوار الكونغو والتسبب في مقتل الثائر باتريس لومومبا رئيس وزراء الكونغو عام 1961م.
صحيح أن النظام أنجز بعض المشاريع التنموية والتجميلية لكن ذلك تم في غياب خطط تنموية مدروسة ولم تنعكس هذه المشاريع على التنمية عموما ، وبعضها أقيم بناء على تصورات ودراسات خاطئة مثل مصنع ألبان بابنوسة ومشروع خزان دلسة ومصنع البصل في كسلا ومصنع الكرتون في أروما.
عدم وجود توجهات حقيقية لدى النظام لإعادة الديموقراطية وإجراء انتخابات نيابية حرة، فقد عمد النظام إلى ابتداع نسخته الخاصة من "الديموقراطية" فأقام ما أسماه بالمجلس المركزي الذي كان كيانا تشريعيا صوريا قاطعته الجماهير.
فشل النظام في استقطاب أي سند جماهيري أو أي جماعة ناشطة مؤثرة، فبقي في عزلة.
بالرغم من طهارة اليد والمسلك التي كان يتسم بها أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم والوزراء عموما فإن الشبهات والإتهامات لاحقت وزيرين عسكريين أحدهما كان يشتبه في محاباته لذويه والآخر ربطت الشائعات اسمه بممارسات غير حميدة .
الأجواء الإقليمية والدولية:
*لم يكن السودان بمعزل عن الحراك النضالي وجو التحرر الوطني والنضال من أجل الحريات والثورات والتغيرات التي كان يعيشها العالم آنذاك
*كان المعسكر الإشتراكي بقيادة خروتشوف في عنفوانه وكان له قصب السبق خصوصا بعد نجاح يوري قاقارين في القيام بأول رحلة للفضاء الخارجي.
وكانت مجموعة دول عدم الإنحياز في أوجها تحت قيادة قادة أسطوريين من دول العالم الثالث،
كانت منظمة الوحدة الأفريقية في بدايتها وجاءت تتويجا لجهود القادة الثوريين في أفريقيا
وكان العصر عصر القيادات التاريخية العملاقة التي ناصرت حركات التحرر الوطني ووقفت في وجه المعسكر الراسمالي فكان هناك تيتو في يوغسلافيا، أحمد سوكارنو وإيديت في إندونيسيا، نهرو وكريشنا منون في الهند، فيديل كاسترو في كوبا، ماو تسي تونج وشواين لاي في الصين، موديبو كيتا في مالي، كينيث كاوندا في زامبيا، جوليوس نايريري في تانجانيغا، أحمد سيكوتوري في غينيا،كوامي نيكروما في غانا، ملتون أبوتي في يوغندا ، هو شي منه وجياب في فيتنام، المهدي بن بركة في المغرب ، أحمد بن بيلا في الجزائر وجمال عبدالناصر في مصر.
وكانت أفريقيا تعيش أعقاب ثورة لومومبا وثورات التحرر الوطني في جنوب أفريقيا وغينيا بيساو والرأس الأخضر وموزمبيق وأنجولا وناميبيا وإرتيريا ، وثورات فيتنام وكمبوديا ولاوس المسلحة التي يدعمها المعسكر الإشتركي
كان لكل ذلك تأثيره ، ولم يكن السودان جزيرة منعزلة عن الأفكار ورياح الثورات.
مواقف القوى السياسية والتنظيمات المختلفة:
كانت النقابات والإتحادات الطلابية دائما رأس الرمح في الصدام ضد النظام العسكري.
شاركت الأحزاب السياسية بصفة عامة في مقاومة الحكم العسكري (الأمة والوطني الإتحادي والشيوعي) إلا أن معارضة الحزب الشيوعي كانت أشرس وأكثر تنظيما واستمرارية، لكنه رغم ذلك ارتكب خطأ استرتيجيا بقبوله الدخول في المجلس المركزي (لمعارضة النظام من الداخل). حزب الشعب الديمقراطي "الذي انشق في 1957 من الوطني الإتحادي ثم عاد إليه عام 1967م فيما بعد تحت اسم الاتحادي الديمقراطي كان مواليا للنظام. السيدان علي الميرغني ، زعيم طائفة الختمية، وعبدالرحمن المهدي، زعيم طائفة الأنصار، باركا الإنقلاب مع صدور بيانه الأول. كان الإخوان المسلمون معارضين شرسين للنظام داخل الاتحادات الطلابية ولكن ولم يكن وجودهم فاعلا خارج هذه الاتحادات ، ولربما لهذا سعوا فيما بعد بسجلهم الخالي من مقاومة النظام كتنظيم سياسي لتجيير مشاركة الرشيد الطاهر بكر في محاولة علي حامد الإنقلابية عام 1959م لصالحهم.(جرت تلك المحاولةالانقلابية في 1959م وانتهت بإعدام قادتها العسكريين علي حامد، عبدالبديع علي كرار، الصادق محمد الحسن، يعقوب اسماعيل كبيدة وعبدالحميد عبدالماجد وسجن آخرين من بينهم الرشيد الطاهر بكر وشقيقه اليوزباشي عبدالله، وقد سجنا لخمس سنوات. سجن لفترة أطول الصاغ عبدالرحمن إسماعيل كبيدة ، الشقيق الأصغر ليعقوب ،وكان عبدالرحمن قد قاد أول محاولة انقلابية في السودان عام 1957م ضد حكومة عبدالله خليل فسجن ثم أطلق سراحه عسكر نوفمبر ليشارك في محاولة أخرى. كان اسمه ضمن قائمة المحكوم عليهم بالإعدام في محاولة انقلاب عام 1959 و لكن الفريق عبود خفض العقوبة للسجن المؤبد لكي لا يعدم شقيقان في وقت واحد. ويسجل التاريخ أن عبدالرحمن كبيدة سعى في شجاعة بالغة وبشتى السبل لكي يفتدي شقيقه الأكبر يعقوب لأن يعقوب رب اسرة ، ولكن دون جدوى وظل في السجن حتى أفرج عنه بعد ثورة أكتوبر. في عهد مايو أصبح مديرا عاما لمؤسسة السياحة السودانية وقام عام 1973م بتعييني موظفا في المؤسسة بعد أن سد جعفر بخيت الأبواب في وجهي ، وذلك جميل يطوق به عنقي ما حييت. كان كبيدة لبقا متحدثا ، وسيم الخلق والمظهر ،يتقن الإنجليزية والفرنسية بجانب العربية إضافة إلى أنه فنان تشكيلي. طيب الله ثراه وأسكنه فسيح الجنان.)
خلفية شخصية:
التحقت بكلية الآداب في جامعة الخرطوم في أغسطس 1964م وكان ذلك يشكل لي نقلة حضارية وأكاديمية كبيرة ، فقد جئت من حنتوب وقبلها من القضارف الأميرية وكنت في ذروة الدهشة والصدمة. كانت الدراسة تحت سقف واحد مع الطالبات من أكثر الأشياء المثيرة للدهشة ، كانت الجامعة تعيش تلك الأيام حراكا أدبيا واسعا ترفده القامات الشعرية الطويلة مثل عبدالله جلاب وتيراب الشريف من أبناء دفعتنا وعبدالرحيم أبوذكرى والأمين بلة ومحمد تاج السر ومحمد عبدالحي من الدفعات السابقة لنا.
كنت مشدوها على وجه الخصوص بتوفر قدر كبير من الحريات الاجتماعية التي كنا نفتقدها في حنتوب، أقلها الحق في ارتداء البنطلون والخروج من الداخلية متى ما شئت في حين أنه لم يكن مسموحا لنا في حنتوب بعبور النهر لقضاء ساعات قليلة في ودمدني إلا مرة واحدة كل أسبوعين، ولكن كانت جائزة ذلك الإنضباط الخانق عددا كبيرا من مقاعد الجامعة وزادا قيميا ومعرفيا.
بهذه الخلفية "البريئة" استقبلت ثورة أكتوبر بعد مضي نحو شهرين من السنة الدراسية.
تداعيات الأحداث:
الصراع بين سلطة نوفمبر العسكرية واتحاد طلاب جامعة الخرطوم قديم قدم تلك السلطة نفسها. في عام 1963 صدر قرار بأن تتبع جامعة الخرطوم لوزارة المعارف فعمت الإضرابات مؤسسات السودان التعليمية فجمد القرار ثم اضطرت السلطة وإدارة الجامعة للإعتراف بالاتحاد بعد أن كانت قد سحبت اعترافها به فترة من الزمن.
تصاعد العمل العسكري في الجنوب زاد من تعقيد المشكلة وارتفاع أصوات الرافضين فعقدت جمعية الفلسفة التابعة للإتحاد ندوة في قاعة الامتحانات في أواخر سبتمبر 1964 تحدث فيها عدد من المتحدثين من بينهم الدكتور حسن الترابي ،أستاذ القانون في كلية الحقوق، وأمنوا جميعهم على أن مشكلة الجنوب لن تحل عسكريا ولن تحل في ظل نظام عسكري ، فحظرت السلطة تداول مشكلة الجنوب في الصحف أو على المنابر، فتقدم الإتحاد بمذكرة للسلطة العسكرية يؤمن فيها على احل السلمي للمشكلة ويطالب العسكر بالعودة للثكنات. قامت السلطات باعتقال أعضاء اللجنة التنفيذية العشرة وكان رئيسها حافظ الشيخ الزاكي من الإجاه الإسلامي وأمينها العام جلال الدين الطيب من الجبهة الديموقراطية. (كان الإتحاد يشكل بنظام التمثيل النسبي الانتخابي وذلك يضمن عدم انفراد تنظيم واحد بالهيمنة على القرار وتمثيل كل وجه نظر في المجلس الاربعيني حسب عدد أصواتها. نظام التمثيل النسبي هذا انتقل من جامعة الخرطوم لإسرائيل مع إدخال بعض التعديلات عليه هناك. وهذا موضوع آخر)
قامت لجنة تنفيذية بديلة للاتحاد برئاسة ربيع حسن أحمد من الإتجاه الإسلامي وسكرتارية الشيخ رحمة الله من الجبهة الديموقراطية وقررت عقد ندوة في دار الإتحاد يوم الأربعاء 14 أكتوبر لمناقشة نفس قضية الجنوب يقتصر الحديث فيها على طلاب الجامعة، ولكن في ذلك اليوم غمرت إدارة الجامعة (النجيلة) في دار الإتحاد والجامعة بالمياه فألغيت الندوة.
جرت العادة أن يقوم الإتحاد بطرح القضايا الهامة على الطلاب بشكل مباشر في داخلياتهم، وكان كل الطلاب يسكنون في الداخليات حتى أبناء الخرطوم منهم ، ما عدا قلة قليلة، (أيام دولة الرعاية). كان أعضاء المجلس الأربعيني يتوزعون على الداخليات في فترة ما بعد الغداء حيث يجتمع سكان الداخلية في صالة كبيرة أو أمام الداخلية ويطرح عضو المجلس الأربعيني بشرح القضية المعينة ويقوم الطلاب ،كجمعيةعمومية، بمناقشتها ومن ثم التصويت إن كان الأمر الأمر يتطلب تصويتا ، ويدير عضو المجلس الأربعيني الإجتماع وغالبا لا يشارك في النقاش أو التصويت ، ويجوز للطلاب الخارجيين(الذين لا يقيمون في الداخليات) حضور مثل هذه الإجتماعات في أي داخلية. عقد اجتماع ذلك اليوم في صالة داخلية كسلا لاستفتاء الطلاب حول خياري عقد ندوة أو الخروج في مظاهرة وأذكر أنني أدليت بصوتي لخيار المظاهرة (كان طلاب السنة الأولى آنذاك لا يشاركون في انتخابات الإتحاد) كنت أعتقد أن قيام الندوة قد يؤدي لإغلاق الجامعة دون انجاز يذكر،فضلا عن أني كنت تواقا لتجربة التظاهر النشط فقد كانت مظاهراتنا في حنتوب تنتهي عند شاطيء النيل الأزرق المواجه لودمدني حيث نظل نهتف ونهتف حتى تبح أصواتنا ونحن في مأمن من القنابل المسيلة للدموع وهراوات وسياط الشرطة (كانوا آنذاك لا يطلقون الرصاص على المتظاهرين ) ، ولكن كانت الأغلبية إلى جانب عقد الندوة. تصويتي كان خيارا شخصيا بحتا مثل معظم الحاضرين ولكن علمت فيما بعد أن الإتجاه الإسلامي كان وراء خيار الندوة في حين أن الجبهة الديموقراطية كانت تؤيد المظاهرة،ولا أعرف دوافع الطرفين يقينا، والله أعلم. وقف أحد زملائنا من السنة الأولى متحدثا، على غير العادة فقد كان الطلاب الجدد يكتفون بالإستماع، وقال إنه يود نيابة عن إخوته من الطلاب الجدد أن يعاهد الجميع أنهم سيكونون في مقدمة الصفوف . كان يتكلم بصوت جهوري قوي وبثقة شديدة. لم نفوضه للتحدث نيابة عنا ولم يستشرنا قبل أن يتحدث باسمنا ولكن لا بأس فذ لك فقد كان حديثه طيبا وعاما. كان ذلك الزميل الذي اختطف اسمنا هو الأخ مهدي ابراهيم.
تقرر إذن عقد الندوة بعد السابعة مساء الأربعاء 21 أكتوبر 1964م في داخليات "البركس".
كان الجو في اليومين السابقين للندوة يشوبه التوتر والترقب، وكانت هناك حالة من الهدوء الذي يسبق العاصفة. قبل يوم الأربعاء الموعود كنت في زيارة لمولانا الشيخ عوض عمر الإمام في داره العامرة بذكر الله وقلوب المحبين ، في أم درمان، وأذكر أنه قال لي " ما تكون رأسا يقطعوك ولا ذيلا يطوك". وأنّى لمثلي أن يكون رأسا ، وفي نفس الوقت لم يكن هناك ما يدعوني لأن أكون ذيلا.
أخذت سيارات (كوامر)الشرطة المحملة بالجنود وهم في كامل عتادهم وعدتهم تتجمع منذ عصر يوم الأربعاء في مقر شرطة السفارات المجاورة للبركس. بعد السابعة مساء توافد الطلاب من داخليات الطب والزراعة والبيطرة والداخليات الأخرى من خارج البركس ليتجمعوا كلهم في مكان الندوة. بالطبع لم يحضر جميع الطلاب ولكني أقدر عدد الحاضرين بحوالي السبعمائة. بدأت الندوة بعد الثامنة مساء في الفضاء الواقع شمال داخليتي عطبرة "أ" و "ب" والذي شغلته فيما بعد داخليتا التاكا وجبل مرة. كان الحاضرون والمتحدثون جميعهم من طلاب الجامعة . جلست مسترخيا على كرسي واضعا "رجل على رجل". بدأت الندوة. كان أول المتحدثين المرحوم آدم محمد آدم، من أبناء رفاعة والذي عمل محاميا فيما بعد في الحصاحيصا. وصلت طلائع قوات الشرطة من خلفنا أي من الجهة الشمالية. كانت المرة الأولى التي يبلغ فيها عنف الدولة في السودان حد اقتحام الحرم الجامعي. خاطب قائد القوة الحاضرين يأمرهم بالتفرق. واصل آدم الحديث وواصل الحاضرون الاستماع وكأن شيئا لم يكن. فجأة انهمرت علينا القنابل المسيلة للدموع. حدث هرج ومرج وتدافع الطلاب في اتجاه الجنوب والغرب بعيدا من القنابل والدخان. شرقا كانت مدرسة التجارة الثانوية. قفلت راجعا لوسط الدخان إلي حيث كنت جالسا بحثا عن (فردة) مركوبي التي كنت قد خلعتها للحصول على مزيد من الاسترخاء،ولحسن حظي عثرت على ضالتي بسهولة فانتعلتها من جديد، وكان ذلك أول تعامل مباشر لي مع الدخان الذي دخلت في جوفه ففعل فعله في عينيّ ووجهي وكان لاسعا حارقا. (أذكر أنني رايت فيما بعد عبوة من مخلفات القنابل المسيلة للدموع وكانت صناعة امريكية وكان مكتوبا على العبوة كلمات قرأتها بعيني رأسي "للكلاب والزنوج" For Dogs and Negroes. هل كانت هذه القنابل تستخدم فعلا للكلاب وتؤثر فيها أم إن الكلمات مجرد إفراط في العنصرية المتعالية ؟
لم تنته المعركة .. تقدم الطلاب من جديد للمصادمة تشعل فيهم زغاريد إخواتهم الطالبات الحماس. تعرفت على زميلتي مهيرة حسن بابكر من الحاضرات وتعود جذورها إلى نفس منطقة مهيرة بت عبود. صعدت الحاضرات من الطلابات إلى الطوابق العليا من داخلية كسلا وأخذن يصببن الماء من "الخراطيش" لغسل وجوه إخوتهن الطلاب لتخفيف آثار الدخان. لم يكن الطلاب صيدا سهلا. تقدموا وتلاحموا بأيديهم مع العسكر. تقهقر هؤلاء بعد أن كانوا يتعقبون الطلاب ويطاردونهم بين الداخليات. أصيب كثيرون بالجراح. استخدم الطلاب الحجارة والطوب وقبضات الأيدي في مواجهة الهراوات والسياط حتى قاربت الساعة الحادية عشر. انطلق الرصاص. كنا نحسبه "فشنك" ولكن اكتشفنا فيما بعد أنه رصاص حقيقي. أمام داخلية سوباط شمال غرب منطقة المعركة سقط أحمد قرشي طه شهيدا ، وكان شهيد الثورة الأول. كان في سنته الأولى في كلية العلوم ولم يسبق لي رؤيته وكان يسكن في داخلية الدندر التي حملت فيما بعد اسمه، وكان عضوا في الجبهة الديموقراطية ولا أدري إن كان عضوا في الحزب الشيوعي أم لا. حوالي الحادية عشرة مساء توقفت المعركة بعد أن أصبح قبضات الأيدي والحجارة لا تجدي مع الرصاص. انسحب الجنود وجلس المحاربون يضمدون جراحهم ويتفقدون أمورهم.
الدكتور علي محمد خير والدكتورحسن الترابي هما أول من دخل البركس لإسعاف الطلاب وحمل جرحاهم للمستشفى. عدت لغرفتي في داخلية الزراف ووجدت زملائي الثلاثة سالمين من غير أذي. بعد منتصف الليل خلدنا للنوم ، وفي الصباح توجه كل الطلاب لمستشفى الخرطوم حيث يرقد الجرحى من الطلاب ومن بينهم بابكر حسن عبدالحفيظ شهيد الجامعة الثالث الذي توفي بعد ذلك في نوفمبر متأثرا بجراحه ولكن سبقه إلى الشهادة شهيد الجامعة الثاني مبيور أشول العامل في كلية الآداب الذي سقط أمام القصر الجمهوري فيما بعد. كان أول سياسي يزور المستشفى في الساعات الأولى من صباح يوم 22 أكتوبر هو اسماعيل الأزهري. تجمع الطلاب أمام المشرحة. تصادف أن كان الشيخ رحمة الله سكرتير الإتحاد يجلس على الأرض على مقربة مني. كان ذلك العملاق الباسل مبتور الذراع اليسرى ولكن تلك الإعاقة لم تمنعه من التميز الإجتماعي والسياسي. ما أغلى دموع الرجال ..رأيته يبكي بحرقة على القرشي.. أثرني المشهد فبكيت. (أبكتني بعد نحو عشر سنوات دموع رجل آخر هو ياسين عمر الإمام. كنا في داره في انتظار وصوله من سجن كوبر لتشييع كبرى بناته سمية التي توفيت بمرض قلبي. سمح له بالخروج لساعات من معتقله أيام نميري. ما إن دخل داره حتى وقف يصلي ركعتين لله ثم انخرط بعد ذلك في بكاء يمزق القلوب فبكيت وبكى كل من حوله . كان العسكري المرافق له يبكي هو الآخر ويده ممسكة ببندقيته.. كان ذلك هو السودان قبل أن تطبق على أنفاسه الأزمنة الرديئة).
لم يشارك إخوتنا الطلاب الجنوبيون في الأحداث لأنهم انسحبوا من الإتحاد قبل سنوات بسبب خلاف حول تصرف ما، لا الم بتفاصيله يتعلق بلوحة لفتاة جنوبية اعتبروه مهينا لهم. اكتفوا ليلتها بالتفرج على المعركة من الأدوار العليا في داخلية عطبرة رغم أن الناس يحتربون وتسيل دماؤهم بسبب قضيتهم ، لكنهم أكرهوا فيما على المشاركة دفاعا عن أنفسهم،وفعلوا ذلك بعنف وشجاعة عندما حاول العسكر التحرش بهم.
انضم إلى الجموع أمام المستشفى طلاب مدرستي الخرطوم الثانوية والتجارة الثانوية، الملاصقتين للبركس، ثم طلاب المعهد الفني(جامعة السودان الآن ) وطلاب معهد المعلمين العالي (كلية التربية في جامعة الخرطوم الآن) وبدأت تتوافد إلى المكان النقابات العمالية. وقبيل العاشرة صباحا جاء موكب أساتذة الجامعة بأروابهم المهيبة ، وشاهدت أستاذنا الباريسي الأنيق مسيو رافينو رئيس شعبة اللغة الفرنسية وكان الغضب يكسو وجه حفيد مونتسكيو وفولتير وروسو بالحمرة وعينيه بالحدة، ورأيت كذلك أستاذنا النيجيري أوقودا أستاذ العلوم السياسية. كانت جامعة الخرطوم تلك الأيام تستهوي صفوة الأكاديميين العالميين.
تحرك الموكب متجها نحو ميدان عبدالمنعم وهو يحمل جثمان الشهيد احمد قرشي لأداء صلاة الجنازة بعد أن افلح الطلاب في استخلاص الجثمان من المشرحة. سار الموكب في صمت بلا هتافات حتى بلغ مقصده حيث صلوا صلاة الجنازة ، وكانت هناك سيارة تتوسط الميدان يعتليها أساتذة الجامعة وبعض قيادات الإتحاد. تحدث أحد الأساتذة، لا أذكره، داعيا الحاضرين للتفرق وأنهم،أي الأساتذة، سيتابعون القضية، وبدا أن الأمر سينتهي عند ذلك الحد حتى أمسك بالمكرفون فجأة الدكتور علي محمد خير والدكتور حسن الترابي وأطلقا هتافات أثارت المتجمهرين.. "سننتقم من القتلة.. إلى الجحيم ياعبود.." وكان ذلك كفيلا بإلهاب العواطف ومن هناك انطلقت المظاهرات الهادرة العنيفة الغاضبة لتعم المكان وتنتقل من هناك لتعم كل العاصمة المثلثة.
بعد المشاركة في المظاهرات أخذت طريق العودة مع زميل لي من أبناء المعيلق اسمه عمر الشامي (وقد ترك بعد فترة الدراسة في الجامعة وهاجر لإيطاليا لمزاولة هوايته في الرسم الذي احترفه فيما بعد، فقد كان رساما موهوبا. انقطعت صلتي به وأحسبه ما يزال في مهجره) واستطعنا الوصول للبركس سيرا على الأقدام وتوخي الحذر من تجمعات الشرطة التي كانت تتحرش بالطلاب. بعد ظهر ذلك اليوم، 22 أكتوبر 1964م، أعلن وزير الداخلية بالإنابة اللواء محمد أحمد عروة حظر التجول وفي نشرة أخبار الثالثة قرأ المذيع محمد العبيد تعليقا سياسيا بعنوان "ماذا يريد طلاب جامعة الخرطوم؟" كتبه عبدالله رجب ، يهاجم فيه الطلاب ويتهمهم بالمراهقة وعدم المسئولية، وكان ذلك التعليق فيما بعد آخر عهد محمد العبيد بالعمل كمذيع وكان كذلك نهاية مؤسفة لعبدالله رجب كصحفي ارتبط في أذهان الناس بالدفاع عن قضايا الحرية (وذلك موضوع آخر)
لم يشاهد الطلاب ربيع حسن أحمد رئيس الإتحاد وعضو الإتجاه الإسلامي. اختفى تماما عن الأنظار، ربما آثر العافية والسلامة. اطلعت في إحدى الصحف قبل سنوات خلت على شهادة لعضو في اللجنة التنفيذية لنفس الإتحاد وينتمي لنفس تنظيم ربيع السياسي يدعي فيها أن ربيعا كان خارج السودان، وهي شهادة تغالط الحقائق التي رآها الآخرون أمامهم. المهم أن العملاق النبيل الشيخ رحمة الله تولى بذراعه المبتورة قيادة الإتحاد والمشاركة في صناعة الأحداث والتاريخ فتحمل المسئولية في شجاعة يذكرها له التاريخ. ولكن الشيخ رحمة الله انسحب من الأضواء بعد تخرجه في الجامعة وانصرف لممارسة مهنة القانون في الأبيض والخرطوم زاهدا في العمل السياسي حتى اختاره الله تعالى لجواره بعد معاناة طويلة مع المرض. عليه رحمة ورضوانه.
قبل الختام :
ليلة الأربعاء 21 اكتوبر 1964م ، التي أكرمني الله سبحانه وتعالى بحضورها بلا حول مني ولا قوة ، كان يجمع بين الناس ويؤلف قلوبهم وطن واحد كنا جميعا نعشقه أشد ما يكون العشق، قبل أن يقع بعضهم أسرى لفتنة الدنيا وجنون القوة، حتى بلغ سفرهم منتصف النهار ولم يستبقوا أحدا عند الضحى. فأين أصبحنا وأين أصبح كل ذلك الوطن في الذكرى الثامنة والأربعين لثورة أكتوبر المجيدة؟
وعلى كل، فقد أفلتت ثورة أكتوبر من محاولات الاحتكار ثم محاولات التغييب المتلاحقة وغدت ملكا خالصا للتاريخ وحده.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.