بيانات الغضب لماذا؟ فاضت المواقع الاسفيرية فى الاسبوع الماضى ببيانات الشجب والغضب وتعليقات الناشطين والناشطات و التى اجبرت الحكومة على التجاوب مع الصخب حول قضية الاعلان الموصوف بانه " مسىء للنساء السودانيات" كما ادانته تلك البيانات الصادرة من جهات معارضة او موالية للنظام, سواءا كانت دينية او سياسية او منظمات مدنية ونسوية وشبابية, وكان الملحوظ ان الغضب كان موجها ضد النظام الذى سمح بتدنى قيمة "المرأة السودانية " , حتى اصبح " شرفها وعرضها" مباحا سداحا مداحا لكل صاحب نشاط مشبوه للوصول لحد الاعلان فى الصحف للاتجار به بلا مواربة او خجل, وكان غضب الكثيريرن منطلقا من معرفتهم المسبقة بما يحدث للفتيات اللائى قد يستجبن لمثل تلك الاعلانات وخاصة ان الاعلان كان موجها الى توظيف النساء فى الكويت وهى دولة خليجية نفطية غنية وذات طلب عالى لكل وسائل الرفاهية والمتعة, مثل غيرها من دول الخليج. وكان الاكثر استفزازا فى الاعلان لدى الكثيرين هو عبارة " ان لا تكون من ذوى البشرة الداكنة", ونسبة لان الاعلان صدر فى انتباهة الطيب مصطفى العنصرية التوجه كان للعبارة تاويلات ومعانى عدة لدى الكثيرين , الذين ربطوها بعنصرية الصحيفة وصاحبها والنظام الحاكم الذى سمح للاعلان وللصحيفة بالصدور. وكان من المدهش فى البيانات الصادرة ان هذا الحدث انطق بعض الجماعات الصامتة التى لم تحرك ساكنا فى كثير من الاحداث التى تحط من قدر النساء, بل وتنهى ادميتهن وتخرق كافة حقوقهن , حتى حقهن فى الحياة, ناهيك عن الحفاظ على العرض والشرف. فهؤلاء الغاضبون لم يكتبوا حرفا واحدا عن تهانى حسن الطالبة التى قتلتها الشرطة وهى فى ال17 من عمرها فى مظاهرات طلاب نيالا فى يوليو الماضى , ولم يكتبوا عن العشرات والالاف من اخواتها وامهاتها اللائى اغتصبن جماعات وفرادى فى حرب دارفور المستمرة عارا فى جبين هذا الوطن المنتهك لعشرة سنوات الان, ولازالت نساء دارفور ينزفن من الاغتصاب المتوحش الذى يستهدف حتى الاطفال وكبار السن فى حيوانية متوحشة من قبل مليشيات النظام المطلقة اليد على اولئك الذين ليس لهم صوت يحميهم, او يغضب لهن, ولم يكن انتهاك اعراضهن على يد الغريب, بل على يد من يفترض به حمايتهن , ليس لانه من " الحكومة" لكن من المفترض به حمايتهن لانهن نساء بلاده وعرضه. ولكن يبدو ان ليس كل النساء فى هذا البلد يدب الغضب لعرضهن وليس كل نساء هذه البلاد يحمى شرفهن وتكتب البيانات الداعية لحفظ كرامتهن, ويبدو ان " صاحبات البشرة الداكنة" اللائى رفضهن الاعلان لتوظيفهن, يلغيهن هذا الوطن والكثير من مثقفيه وتقريبا كل قادته من حسابتهم ,وكأنهن لا يساوين شيئا ولا تعنى لهم كرامتهن شيئا. الفصام المزمن للنخبة السودانية ان هؤلاء الغاضبين على اعلان التوظيف , يبدو انهم مصابين بالعمى , عن الواقع, فان كافة الوظائف سواءا فى القطاع الخاص او العام فى السودان , هى تصدر هذا الاعلان ولكن بصمت. فانظر الى شاشة التليفزيون واذهب الى شركات الخدمات الخاصة والعامة المختلفة, فهل تجد " من ذوات البشرة الداكنة" الا قليلا؟!, ثم تفقد حولك السوق العربى والافرنجى وسوق ليبيا واى سوق, مااكثر بائعى الكريمات التى " تفسخ" ولا تبييض فقط من الراس لاخمص القدمين. فهل نحتاج لاعلان مساحتة بضعة بوصات لندرك مدى الهاوية السحيقة التى يقبع فيها هذا البلد المتشظى والغارق فى اوهام النقاء العرقى, والمنجذب حتى التوهان لدوامة من الصراعات الفوقية على السلطة, متناسية تماما جذور الازمة المتعمقة فى داخل مجتمع منقسم على ذاته ومنحاز عرقيا بشكل مخل, الامر الذى ادى الى الوضع السياسى والاجتماعى المشوه للسودان. وتتبدى حالة الازدواجية الاخلاقية والفصام المعرفى للمثقفين والنخبة السودانية , فى هذه الاستجابات التصاعدية لهذا الحدث,وصولا للوزيرة المسؤولة التى حاولت ابراء ذمتها. وفى ذات الوقت تتجاهل ذات النخبة والمثقفين والناشطين, اكثر من 30 امراة من جبال النوبة يقبعن فى سجن الابيض ومن قبله فى معتقلات كادقلى منذ اربعة اشهر, ولم يكتب عنهن احد ولم يشجب سجنهن احد ولم يتجرأ احد بالطبع للوصول لحد الضغط على المسؤولين من اجلهن. ثم يأتى اتحاد الكتاب ليتباكى فى مؤتمره حول " هوية السودان على انفصال الجنوب, ويحذر من تكرار الامر. وفى ذات الوقت لم نسمع لهذا الاتحاد نداءا يوما لوقف الحرب فى ذلك الجنوب , او فى الجنوب الجديد, لم يقيم مؤتمرا ولم يكتب بيانا عن دارفور ونساءها, ولكنه يخرج ببيان عن هذا الاعلان, فى استمرار للتناقض و الفصام المزمن للنخبة والانتلجنسيا السودانية. صناعة تاريخ السودان الاسود وهذا الموقف الذى اتخذته النخبة السودانية من اعلان الجنس اللطيف عند مقارنته بمواقفها الاخرى حول قضايا السودان التى فى نظرنا هى مصيرية وواقعية وادت ليس فقط لانفصال الجنوب بل الى كل النزاعات المستمرة فى السودان الى الان, تلك المواقف هى التى تواصل صناعة الواقع الداكن والمستقبل المظلم لهذا البلد الذى يشعر الكثيرين بالتردد من ان يطلقوا عليه" وطنا" لانهم لايتمتعون فيه بمواطنتهم الكاملة, وحالة اللامبلاة المزمنة وعدم اتخاذ اى مواقف واضحة من قبل النخبة السودانية والقيادات السياسية فى المركز من كل ما جرى ويجرى من جرائم فى مناطق الصراعات فى السودان, وتجنب ذكر ما يحدث هناك الا من منطلق المزايدات السياسية, وليس نتيجة لغضب حقيقى لما يتعرض له شعوب السودان فى مناطق النزاعات فى دارفور وجبال النوبة والنيل الازرق, كانت تلك اللامبالاة هى سبب انفصال الجنوب, لان الجنوبيين لم يجدوا من يدين او يشجب او يغضب لما كان يحدث لهم من قتل واغتصاب جماعى وتشريد واهنات عنصرية, وما انفصال الجنوب الا دليلا على ان عقلية النخبة السياسية السودانية ومثقفى السودان لم تتغير, وموقف السياسيين والمثقفين واتحاد الكتاب من هذا الاعلان ولا مبالاته الجلية فى انعدام اتخاذ اى مواقف صلبة حول ما يحدث لنساء واطفال جبال النوبة ودارفور والنيل الازرق, انما هو مواصلة لصناعة هذا التاريخ الاسود والحالك الظلمة فى السودان, والذى لم يعد يتخذ اسمه من لون بشرة سكانه, بل من لون قراهم وحلالهم المحترقة بنيران الحروب المشتعلة بايدى العنصرييين وايدى اولئك الذين لا يبالون بما يرتكبه العنصريون من جرائم. [email protected]