(1) خذلت الحصافة صديقنا محمد حسن عربي المحامي، الناطق الرسمي باسم حزب المؤتمر السوداني، وهو يرد في صفحات الوسائط الاجتماعية على تقرير صحفي للأستاذ قرشي عوض نُشر بجريدة التغيير الالكترونية بعنوان (حزب المؤتمر السوداني، هل يترجل عن ركب المقاومة)، عن موقف حزب المؤتمر من انتخابات 2020. اعتبر عربي ان ما جاء في تقرير عوض يجافي التقاليد المهنية، بل وانه (سقوط في مستنقع عدم المهنية) فأخذته حمية الرد عليه لوصف قرشي عِوَض ب (الصحفي المتنقل بين الأحزاب) وانه خط تقريره ب (يراع سياسي للتعبير عن خط حزبه). ثم "اتلخبط الشوق بالزعل" كما قال الدوش في حديث عربي فأستمر في كتابته واصفا حزبه المؤتمر السوداني بانه كان (وحيدا صفوف البنزين ومع سائقي المركبات والمواطنين في النهود وكرري وأمدرمان وبحري يحث على المقاومة)، في شوفونية متعصبة لا تليق بناطق رسمي لحزب ديمقراطي. كان تصريح عربي بمثابة ضوء اخضر لحملة واسعة شارك فيها من شارك للرد على تقرير قرشي عِوَض. تم تناول كل شيء في تلك الحملة عدا الرد على محتوى التقرير ومضمونه الذي اكتفى المهاجمون من عضوية حزب المؤتمر بوصفه بعدم المهنية. ثم انطلقوا يكيلون لكاتبه الاتهامات بالتقلب السياسي بين الأحزاب، والتي وصلت لحد اتهامه بانه كان غواصة للحزب الشيوعي في حق (وهو اتهام لا يتسق مع سيرة الرجل ولا مواقفه)، ويستنكرون عليه خياره في العودة لصفوف الحزب الشيوعي، متعجبين عن كيف لم ينتقل الي تنظيم ليبرالي او ديمقراطي (حسب تصنيفهم)، بل وصل حد الاتهام الي صياغة نظرية مؤامرة كاملة تفترض ان تقرير قرشي هو جزء من حملة رسمية ينظمها الحزب الشيوعي ضد المؤتمر السوداني. (2) لا يمكن البدء في وصف فداحة الأخطاء التي وقع فيها عربي والحملة المساندة له في انتهاش قرشي عوض بدلا عن الرد على ما ورد في تقريره، دون التذكير بمبادئ ديمقراطية أصيلة لحرية الصحافة والإعلام كسلطة رابعة. حيث ان المرجو من دوائر الاعلام الشريفة هو فتح باب النقاش العقلاني والمستنير عبر استعراض أوسع طيف ممكن للآراء والآراء المضادة والمعلومات على صفحاتها ومنصاتها. هذا الدور وحده هو الذي يضمن ان يصبح الخطاب السياسي مسنودا بنقاش جماهيري واعي عبر رأي عام مستنير. ومن الخطل بمكان ان يتصور أيا كان ان دور الصحافة (الوطنية) يجب ان يكون في الثناء والتصفيق للتنظيمات المعارضة فقط لا غير تحت راية ان لا صوت يعلو فوق صوت المعركة مع شيطان الإنقاذ الأعظم. الصحافة مطالبة بالبحث والتنقيب فيما هو مسكوت عنه وفيما قد لا يتفق مع توجهات بعض الأحزاب والتنظيمات السياسية. ولا يجب على الأحزاب ان تنظر لهذا الدور بشكل سلبي بل بالعكس، فان هذا يمنحها فرصة أكبر للرد على ما تراه غير صحيح بشكل علني وتفتح باب أوسع للنقاش حول أطروحاتها السياسية وتشرحها وتعيد شرحها للجماهير المعنية بها بالأساس. هذا الدور إيجابي بل هو حق اجتماعي تؤديه وسائل الصحافة والإعلام للمجتمع، وينبغي حمايته والاصرار عليه بل وتشجيعه بشدة من التنظيمات التي تأخذ موقعها في خندق استعادة الديمقراطية وتوطينها في السودان. وقد منح تقرير قرشي عوض في رأيي هذه الفرصة للمؤتمر السوداني لو كانوا تعاملوا معه بالحكمة والحصافة السياسية الكافية للرد على ما جاء فيه مما تتداوله مجالس الخرطوم المغلقة وجلساتها السرية. نقل عوض هذه الاقاويل السرية الي ساحة النقاش العام بشكل علني، مما يتيح لحزب المؤتمر السوداني الرد على خطاب مادي موجود على الساحة العامة بدلا من التضجر على ما يقال وراء أبواب الغرف والمجالس المغلقة من كلام مجاني يطلق في الهواء سداحا ومداحا ويقدح في حزبهم دون ان يكون لهم حق التفنيد. (3) كانت أكبر آثام صديقنا عربي في رده على تقرير قرشي عِوَض، هو شخصنته للرد بتوجيه النقد الي كاتب المقال وليس الي تفنيد كتابته. وكانت أكبر هذه الانتقادات الشخصية هو نعت قرشي بالمتقلب بين التنظيمات، وهو ما استبطن استنكارا لعودة قرشي عوض الي صفوف الحزب الشيوعي بعد ان كان غادرها في تسعينات القرن الماضي الي منصة حركة القوى الجديدة (حق). وهذا الاتهام لم يصرح به عربي صراحة وان كان استبطنه ولكن قال به اخرون من الذين انطلق عِقالهم في حملة شواء قرشي عوض، ولَم يستنكره عربي ولَم يستنكر ما مضى به اخرون ابعد في اتهام قرشي بانه كان (غواصة) للحزب الشيوعي في حق وذلك اتهام لا يستحق حتى بذل الجهد في الرد عليه. خيارات قرشي السياسية هي من حقه تماما... ولا أدرى أين هو موطن الريب في انتقال قرشي بين تنظيمين سياسيين وهو ما يعكس بحث دؤوب عن الحقيقة (اما ما جاء به بعضهم من انه كان من المقبول ان يذهب الي المؤتمر السوداني او اَي تنظيم ليبرالي اخر فهو قمة التراجيدوكوميديا السياسية السودانية، حينما لا يجد الليبرالي في نفسه من حرج في تحديد خيارات الآخرين الفردية وتقييم ما هو مقبول او غير مقبول منها.) فارق قرشي -كما قال-صفوف الحزب الشيوعي بحثا عن فعالية نضالية اعلى، وعندما قعدت مراكب بحثه عن إيجاد هذه الفعالية الأعلى عاد الي منصته الأصلية. وهو مسلك إيجابي لرجل صادق استطاع مواجهة نفسه والصدق مع دوافعه الحقيقية بما يستحق التقريظ والإشادة ولا يجوز او يستقيم استخدامه كنقيصة او التعامل معه بشكل سلبي. قد يكون الحزب الشيوعي مليئا بالمشاكل والثقوب التي أدت بكثيرين الي مغادرة صفوفه -وانا نفسي منهم-والذين لا يتفقون مع تقييمات قرشي عوض. ولكن قرشي كان صادقا مع نفسه ومع دوافعه للمغادرة وعندما وجد انه ترك ما يبحث عنه ببسطام حسب تقييمه الشخصي عاد الي بسطامه سالما دون ان تأخذه العزة بالإثم. وهذا كله غير مربوط بهوية قرشي الصحفية. (4) فات على عربي أيضا، ان نقد تقرير وارد على صفحات جريدة لا يتوجه الي شخص الصحفي في ذاته، بل الي الجريدة ككل. وهي النقطة التي أغفلها عربي وعضوية المؤتمر السوداني في حملة شواء قرشي عوض. صحيفة التغيير لها إدارة تحرير رأت في التقرير المشار اليه صلاحية للنشر حسب معاييرها، وعليه يصبح اتهام عدم المهنية في التقرير موجها للصحيفة بأكملها وليس الي قرشي، وهو الامر الذي لا يستقيم. ولكن يبدو ان عربي ورفاقه في الهجوم سعوا لاكتساب حصانة من اَي نقد إعلامي يوجه ضدهم بأسلوب اضرب المربوط يخاف السائب دون خسارة هذا السائب او افساد العلاقات معه. معتمدين على تعدد مضارب العمل الإعلامي في السودان وعسر اتخاذ المواقف المبدئية الموحدة. ولعل هدفهم من هذه الحملة هو ان يخاف كل صحفي من تناول المؤتمر السوداني او استعراض مواقفه بالنقد متخوفا مما حدث ويحدث لقرشي عوض. او لعلهم يريدون القول بان لهم ألسن مسنونة تستطيع الرد بحدة على اَي هجوم ضد حزبهم كما للناس السن يرمون باتهاماتهم للحزب بها. وكل هذه الافتراضات هي رجم بالغيب مني بالطبع لا اجزم بصحتها ولكنها اول ما يتبادر الي البال حين رؤية طابع الهجوم على قرشي عوض جراء تقريره. وهذا هو عين ما يفعله دونالد ترمب في هجومه المستمر على الوسائط الإعلامية التي تنتقد سياساته. (5) وصديقنا عربي مولع -كما ترمب-بوسائط الاعلام الاجتماعية الجديدة، وهذه محمدة كبيرة في زمننا هذه لزيادة التواصل مع الناس. ولكنها تأتي بمحاذيرها في اتساع المساحات العامة للنقاش السياسي. فما يجري في الوسائط الاجتماعية تحكمه نفس قواعد العمل السياسي العامة. ولا مكان فيها للرقابة او محاولة استخدام أدوات الهيمنة الإعلامية (the hegemony) وهو تطور إيجابي يزيد من مساحات الديمقراطية والنقاش العام، ولكن من الضروري الانتباه فيها الي ضرورة الحفاظ على قيم الممارسة السياسية الصحية. وكما انتقدت في مقال سابق إطلاق الاتهامات المجانية والخطاب التجريمي الذي كان يوجه ضد حزب المؤتمر السوداني، على المؤتمر السوداني ان ينتبه الان الي مسئوليته في الدفاع عن حق النقد مهما كان قاسيا وموجعا، بل والتعامل الإيجابي معه باعتباره فرصة لزيادة مساحة الحوار السياسي والمشاركة فيه، اما أساليب الهجوم الشخصي واغتيال الشخصية فليس من الخيارات النظيفة التي يرفع حزب المؤتمر السوداني شعار اختيارها والمحافظة عليها. الفكرة السياسية مهما كانت درجة حدتها ودرجة الاختلاف معها يُرِد عليها بالفكرة السياسية المضادة وليس بالشخصنة واغتيال الشخصية، ومهما كانت افعال الخصم السياسي فهي لا تبرر استعمال ادوات فاسدة. و إن كنت قد طالبت سابقا قيادة الحزب الشيوعي بضبط خطاب الاتهامات المجاني الذي تثير غباره عضويتها، فمن باب أولى مطالبة قيادة حزب المؤتمر بضبط خطابها السياسي في المواضيع السياسية المتعلقة بها والابتعاد عن فخ الشخصنة البغيض. فحرية الصحافة والإعلام يجب ان تكون مقدسة لابعد درجة ما دامت تتناول الشأن العام ولا تقوم بالخوض فيما هو شخصي وغير متعلق بالمساحات العامة. (6) قرشي عوض يستحق اعتذار رسمي من المؤتمر السوداني... ليس لشخصه، بل كصحفي سوداني عامل في مجال الشأن العام. وأرجو ان تكون لقيادة المؤتمر السوداني الحصافة الكافية للاستماع لصوت العقل ومعالجة هذه الخطيئة الفادحة كما يجب في كتاب الديمقراطية... ف (بدون حرية غير مقيدة للصحافة، ومن دون صراع حر للأفكار، ستموت الحياة في كل مؤسسة عامة، وتصبح مجردة من الحياة، وتبقى البيروقراطية فقط باعتبارها عنصرا نشطا.) كما قالت روزا لوكسمبرج. (7) المعركة الإعلامية بين المؤتمر السوداني والحزب الشيوعي، آن لها ان تتوقف فهناك ما هو أولى ببذل الجهد حول تكتيكات استعادة الديمقراطية والالتفات الي كيفية تنفيذ هذه التكتيكات لاستعادة الديمقراطية فعلا. وهذا الخلاف له ان يدار بطريقة اكثر فائدة لو التزمنا جميعا بالقيم التي نود لها ان تسود وقيم الممارسة السياسية الراشدة. فكثيرون ينظرون الي هذا الصراع بعين الرضا البالغ وهم يَرَوْن غفلة التنظيمات الديمقراطية من نيران التنين عز الصيف.