من غرائب الأشياء في سودان ما بعد 1989م، كثرة مواعيد العمل الإنساني الذي يفترض أنه ينطلق من مبادئ إنسانية متجزرة في قيم التراحم و التآلف و التكافل بين بني البشر، كما هي مؤمن عليها في كل الشرائع السماوية، إضافة إلى ربطها بالإيمان في قوله تعالى ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) صدق الله العظيم. و الغرابة تكمن في ضآلة ما ينتج من عمل، رغم كثرة هذه المواعيد إذا لم يكن هذا العمل معدوماً بشكل كامل قياساً بحجم الظواهر المأساوية التي انتشرت بصورة حادة في أواسط المجتمع السوداني. و لا شك أن الظروف التي يمر بها السودان كان لها القدر المعلى في معاناة الشعب السوداني الذي يكابد المشاق من أجل الحصول على ما يسد به رمقه. و تعد ظاهرة المتشردين و التي أضحت من الظواهر المزمنة، فشلت معها كل المحاولات المتواضعة من قبل الأجهزة الرسمية لاحتوائها ومعالجتها بشكل جذري إلى أن صارت مشكلة اجتماعية خطيرة. و لعل المسؤولية تجاه هذه المشكلة لا تقتصر على المجهودات الرسمية من قبل هذه الأجهزة أو حتى تلك المواعيد الإنسانية التي تملاً لافتاتها واجهات المباني الشاهقة، بل يتعداها ليشمل كافة قطاعات المجتمع المختلفة. فإذا نظر كل مواطن لحال أولئك المتشردين من زاوية افتراض أن يكون هذا المتشرد ابنه أو أخيه أو أحد أقربائه لأدرك خطورة هذه المشكلة، وبالتالي سيستشعر واجب المسئولية الإنسانية المفروض عليه أداؤها و لاستكمال فروض إيمانه كذلك. إن غياب الدور الرسمي في الرعاية الاجتماعية كان له أبلغ الأثر في تنامي هذه المشكلة بعد أن أكدت الدراسات أنها نتاج لواقع أسري لم يتوفر لها الحد الأدنى لمعاشها مع تعدد الأسباب، كحالات الطلاق، والهجران التي تحدث نتيجة لهذا الواقع الذي تعيش بعض الأسر، و كلها عوامل ما كان لها أن تؤثر بهذا الشكل المدمر لولا غياب الرعاية الاجتماعية و سوء الأوضاع التي تعيشها العديد من المجتمعات السودانية في أجزاء واسعة من هذا الوطن، الأمر الذي يستوجب على كل المسئولين بدءاً من مؤسسة الرئاسة إعادة النظر في هذه المسألة من كافة جوانبها و بتنسيق مبرم مع الجهات ذات الصلة، مثال وزارة الموارد البشرية و مؤسسات التنمية و المصارف والهيئات الخدمية ومنظمات المجتمع المدني، وقد ثبت من خلال التجربة أن وزارة الرعاية الاجتماعية غير قادرة على معالجة هذه المشكلة، ولابد من إشراك جهات أخرى في هذه العملية، نسبة لتعدد أسبابها أو ملابساتها التي تتعدى حدود وإمكانيات وزارة الرعاية الاجتماعية . و أخيراً نكرر الدعوة إلى كل الجهات التي ذكرناها أن اهتموا بهذه المسألة، فقد وصلت مراحلها إلى درجة الخطورة، ولا يعقل أن يستمر هذا الوضع على حاله هكذا دون تدخل فاعل وجاد من قبل الدولة التي يفترض أن من أبسط واجباتها توفير الرعاية الشاملة لمجتمعها. و بالله عليكم من المسئول عن أطفال يقتاتون من براميل القمامة ؟ و من المسئول عن أطفال يتخذون المجاري بيوتاً لهم؟ و من المسئول عن أطفال يموتون تحت عجلات الشاحنات بينما هم نيام في الشارع العام؟ و من المسئول عن أطفال يجوبون الشوارع لا راع ولا هادي لهم ولا موجه، يعرضون أنفسهم لمخاطر شتى ثم يموتون بالجملة؟