تابعت بشغف زائد كما الحال لدى كثيرين الحوار الجريء الذي أجرته (صحيفة السوداني) مع الرئيس عمر البشير، وأكثر ما شد انتباهي في افادات السيد الرئيس وفي خضم هذا الجدل الدائر منذ آمد بعيد حول تفشي الفساد من عدمه قوله (لا يوجد مفسدون كبار في الدولة)، وقوله أن (الإعلام لا يتحدث عن محاكمات المعتدين على المال العام). قد أجد بعضاً من عذر لفخامته كونه رئيس دولة قال عنها وأشاطره الرأي (السنة فيها بعشر سنوات)، دولة تسكنها الأقدار وتصول في أرجائها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. لكن هذا الأمر لايعفيه بالضرورة من مسؤولياته التاريخية طالما اختار هو لنفسه هذا التحدي أن يكون رئيساً. كيف لا يوجد مفسدون كبار في الدولة يا سيادة الرئيس؟، ونحن نطالع كل صباح على صدر الصفحات عناوين بالخط العريض من قبيل (البرلمان: المتعافي مسؤول أخلاقياً وقانونياً في قضية التقاوى"الانتباهة العدد 1967 بتاريخ الأحد 21 أغسطس 2011"). أليس المتعافي من كبار المسؤولين في هذه الدولة وهو يشغل منصب وزيراً للزراعة؟!، أليست الزراعة ونهضتها أكبر بنود الانفاق العام في الدولة؟، أليست الزراعة الأمل المرتجى لهذه الأمة والحلم المبتغى على تخوم استشراف فجر النهضة الشاملة للاقتصاد وكف الموت عن العباد بعد ذهاب نفط دولة الجنوب؟، أو ليست الزراعة كل شيء في حياتنا يا سيادة الرئيس؟!.. العنوان المذكور أعلاه جاء في ذات الصباح الذى أشار فيه السيد الرئيس الى عدم مسؤولية كبار المسؤولين عن الفساد، علماً بأن مضمون العنوان يحمل دلالات عقابية وعقوبات رادعة ضد من تسول لهم أنفسهم الضعيفة إهدار مقدرات الوطن وهذا أمر جيد ومثالي ويحمد للدولة ممثلة في أعضاء لجنة الزراعة والثروة الحيوانية بالبرلمان السوداني سعيها الدوؤب لإجتثاث الفساد وتأسيس عهد الحساب، إلا أنه في المقابل يؤكد المسؤولية الأخلاقية والقانونية في قضية التقاوى. إن تنصل المسؤولين عما يجري في اضابير وزاراتهم وتحت مظلة سلطتهم وسلطانهم لا يعفيهم مهما كانت المسوغات عن مسؤولياتهم التاريخية التي جاءت بهم الى هذه المناصب الحساسة التي يقتاتون منها وأبناؤهم، وأيما قوت؟، قوت أشبه بطعم ورائحة قوت أهل الجنة في بلاد تلهب فيها نار الأسعار وجشع التجار وارتفاع الدولار بطون خاوية (تبيت القوى) يا سيادة الرئيس. تدمير الاقتصاد فيه تدمير للدولة، والدولة إن ارادت البقاء، عليها أن تعمل لإبقاء اقتصادها معافى من الفساد، ولا يتيسر ذلك إلا عبر سياسات أكثر حذراً وشدة تبعد إرهاصات وإشاعات تجذّره في سلوك السلطة والسلطان. *** أما القول أن (الإعلام لا يتحدث عن محاكمات المعتدين على المال العام) فهو غير دقيق، وهذا ما أكدته ذات الصحفية التي نقلت خبر مسؤولية المتعافي الأخلاقية والقانونية في قضية التقاوى التي أثارت جدلاً واسعاً، فقد حملت الصحيفة فيما حملت من عناوين وفي ذات العدد عنواناً جاء فيه (تحركات برلمانية لسحب الثقة من المتعافي "الانتباهة العدد 1967 بتاريخ الأحد 21 أغسطس 2011") وهذا النشر بالضرورة يؤكد أن الإعلام السوداني يتحدث بكل شجاعة وجرأة عن شجاعة الدولة ومحاكماتها للمعتدين على المال العام مهما عظم شأنهم، فقط عندما تفعل هي أي الدولة!. ختاما، أقول أن السيد الرئيس مطالب بأن يعيد النظر في مصادر معلومات من يُطبِّلون ويزمِّرون حوله، فالشارع العام في السودان يتحدث عن دولة ترزح تحت وطأة فساد تزكم رائحته الأنوف. وحتى تقطع الدولة السبيل أمام الشائعات التي قال الرئيس أن البعض يصورها وكأنها حقائق أرى أن يتبع السيد الرئيس أسس جديدة من قبيل اختياره للجنة لمحاربة الفساد فيما سماه بالجمهورية الثانية تمده بالمعلومات الصحيحة، على أن يختار هو شخصياً أعضاؤها (من الذين يخافون الله) من بين أولئك الذين قال انهم يتخلقون بأخلاق الحركة الاسلامية. وإن كانت من رسالة أخيرة يا سيادة الرئيس أقول، الدولة إن صمدت أمام الرياح القادمة من الشارع وتوجساته حول الفساد والمفسدين، فانها لن تصمد طويلاً أذا ما تجذّر لدى المواطن الشعور بعدم كفاءة أجهزتها لمكافحة الفساد، ذلك أن الامر يمس البطون، والبطون كما يقولون أقرب الطرق الى القلوب؟!. * صحافي مقيم في بريطانيا صحيفة الأحداث السودانية - الثلاثاء 23 أغسطس 2011م الموافق 23 رمضان 1432 ه - العدد 1379