حقيقة لقد دهشت من الردود الثائرة والغاضبة للسيد وزير الزراعة عبد الحليم المتعافي التي خصص لها مؤتمراً صحفياً وشن فيها هجوماً حاداً على لجنة الشؤون الزراعية والحيوانية والمائية بالمجلس الوطني، وبدا المتعافي فارساً مغواراً وأسداً هصوراً وهو يحشد كل ما في جعبته من دفوعات لتفنيد ما جاء في تقرير اللجنة، حتى ابتسامته المأثورة عنه التي تشابه ابتسامة الدكتور الترابي غابت عنه في ذلك اليوم ولم يفتر ثغره عنها، مما يعني أنه كان في قمة الغضب والثورة والحنق.. ومصدر الدهشة أن الأمر لا يحتاج لكل هذه الثورة وهذا الغضب غير المبرر من الوزير، فما دام أنه على يقين أن لديه (أسانيد علمية) حسب وصفه، سيقف بها أمام الجهات العدلية فلماذا كل هذه الثورة إذاً؟ لقد وقع المتعافي في أخطاء عديدة بسبب هذا الغضب ولم يكن موفقاً في كثير مما قاله، بل بعض ما قال كان حديثاً غريباً وغير حسن وغير منطقي وغير ذي موضوع.. فقد اتهم الوزير (أشخاصاً) بأن لديهم مشكلات سياسية معه ويريدون محاكمته سياسياً وهو اتهام غريب وغير ذي موضوع، لأن الجهات العدلية لا تعتد بمثل هذه الاتهامات وهي اتهامات محلها المنابر والليالي السياسية وسوح التنافس السياسي والحزبي، وقضية التقاوى الفاسدة ليست قضية سياسية، بل هي قضية قانونية عدلية والدفع بوجود (استهداف) من أشخاص ما لديهم مشكلات سياسية مع الوزير لن ينفعه، حتى وإن كان ذلك صحيحاً ولم يكن مجرد توهم أو شماعة جاهزة.. والكل يعلم أن البرلمان الآن جله إن لم يكن كله، من نفس القبيلة السياسية التي ينتمي إليها الوزير المتعافي، فعن أي أشخاص معادين له يتحدث؟.. كما أن الرأي العام الذي ينتظر تجلية الحقيقة وإظهارها لن يأبه ولن يلتفت إلى مثل هذه الاتهامات والتبريرات، لأنها لا تقف على ساقين ولا رجلين، بل هي سابحة في الفضاء الطلق وهلامية لا يمكن الإمساك بها. ومن أخطائه أنه قال ساخراً إنه قد تم تعيينه وزيراً للزراعة في مايو 2009 بينما استيراد التقاوى الفاسدة تم في يونيو 2008، وهذا الدفع من الوزير ينم عن فهم ضيق للمسؤولية ويجعلها شخصية، بينما هي مسؤولية اعتبارية لا تسقط عنه كون الواقعة لم تقع في عهده، وإذا سلمنا جدلاً وسايرنا الوزير في فهمه هذا للمسؤولية، فنحن نوجه أسئلة للوزير ونقول هل كان الوزير عقب توليه مقاليد الوزارة على علم بموضوع التقاوى الفاسدة، وإذا كان على علم بها فماذا فعل إزاءها؟.. أم أنه لم يكن على علم بها؟ وهل عدم العلم بها يسقط عنه المسؤولية؟.. أليس من المسؤولية والجدية وإتقان العمل أن يطلع الوزير في أولى أيامه على ميراث وأداء سلفه ليستكمل مهامه ويبني عليها وليعرف مواطن الخلل لإصلاحها؟ أم أن الوزير رمى ذلك كله وراء ظهره وانطلق يبني من الصفر؟ وأعجب ما قاله الوزير إنه لن يستقيل مطلقاً عن الوزارة إلا إذا تمت إدانته، وكأن المنصب من الحقوق الشخصية التي لا يمكن ولا يجوز المساس بها، وإذا تمت الإدانة فلا معنى ولا مغزى ولا طعم بعدها للاستقالة، لأن الإدانة تعني عدم الأهلية القانونية والأخلاقية والسياسية للاستمرار في المنصب. كما أن التصريح بعدم الاستقالة يشف عن البعد عن واحد من أعظم القيم والآداب الدينية والديمقراطية وهو أدب الاستقالة الذي يجب أن يكون حاضراً في ذهن من ولي أمراً من أمور الناس ومن تقلد مسؤولية القيام ببعض شأنهم حتى إذا فشل أفسح المجال لغيره ومَنْ هو أكثر كفاءة وجدارة منه. لقد وجه المتعافي هجوماً عنيفاً إلى تقرير لجنة الشؤون الزراعية والحيوانية والمائية بالمجلس الوطني ووصفه بعدم القيمة العلمية وأنه إنشائي ومشحون سياسياً.. وهو هجوم لم يكترث فيه الوزير إلى حقيقة أن أعضاء اللجنة هم نواب للشعب .. وأن شغلهم فضلاً عن حقهم الدستوري.. هو مراقبة أعمال الجهاز التنفيذي، هذه الرقابة التي تصل إلى حد سحب الثقة وأن المساءلة في البرلمان من صميم الحكم الديمقراطي اللهم إلا إذا كان الوزير لا يرى في البرلمان الحالي ممثلاً للشعب ومنتخباً من قبله أو أنه فوق المساءلة وبمفازة من الحساب. إن مرافعات الوزير أمام الصحفيين كلها لا تنحو نحو نفي الفساد في موضوع التقاوى الفاسدة، وإنما هي تشير إلى اشتراك جهات رسمية أخرى فيها، وذلك على طريقة (أنا وخوي الكاشف)، لذلك حرص الوزير على تأكيد أن القضية ستطيح برؤوس سياسياً أو جنائياً، ولا أدري ماذا يضير السيد الوزير إن أطاحت هذه القضية بتلك الرؤوس التي لمّح إليها! هل القضية لديه انحصرت في الحفاظ على هذه الرؤوس من أن يقطفها سيف العدالة ما دام موقفه هو وموقف مرؤوسيه في الوزارة سليم وليس عليه غبار وفوق الشبهات، أليست هذه الدعوى وهذا التحذير يخالف اتجاه ونهج الدولة الذي أعلنه ودشنه بنفسه السيد رئيس الجمهورية في الحرب على الفساد والمفسدين؟ والرؤوس مهما كبرت فهي تصغر عندما تنغمس في الفساد ولا تكون جديرة بالاستمرار في تقلد المسؤولية. ما حدث تمرين (لستة) ديمقراطي ساخن استعداداً لمباراة الجمهورية الثانية لم يقوَ الوزير المتعافي على تحمله و(قوّم نفسُو)، ومعروف مصير من يقوم نفسو في تمرين اللستة!