[email protected] كنت أمسك بالقلم فتسبق أفكاري مداده حتى أكاد أُلجمها.. الآن، صرت أمسك بالقلم فيسبق مداده أفكاري حتى أكاد أحس بأنّ هناك ما يُلجمها.. والنتيجة في الحالين ليست واحدة بالتأكيد.. ففي السابق كنت (أنا) الذي أكتب.. والآن أضحى (شيء ما) بداخلي هو الذي يكتب.. شيء كأنّه كامن في أعماق اللاوعي.. أو ربما هو آتٍ من غيهب المجهول.. وأياً كان هذا الشيء فإنني أدين له ب (تكيّف) أشبه بذاك الذي يجعل الكائنات قادرة على التأقلم مع بيئات متباينة بمثلما يقول علماء الأحياء.. وجرير الشاعر الذي كان يعجز كاتبه عن مجاراة سرعة قريحته في الجود بالقصيد غشيته غاشية جفّ بسببها مداد كاتبه هذا في الدواية.. ولكنّ جريراً لابد أن (يشتغل) وكاتبه لابد أن يشتغل.. وكاتب هذه السطور لابد أن يشتغل.. وضرورات الشغل عند جرير باتت أكثر إلحاحاً حين اُستفز بقصيدة هجاه بها الراعي النميري، وهو الذي ما اعتاد أن (يُداس له على طرف).. وسهر جرير ليلته تلك وهو يشد شعره استجداء للشعر ويكاد يتميز من الغيظ.. وعند الفجر سمع هاتفاً يأتيه من (اللامكان) يقول له: (تحسب أنّك شاعر وأنت لا تقدر أن تقول بيتاً واحداً حتى كاد الليل أن ينقضي؟!).. ثم أردف الهاتف قبل أن يفيق جرير من صدمة الدهشة: (هلاّ قلت: أقلي اللوم عاذل والعتابا.. وقولي إن أصبت لقد أصابا)؟!.. وكانت القصيدة الشهيرة التي لم تقم لقبيلة نمير وليس الشاعر وحسب قائمة بعدها أبداً.. القصيدة التي يقول فيها: (فغضّ الطرف إنّك من نمير.. فلا كعباً بلغت ولا كلاباً).. وأنيس منصور حين ضُيّق عليه الخناق أيام هيكل وعبد الناصر طفق يكتب عن أشياء لا صلة لها بالسياسة.. ثم صار كذلك يكتب إلى يومنا هذا.. أو ربما لها صلة ولكن لا يفهما إلا الأذكياء.. فهو لابد له أن (يشتغل).. فقد تعب من حكاية (إنت تخرس خالص).. وحين(اتسحّب) أنيس من (قلمه) وكتب شيئاً عن السودان بأسلوبه الذي تخصّص فيه هذا جاءته أصوات من جنوبالوادي تقول له: (إخرس).. ولكنّ أنيساً لم (يخرس) وإنّما كتب كلمة بعنوان (ولم تقم القيامة!) يقول في مستهلها: (كأنني أنا الذي قلت أنني اكتشفت وحلّلت وتابعت حجراً يسقط من السماء تراباً على صحاري السودان).. فأنيس منصور (ما جابش حاجة من عنده) وإنما قال إنّ الفلكيين والمنجمين يقولون.. ثم لم ينس أن يقول: كذب المُنجمون ولو صدقوا.. أمّا ما ذاك الذي قاله الفلكيون والمنجمون عن النيزك الذي سقط في السودان فهذا ما سوف (أخرس) أنا بدوري إزاءه ولن أقول فيه شيئاً.. بمثلما سوف (أخرس) كذلك ازاء ما قاله الفلكي الشهير عن تهاوي سبعة من العروش العربية تباعا في عامنا هذا .. وسكوتي هذا (تفرضه ) عليّ ضرورات عدم الإيمان بمثل هذه الأشياء.. ومن قبل تحدّث الناس عن عرّافة نميري الشهيرة التي أشارت الى سقوط نظامه عقب افتتاحه مسجد النيلين .. وأخطأ نميري -خلال الافتتاح- في قراءة سورة العصر حين نطق كلمة (خُسر) بفتح الخاء .. ثم تعثر وهو ينزل الدرج بعد أن خطب في الناس خطابا (دينيا !!!).. ثم هوى عرشه خلال شهور.. ولكنّ العرافة كذبت وإن صدقت. نشر بتاريخ 06-09-2011