التدخل العسكري الاجنبي او منعه لا يتوقف على رغائب ذاتية للقادة او للحكومات او للحركات ، المتدخلة او المتدخل عليها .التدخل يحدث عندما تتضافر العديد من الظروف والعوامل والملابسات . في المقام الاول يجب ان تكون الظروف الدولية والمحلية مواتية لدفع الحرج الراسخ في احترام السيادة الوطنية ، وافضل الحجج لدفع الحرج هى الاوضاع الانسانية والتى نبعت منها مقولة المسؤولية للحماية الشهيرة في ادبيات العلاقات الدولية . ويحدث التدخل الاجنبي ايضاً عندما توجد مصالح ملموسة للقوي العظمي : وجود ثروات ، حماية احلاف كائنة او محتملة ، ضرب احلاف قائمة او محتملة . وقد يحدث التدخل ايضاً لتصفية حسابات قديمة او لسهولة بيع الفكرة في اطار السياسة الداخلية للدول المتدّخلة . في عملية التحضير للتدخل الاجنبي تحيا حزازات قديمة ، واحياناً تعود قوة ما الى مركز الحدث بعد ان ظنها الناس جثة هامدة ، كما حدث للانتعاشة العابرة لجامعة الدول العربية والتى في ظني كانت اكبر مسوغات التدخل في ليبيا . واخيراً ان كان ثمة وثيقة دولية ما او اتفاقية ما يمكن القول بان الحكومة المتدخل عليها قد خرقتها تكتمل حلقات التدخل . اي من هذه العوامل منفرداً لا يخلق حالة تدخل ، اما اجتماعها فيخلق حالة نموذجية للتدخل . ثلاث جبهات قتال مفتوحة الان في السودان ، دار فور ، جنوب كردفان ، النيل الازرق ، وجبهة رابعة ليس من المستبعد ان تتجدد وهي جبهة دولة جنوب السودان نفسها ، في ظل الاوضاع الملتهبة على حدودها الشمالية . الاوضاع الانسانية آخذة في التدهور في جنوب كردفان والنيل الازرق ، والاوضاع الانسانية في دار فور كتبت حولها مجلدات قد تكتسب قيمة جديدة تحت الوضع الذى يتطور الان ، خاصة ان لقضية دار فور حركة اجتماعية في دول الغرب ، حركة بالمعني الكلاسيكي للحركات الاجتماعية : قاعدة جماهيرية ، بيانات تأسيسية ، ادب سياسي ، قادة معروفين ، ورضاء بل اعتراف بقضيتها من اقسام من النخب الحاكمة في الغرب . اذن مبدأ السيادة الوطنية يمكن الاضعاف منه في سبيل دفع التدخل . مصالح الدول العظمي ، ولنبدأ بمصالح سياسية بائنة للعيان ، ما اشرت اليه آنفاً بالاحلاف القائمة والمحتملة . ان شبح صعود الاسلاميين المحتمل الى السلطة في كل من مصر وليبيا ، شركاء او منفردين ، هو الهم رقم واحد في تقديري المتواضع لصانعى السياسة في الدول الكبري ، ووجود حليف قوى ومتمرس الى الجنوب منهما امر في غاية الخطورة . ضرب هذا التحالف المحتمل واستغلال فرصة ذهبية لضرب الشريك الاقوي ، الاقوي بحكم التجربة في الحكم ، يغرى بالتدخل ، بل يمكن ان يوحد حكومة ومعارضة ، قل الديمقراطيين والجمهوريين في امريكا ، وذلك لارتباطه بالامن القومي . اما المصالح الاقتصادية فهى في غاية الوضوح اذ ان استغلال بترول الجنوب على الوجه الامثل لتلك القوي يقتضى حكومة ليست فقط صديقة بل مستقرة . حكومة بهذا الوصف في السودان الشمالي هي ما ينقص الجدوي الاقتصادية لاستغلال بترول الجنوب وقد لا يقتصر الامر على بترول الجنوب بل بترول الشمال نفسه وعلى وجه الاخص جنوب دارفوروقد يمتد الى استغلال بترول شاد في الحقول المحتملة المتاخمة ، فالبنية الاساسية لصناعة البترول في السودان الشمالي يمكن ان ان تكون نواة لبنية كبري مع الكشوفات الاخيرة. ومع هذا الاحتمال قد تفقد الخرطوم حليف ابعد منها الكثير من المتاعب الا وهو الصين التى لا يركن لها كحليف عندما يتعلق الامر بخسارة او ربح محتمل يتصل بمصادر الطاقة . اما روسيا فان موقفها الثابت من عدم التدخل في شؤون الدول كاملة السيادة ، وذلك بسبب انتهاكاتها في الشيشان ، فقد ثبت ان تضافر العوامل المذكورة دائماً ما اغرق صوتها كما حدث في كوسوفو عام 1999 وكما حدث مؤخراً في ليبيا . جنوب افريقيا حليف عابر للحكومة، وقد يوضع في حرج بالغ اذا نجح خصوم الخرطوم في تصوير ان الصراع الدائر الان يدور بين عرب الشمال والسكان الافارقة في الجنوب . السياسة الداخلية لجنوب افريقيا لا تسمح بصمود هذه الوجهة في دعم الخرطوم ، خاصة مع دروس الدعم المستتر والمكشوف لنظام القذافي في ايامه الاخيرة . ومع ذلك قد لا ينجح الحلفاء حتى في مجلس الامن في ايقاف حالة تدخل رائبة الظروف والملابسات . تحفظ سجلات مجلس الامن فشل روسيا والصين والهند في منع تدخل الناتو في كوسوفو مع اصرارهم ، على حق ، ان قرار مجلس الامن رقم 1199 لا يخول التدخل العسكري وان استند للفصل السابع . وتشهد احداث ليبيا الاخيرة ان التحفظات يمكن الالتفاف حولها . انتصار حلف الناتو في ليبيا ، بفاتورته المدفوعة بالطبع ، وبخسائره في ارواح ابناء العالم الاول التى كانت في حكم المنعدمة ، يبعث شبحاً قطع الطريق عليه وللمفارقة جورج دبليو بوش وسياساته الرعناء ، هو شبح التدخل في شئون الدول كاملة السيادة بما في ذلك التدخل العسكري لظروف انسانية . هذا الشبح ينتفض الان ويستجمع في قواه . فقد بدأ الاعداد لوثيقة المسؤولية للحماية عام 2000 كاستجابة للتدخل في كوسوفو وعدم التدخل في رواندا لتتواضع الاسرة الدولية على اسباب تتفق عليها لتعطيل مبدأ السيادة في حالات معينة والانخراط في التدخل العسكري . قادت كندا امر اعداد الوثيقة لكن الاحداث المتسارعة بمافي ذلك هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 وغزو امريكا لافغانستان والعراق وتكلفته الباهظة ، جعلت المبدأ يتراجع الى حالة كمون لتحتضنه على الهامش مؤسسات البحث العلمي واقسام العلوم السياسية في الجامعات لمدة عشرة اعوام ليعود بعنفوان اكثر مع الحالة الليبية . انتقائية المبدأ لا تنفى فعاليته واستعماله متى لائم مصالح الدول العظمي . ان تصريحات رئيس لجنة افريقيا في الكونغرس الأمريكي التى تدعو الى تغيير نظام الخرطوم على غرار ليبيا ، وتربط بين احداث ابيي وجنوب كردفان والنيل الازرق ، وتركز على الاوضاع الانسانية ، اضافة لتصريحات المبعوث الامريكي الخاص بالسودان برنستون ليمان وتخوفه من حرب شاملة بين دولتى شمال وجنوب السودان ، بسبب تداعيات جنوب كردفان والنيل الازرق ، وايضاً تركيزه على ما اسماه نزوح اعداد كبيرة من اللاجئين السودانيين ، يؤكد ان خيار ازاحة نظام الخرطوم بسيناريو التدخل العسكري لاسباب انسانية قد دخل اجندة السياسة الامريكية . ان خطورة نجاح التدخل العسكري في ليبيا وتأثيرها على دراسات التدخل العسكري لاسباب انسانية ومن ثم سياسات الدول الكبري لم تدرس حتى الان بصورة شافية ، وذلك في الاساس لجدتها . لكن الدروس القديمة والاعتراضات التى رفعت في العقدين الماضيين حول حالات التدخل وسوء عواقبها لا تزال ماثلة ، وماثلة بشدة في اذهان صناع السياسة في الغرب . فيما يتعلق بالسياسة الداخلية للدول الغربية والتخوف من تأثير خسارة ارواح من بنيها على قرارات التدخل ، وهو ما حدث بالفعل في احجام ادارة كلينتون عن التدخل في رواندا ابريل 1994 بعد خسارة 18 جندى في معركة مغديشو في اكتوبر 1993 ، برزت حقائق عسكرية جديدة : انه يمكن انجاز التدخل دون خسائر تذكر في الارواح بين بنى العالم الاول كما اثبتت الحالة الليبية . في كوسفو وقبل مايزيد قليلاً على عقد من الزمان فشلت مهمة الناتو في حماية المدنيين بسبب عدم قدرتها على اسكات مدفعية الصرب المضادة للطائرات والتى بسببها اختار الناتو ان يطير طياريها على متوسط علو 15000 قدم مما اضعف فعاليتهم . ذلك الوضع دفع الجنرال وسلي كلارك قائد قوات الناتو للقول ان سلاح الجو وحده لا يقدر على حسم الموقف . بعد عشر سنوات من التطور التكنولويجي ثبت في الحالة الليبية ان سلاح الجو وحده يمكن ان يغير الهزيمة الى نصر . هذه حقائق عملية تغرى بسياسة التدخل والاندفاع اليها . غياب نية للتفاوض من جانب الخرطوم وغياب السعى لحل سياسي للازمة الراهنة يفاقم من سوء الوضع . التعلق بحجج من اطلق الرصاصة الاولي ومن بادر بالعدوان ، والتفسير الحرفي لاتفاقية السلام الشامل حول نزع سلاح الحركة الشعبية في الشمال لا يجدى مع الحقائق التى خلقتها الاتفاقية حول شعوب جنوب كردفان والنيل الازرق . بل يعطى الوقت لاكتمال حلقات التدخل العسكري الاجنبي . الجلوس الفوري على مائدة المفاوضات وبمساعدة الشركاء الاقليميين امر واجب لتجنيب اهل السودان ويلات حرب لا طاقة لهم بها . ولا يقل اهمية عن ذلك كله وقف الوضع من التدهور الى كارثة انسانية كبري فيما يتعلق بالهاربين من نيران الحرب حيث هم محط انظار العالم الان . ان اي تعنت من جانب الخرطوم حول وصول المساعدات الانسانية ستكون له عواقب وخيمة لا يحمد عقباها ، غير جوانبه الانسانية التى تجرد الدولة من اية شرعية ، سيكون حافز للاصطفاف الدولي ضد الخرطوم تذوب امامها حجة السيادة الوطنية . *كاتب سوداني