هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    علماء يكشفون سبب فيضانات الإمارات وسلطنة عمان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التدخل الإنساني بين السياسة والقانون
نشر في شبكة الشروق يوم 10 - 04 - 2011

تحتل مسألة التدخل الإنساني حيزاً كبيراً في أدبيات المجتمع الدولي بين رافضي التدخل باعتباره يمس سيادة الدولة وتكاملها الإقليمي، ويتناقص مع ميثاق الأمم المتحدة الذي يؤكد على سيادة الدولة وتكاملها الإقليمي وفقاً للمادة 2/7.
وبين مؤيد باعتبار أن التدخل يقع في صميم مهام الأمم المتحدة التي ترمي إلى الحفاظ على السلم والأمن الدوليين ومن مقتضياتهما احترام معايير حقوق الإنسان الدولية وفقاً للمادة 39.
قد يخال للمرء أن مسألة التدخل مسألة حديثة وأنها وردت مع قدوم النظام العالمي الجديد، ولكن أدبيات التدخل الإنساني من الناحية التاريخية تعود للقرن السادس عشر حيث اندلعت الحروب الأوروبية بين كاثوليك وبروتستانت وكانت كل دولة بانتمائها لأي من المذهبين تسعى لمناصرة مخلصيها في الدولة الأخرى، وبعد نهاية الحروب الدينية توجهت الدول المسيحية نحو الدولة العثمانية مطالبة لها باحترام حقوق المسيحيين. وانعقدت في ظل ذلك مجموعة من المعاهدات التي ترمي لتلك الغاية بين الأطراف المعنية.
في تاريخنا المعاصر لا توجد حالات كثيرة للتدخل الإنساني بحيث أنها يمكن أن تشكل عرفاً كما أنه لا توجد نصوص قانونية تحكم ذلك بطريقة واضحة ومباشرة، وإن وجدت بعض الأحكام في بعض الاتفاقيات إلا أنها لم تنشئ وسيلة محددة لإنفاذ تلك الأحكام.
نسبة لأهمية ذلك الموضوع رأينا تخصيص هذه الدراسة المقتضبة لمسألة التدخل الإنساني وما يساورها من شك في العرف والممارسة الدولية وفي الفقه الدولي علها تضئ الطريق لباحثين أكثر اهتماماً بهذا الموضوع الذي يقلق المجتمع الدولي بأطرافه المؤيدة والرافضة، لقد رأينا تقسيم هذه الدراسة إلى مقدمة وأربعة فصول تنتهي إلى خاتمة وذلك على النحو المبين أدناه :
محاور الدراسة:
1- الإطار الفقهي للتدخل الإنساني
2- الإطار الاتفاقي والعرفي في القرنين 17-19
3- التدخل الإنساني في القرن العشرين
4- تسييس التدخل الإنساني
5- خاتمة
الفصل الأول
الإطار الفقهي للتدخل الإنساني
1. مذهب التدخل: مدرسة القانون الطبيعي:
لم يحرم القانون الدولي اللجوء إلى الحرب الآحادي كوسيلة لتسوية النزاعات بين الدول إلا في القرن العشرين. عليه وقبل ذلك التاريخ لم توضع قواعد إلا نادراً لاستخدام القوة أو التهديد باستخدامها، وقد عرف قرويشيص (1583-1645) وهو من معتنقي المذهب البروتستانتي، عرف الحرب بأنها وسيلة اللجوء للقوة بين الأطراف المتنازعة وأنه لا توجد مساحة بين الحرب والسلام. (1)
"
مصطلح "التدخل" ظهر في القرن التاسع عشر ولكن ظلت المشكلة قائمة في اختلاف المفاهيم حوله، حيث لم يظهر تمييز واضح بين حق الحرب وحق التدخل
"
لقد ظهر مصطلح "التدخل" في القرن التاسع عشر ولكن ظلت المشكلة قائمة في اختلاف المفاهيم حوله، حيث لم يظهر تمييز واضح بين حق الحرب وحق التدخل ومثالاً لذلك القول أنه عندما اعترضت الولايات المتحدة الأمريكية على الإجراءات التي اقترحتها كل من بريطانيا وألمانيا في مواجهة فنزويلا سنة 1902م في شكل حصار سلمي، فإن القوى الأوربية في ذلك الوقت اعتبرت ذلك الحصار السلمي حالة حرب.
عليه لابد من تمييز أصول التدخل الإنساني عن أية حالة أخرى من حالات اللجوء إلى استعمال القوة أو التهديد باستخدامها، فالتدخل لحماية رعايا الدولة قد نظر إليه قديماً على أنه حق للدفاع عن النفس وفي حالة الضرورة، والتدخل بموافقة الدولة المتدخل لديها وفقاً للمعاهدات أو الاتفاقيات المبرمة أو الالتزامات التعاهدية يعتبر أقرب إلى التدخل القانوني.
لقد ارتبطت نشأة التدخل الإنساني من الناحية التقليدية بظهور مبدأ الحرب العادلة في العصور الوسطى، حيث طور هذا المبدأ ثم نشر في أعمال الفقيه هيجو قروشيص لقد كانت الحروب الأوربية في القرن السادس عشر والسابع عشر وكذلك التدخلات ذات خلفية دينية واعتبرها الكثيرون حروباً عادلة إلى حين عقد معاهدة وستقاليا سنة 1648 والتي وضعت الأساس لمبدأ توازن القوى والذي استمر إلى حين اندلاع الحروب النابليونية، كما أن معاهدة وستقاليا شهدت انتقال أوروبا من فترة العصور الوسطى التي كان البنيان السياسي فيها بنياناً رأسياً بزعامة البابا والإمبراطور إلى بنيان أفقي على نظام الدولة ذات السيادة، وسمحت المعاهدة لحكام الدول باختيار دين الدولة ورعاياها وما يقابل ذلك من سيادة العلمانية لحكام الأقاليم على المقاطعات التابعة لهم، لقد أدى ذلك إلى إنهاء عمليات التدخل بسبب الاختلافات المذهبية والدينية في أوروبا الغربية رغم أن الدين ظل عاملاً فاعلاً في أوروبا الشرقية وبصفة خاصة روسيا القيصرية.
ورغم تحفظ قروشيص على مبدأ التدخل إلا أنه أجاز ذلك لأغراض عقابية وقد طور تلاميذه ذلك المبدأ فيما بعد ليصبح مبدأ لازماً في مجتمعات تفتقد لوجود سلطة قضائية عليا تحل النزاعات، وقد قيد ذلك الحق لمقابلة الأضرار التي يتضرر منها الأشخاص أو الدولة ذات السيادة أو حيثما يوجد أساس تبرره حالة اللجوء إلى الحرب، وقد أجاز قروشيص الحق للسلطات الروحية والعلمانية للدفاع عن حق السادة في طلب العقاب عند وقوع الضرر ليس فقط في مواجهتهم وإنما في مواجهة رعاياهم أيضاً واشترط ذلك بحالة الانتهاك الصارخ للقانون الطبيعي أو قانون الأمم في مواجهة أي شخص أيما كانت طبيعته قانونية أم اعتبارية.
لقد أدى التحول الذي أحدثته معاهدة وستقاليا في أوروبا إلى ظهور مدرسة الوضعيين في القانون الدولي والذين رفضوا مفاهيم قروشيص الخاصة بالحرب العقابية خوفاً من أن هذا المذهب قد يساء استعماله.
بعد مذهب التدخل العقابي ظهر تيار آخر يدعو للحرب بالإنابة عن المضطهدين فقد نشر ستويل Stowell سنة 1579 خلال فترة الحرب الدينية في فرنسا ما يفهم منه "الحرب ضد الطغيان" والذي يعتبر أول بادرة تؤكد على قانونية التدخل بالإنابة عن شعوب الدول المجاورة الذين اضطهدوا بسبب اعتناقهم مذهب ديني بواسطة طاغية، غير أن آخرين يقولون أن حجة التدخل لمناصرة من ينتمون معهم لدين واحد قد عرف في أوربا قبل ذلك التاريخ بكثير.
ويعتبر جنتيلي Gentili من أنصار ذلك الاتجاه وأول من أثار مسؤولية صاحب السيادة، مشيراً إلى ضرورة وجود آلية تذكر صاحب السيادة بواجباته، وهي آلية غامضة لم تحدد.
وفكرة قروشيص عن الحرب العادلة التي تعلن بالإنابة عن المضطهدين تختلف عن فكرة جنتلي من ناحيتين ، فهي حق وليست مجرد واعز معنوي من ناحية كما إنها مقيدة بظروف يكون فيها صاحب السيادة قد انتهك الحقوق التي يفترض فيه أن يحترمها، بمعنى أنها حقوق يرى قروشيص أنه من المشكوك فيه أن يقوم الرعايا بحمل السلاح لإقرارها في مواجهة صاحب السيادة فالأمر لا يتعلق بإلزامية الحق وإنما في عدم قدرة الرعايا على الدفاع عنه، وبالتالي فإن صاحب سيادة دولة أخرى يعطي نفسه حق الدفاع عن المضطهدين ويتدخل بالإنابة عنهم، ويأتي بافندروف Pufendorf لكي يقيد ذلك الحق بالضرورة القصوى للدفاع عن النفس، وهو حق المواطنين في حمل السلاح ضد صاحب السيادة عموماً فإن ذلك الحق كان مثار خلاف شديد في وقته.
2. مذهب عدم التدخل: المدرسة الوضعية:
في مواجهة المذهب السابق ظهر تيار من الفقهاء يعارض مسألة التدخل يتمثل في صعود تيار الوضعيين في القانون الدولي أو العام ، تيار يتمسك بمبدأ السيادة، وتيار يعتبر الدولة كيان سياسي حر من الناحية المعنوية، يضاف على ذلك تغير المناخ السياسي في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
ويأتي على رأس هؤلاء توماس هوبز (1588-1679) والذي يؤكد على أن الدول لا تسأل عن تصرفاتها لأن الدولة لا تؤذي رعاياها، ليس بالقدر الذي يؤذي به سيد خادمه ويؤكد هوبز على حصانة أصحاب السيادة القانونية (2) ترسخ مبدأ السيادة مع بروز المدرسة الوضعية وسيطرة مبدأ توازن القوى على العلاقات الدولية واستبعاد فكرة الدولة الدينية من القانون الدولي فأصبحت السيادة غير قابلة للانتهاك.
وكان الفيلسوف الألماني وولف Wolff (1679-1754) من دعاة عدم التدخل وكان أول من فصل بين مبادئ القانون الدولي والمبادئ التي تتحدث عن القيم كما رفض مبادئ القانون الطبيعي التي كانت تمثل محور الفقه لدى جرويشص، رغم أن زوخ Zowche (1590-1660) قد سبقه من قبل كفقيه داعية لعدم التدخل.
وحول حق الحرب يقول وولف إن الحرب تكون قانونية تعلنها دولة تضررت ضرراً لا يمكن التعويض عنه أو لا يمكن معالجته بأي صورة كانت، ويضيف أن الحرب ضد دولة مارقة لا تعتبر حرباً قانونية بل تنتهك قانون الطبيعة ومخالفة لتعاليم الرب، ولكن يجيز وولف نوعاً من الوساطة إنابة عن رعايا دولة عوملوا معاملة سيئة بواسطة صاحب السيادة ولا تستخدم في ذلك القوة.
ويضيف فقيه آخر هو فاتيل Vattel (1714-1767) بأن القانون الدولي لا يسمح بانتهاك اختصاصات الدولة الداخلية، وينتقد وجهة نظر قروشيص التي تسمح لصاحب سيادة بأن يحمل السلاح في مواجهة من ينتهك قانون الطبيعة، ويقول إن ذلك الحق يؤدي إلى مخاطر بينه، لأنه لا يمكن أن يسمح لصاحب سيادة أن يصدر حكمه على صاحب سيادة آخر.
كما يضيف أن حق مقاومة الطاغية هو حق الرعايا أنفسهم ويمكنهم التمرد عليه ويحق لدولة أو صاحب سيادة مساعدتهم إذا طلب منه ذلك، باعتبار أن الروابط السياسية بين الطاغية ورعاياه قد انقطعت.
حقيقة أن مصطلح التدخل باللغة الإنجليزية يتراوح بين Intervention و Interference وباللغة الفرنسية يتراوح بين Intervention و se meler و S'injerer وبالتالي فإن هناك خلط في المفاهيم إذا لم تراعى معانيها، بالنسبة لفاتيل Vattel فقد استخدم التدخل بمعنى se meler باعتبار أنه كاتب فرنسي ولم يستخدم intervenir فأجاز التدخل بالمعنى الأول الذي يعني التدخل في الشؤون الداخلية دون استخدام القوة أو العنف، وأجاز ذلك في حالة النزاع بين صاحب السيادة ورعاياه في حالة النزاع dispute وحظر وعارض مفهوم التدخل intervenir وهذا المفهوم بمصطلح se meler يقابله مفهوم التدخل باللغة الإنجليزية مصطلح Interfere وليس intervene.
فإذا ثار نزاع بين صاحب السيادة ورعاياه فإن المسألة في نظر الفقيه فاتيل Vattel يتعلق بعما إذا كان بمقدور دولة أخرى أن تتدخل، فهو يرى أن هذه الدولة يمكن أن تساعد لإنقاذ أولئك الشجعان الذين تمردوا ضد طاغيتهم للحصول على حرياتهم على أن تمعن الدولة المتدخلة النظر فيما إذا كان صاحب السيادة على حق أم رعاياه قبل التدخل se meler بمعنى interfere باعتبار أن لأحد الطرفين المتنازعين أو كلاهما حق في الدفاع أو التمرد.
لقد عبر كانت Kant عن وجهة نظره بسلسلة مقالات "السلام المستدام" إذ ذكر أنه لا يحق لدولة أن تتدخل بالقوة في الأوضاع الدستورية لدى حكومة دولة أخرى (3)
نجد من أنصار مدرسة عدم التدخل الفقيه هيجل Hegel الذي يرى أن التدخل الخارجي خرق لاستقلال الدولة، حتى لو كان ذلك التدخل لأسباب حميدة .
لقد جاءت المدرسة الوضعية لكي تستبعد اقتران القانون الدولي بالمثل والقيم، وقد اتضح مثلاً ذلك في القرن التاسع عشر في كتابات قروشيص وفاتيل فرغم أنهما اتفقا على حق التدخل لصالح الرعايا المضطهدين إلا أن كل منهما عبر عن ذلك بطريقة مختلفة، إذ أعطى قروشيص ذلك الحق لدولة في مواجهة دولة أخرى حتى ولم يثور في الدولة الأخرى تمرد أو عصيان، أما فاتيل فقد افترض أن يثور الرعايا ضد الحاكم صاحب السيادة قبل أن تفكر دولة أخرى في التدخل لصالحهم.
وبنهاية القرن التاسع عشر ساد المبدأ الهيجلي في النظرية الدولية القانونية حيث ارتبطت نظرية التدخل intervention بالتدخل الإقليمي على عكس مفهوم التدخل الآخر intervetin والذي ارتبط بالتدخل المبنى على قدسية القيم والمثل التي تحكم العلاقة بين صاحب السيادة ورعاياه territorial intervention, moral interference
لقد اتسمت بداية القرن التاسع عشر بسيادة مبدأ عدم التدخل، ففي بداية الحروب النابليونية، بدأت أوروبا الملكية في التحرك لحماية نفسها ضد الأفكار الثورية الجديدة، فاستخدمت نهج حق التدخل لحماية السلام وأنشأت لذلك الحلف الرباعي الذي كونته كل من بريطانيا العظمى والنمسا وبروسيا وروسيا القيصرية الذي تحول فيما بعد لحلف الأباطرة، وهي الدول التي تحالفت ضد نابليون وانتصرت عليه في موقعة وترلو 1815 والتزمت بإقرار السلم في أوروبا وحماية النظم الملكية بالتشاور في حالة ظهور مهددات وأنشطة ثورية. بدخول فرنسا لذلك الحلف سنة 1818 ثارت خلافات فقد تحفظ البريطانيون على آلية إرسال قوات لقمع الثورة في نابلس، واليونان، وأسبانيا وخرجت عن ذلك التحالف سنة 1822 .
أما فرنسا فقد انسحبت من التحالف تاركة النمسا وبروسيا وروسيا القيصرية في رأس ذلك التحالف والذي أعيدت تسميته وأصبح يسمى بالحلف الثلاثي والذي استمر حتى ثورات 1848 في ألمانيا والنمسا والمجر وإيطاليا (4) .
وعندما تمردت المستعمرات الأسبانية في أمريكا اللاتينية سنة 1823 انضم وزير خارجية بريطانيا إلى مونرو وزير خارجية الولايات المتحدة الذي أصدر مبدأه الشهير بمبدأ مونرو معارض أي تدخل لأوروبا في مواجهة التمرد في أمريكا الجنوبية.
اقتصر مبدأ التدخل خلال تلك الحقبة من القرن التاسع عشر على مفهوم أقرب إلى الأجاويد الدبلوماسية Diplomatic intercession بمعنى التعبير عن الرأي في المسائل الداخلية لدولة أخرى. ولكن نهاية الربع الأخير من القرن التاسع عشر أصبح مبدأ التدخل متصلاً باستخدام القوة على النحو الذي لم يوافق القانون الدولي التقليدي عليه.
لقد ظهر مصطلح التدخل الإنساني في كتابات الفقهاء وغيرهم من القانونيين أمثال وليم إدوارد هول البريطاني وانطوان روجيه الفرنسي حيث ارتبط المصطلح بالتدخل لأغراض إنسانية، وفي كتابات ويتون سنة 1836 التي تنأولت تدخل الدول المسيحية في أوروبا Interference لمساعدة الثوار اليونانيين ضد الدولة العثمانية.
يتضح مما سبق أن الأصول القانونية والأخلاقية لمبدأ التدخل تعود للدوافع المعنوية لإعلان الحرب على أسس الخلافات الدينية في مقابل القيود القانونية على حق التدخل بالانطلاق من مبدأ السيادة كواحد من مبادئ القانون الدولي ومجتمع الدول المتساوية في السيادة، وقد رأينا في الفصل السابق كيف تطور ذلك المبدأ على أساس العرف كحق في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
الفصل الثاني
الإطار الاتفاقي والعرفي في القرنين 17-19
1. المعاهدات الثنائية من القرن السابع عشر للقرن التاسع عشر :-
ارتبطت فكرة التدخل الإنساني قديماً بمسألة الحقوق الدينية وحمايتها، وكان التدخل يحدث حتى ولو لم يكن الأشخاص أو الأقليات الدينية التي انتهت حقوقها من رعايا الدولة المتدخلة.
"
فكرة التدخل الإنساني ارتبطت قديماً بمسألة الحقوق الدينية وحمايتها، وكان التدخل يحدث حتى ولو لم يكن الأشخاص أو الأقليات الدينية التي انتهت حقوقها من رعايا الدولة المتدخلة
"
ظهر حق التدخل الإنساني في القرن السادس عشر بعد الاكتشافات الكبرى وبصفة خاصة في أوروبا حيث كان لكل أمير مسيحي واجبات إنسانية إذا لم يحترمها يكون علي بابا الفاتيكان تذكيره بها. (5)
من ناحية أخرى عقدت الدول الأوروبية مجموعة من المعاهدات فيما بينها لحماية المذاهب الدينية المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية ومع الدولة العثمانية لضمان حماية المسيحيين لشعائرهم الدينية، فكانت المعاهدة المبرمة بين النمسا والإمبراطورية العثمانية سنة 1615 قد نصت على حماية الأقليات اليهودية والمسيحية وبناء الكنائس وقراءة الإنجيل، ومعاهدة وستفاليا سنة 1648 التي كفلت حرية مباشرة العبادات المختلفة للأقليات الدينية وحماية الأقليات البروتستانتية في أوروبا، وكانت تلك المعاهدة قد وقعت في أعقاب الحرب الثلاثينية التي سبقتها الحرب المئوية 1517-1648. (6) .
ثم جاءت المعاهدة المبرمة بين بولونيا وبروسيا والسويد 1660 والمعاهدة المبرمة بين الإمبراطورية الرومانية وبولونيا سنة 1699، وكلاهما قد نص على جزاءات دولية في حالة انتهاك حقوق الأقليات الدينية، وسمحت للشاكي أن يتقدم بشكواه لممثل الإمبراطور للنظر فيها، ويعتبر ذلك النص شكلياً لسبب تمسك الدول بسيادتها، حيث أكدت معاهدة وستفاليا على مسألة السيادة، وهي المعاهدة التي شهدت انتقال النظام الأوربي في العصور الوسطى من النظام الرأسي الهرمي في عهد البابا والإمبراطور إلى النظام الأفقي القائم على أساس سيادة الدول (7).
وهناك المعاهدة التي أبرمت بين روسيا القيصرية والإمبراطورية العثمانية سنة 1774 والتي نصت على التزام البابا العالي بحماية الديانة المسيحية وضمان إقامة الشعائر الدينية الخاصة بالأقليات المسيحية، وإعطاء الحق لممثلي الإمبراطور الروسي لتشييد وبناء كنائس للأقليات المسيحية في أنحاء الإمبراطورية العثمانية وتصب بعض المعاهدات التي عقدت في نفس المحتوى كالمعاهدة التي عقدت بين فرنسا والدولة العثمانية سنة 1856 حول حماية المسيحيين، والمعاهدة التي أبرمت بين فرنسا والصين وفرنسا واليابان في نفس عام 1858 لحماية الأقليات وكذلك المعاهدة المبرمة بين ألمانيا والدولة العثمانية سنة 1878 والتي ألزمت الدول التي انسلخت من الدولة العثمانية وهي رومانيا والصرب والجبل الأسود بضمان الحريات والحقوق الفردية دون تمييز بسبب العنصر أو العقيدة وقد ربطت الدولتان اعترافهما بالدول المنسلخة بشرط قبول الضمانات كما أكدت على مبدأ حرية العقيدة والتسامح الديني، ويعتبر كثير من الفقهاء أن هذه المعاهدة قد احتوت على خلفية للتدخل الإنساني لأول مرة.
ولم يكن الأمر قاصراً على حماية المسيحيين، فقد نصت المعاهدة التي أبرمت بين النمسا والمجر من ناحية والدولة العثمانية من ناحية أخرى سنة 1879 على حماية الأقليات المسلمة وكفالة الحق لهم لممارسة شعائرهم الدينية وعباداتهم وتقاليدهم، واعتبار أي اعتداء ضد الأقليات المسلمة سواء على أموالهم أو ديانتهم جريمة تعرض مرتكبها للعقاب، كما تضمنت المعاهدة بنوداً لحماية الأقليات العرقية (8)
2. التدخل غير القسري في القرن التاسع عشر :non-coercive interference
في مرحلة ما قبل ظهور المواثيق الإقليمية قلما ثبت أن هناك إثبات لوجود قواعد عرقية في القانون الدولي تفيد بوجود حالات عامة للتدخل الإنساني وذلك من خلال كتابات المهتمين الذين سعوا لإثبات وجود حق التدخل باستثناء ثلاث حالات مختلف عليها وهي:
حالة التدخل البريطاني الفرنسي الروسي لمساعدة الانتفاضة اليونانية ضد العثمانيين سنة 1827 .
حالة الاحتلال الفرنسي في سوريا سنة 1860-1861.
حالة تدخل الولايات المتحدة الأميركية في كوبا خلال حربها مع أسبانيا سنة 1898.
وميز الفقهاء تلك المرحلة بين ثلاثة أنواع من التدخل، والذي يشبه إلى حد ما الأجاويد أو الوساطة الدبلوماسية intercession والتدخل بدون قوة مسلحة interference والتدخل الذي يقترن باستخدام القوة أو التهديد باستخدامهما intervention، وغالباً ما يخلط البعض بين تلك الأنواع عند دراسة حالة معينة.
وحالات التدخل المذكورة أشار الفقهاء إلى أنها انطبقت على جموع أو الأوربيين أو القوى الأوربية في القرن التاسع عشر في محاولتها لحماية السكان المسيحيين الموجودين داخل الإمبراطورية العثمانية، ومنها سوء معاملة المسيحيين في جزيرة كريت والتي تسببت في عصيان ضد السلطة العثمانية سنة 1866، حيث بني التدخل الأوروبي على التزامات الأتراك بموجب المعاهدات التي وقعوها وهنالك حالة تدخل تشبه النوع الأول من جانب النمسا في مقدونيا سنة 1903 والمطالبة بتعويض المسيحيين، وهنالك الاحتجاجات التي مارستها الولايات المتحدة الأميركية لدى الدولة العثمانية في مواجهة النزاع ضد الأرمن خلال الفترة من 1907 إلى 1917 والتي قيل أنها أدت لمقتل مليون أرمني وقد حذرت روسيا آنذاك الولايات المتحدة من التدخل.
وفي سنة 1857 تدخلت كل من بريطانيا وفرنسا بالإنابة عن سكان نابولي الذين أثاروا مظاهرات للتخلص من الحكم النمساوي والانضمام للاتحاد الإيطالي وإن كان تدخلاً من النوع الأول intercession، كما تدخلت بريطانيا وفرنسا والنمسا لدى روسيا في مواجهة رعاياها البولنديين سنة 1863.
من ناحية أخرى هددت الولايات المتحدة بالتدخل عسكرياً أثناء انتفاضة كوبا ضد أسبانيا خلال الفترة من 1868و1878 وحيث تدخلت فعلياً في الحرب الكوبية الأسبانية سنة 1898 ولم يكن التدخل لأسباب إنسانية .
الحالات المذكورة أعلاه باستثناء حالة التدخل العسكري الأمريكي في كوبا سنة 1898 كانت تدخلات من النوع الثاني interference الذي يمكن تصنيفه على أنه أقرب للتدخل الدبلوماسي وليس العسكري وقد ثار خلاف حولها عما إذا كانت لأسباب إنسانية أو غير ذلك بما في ذلك تدخل الولايات المتحدة العسكري في كوبا.
3. التدخل العسكري في القرن التاسع عشرcoercive intervention :
هناك عدد من التدخلات العسكرية والتي اختلف الفقهاء حولها عما إذا كانت إنسانية بحتة أو أنها تضمنت أجندة سياسية، هناك اتفاق بين الفقهاء بأنها تحمل سمات التدخل الإنساني ولكن انصب الخلاف حول عما إذا كانت تنفذ أجندة سياسية من عدمه، هذه الحالات ثلاث وسوف نتناولها فيما يلي :
3/1 التدخل البريطاني الفرنسي الروسي المشترك لمساعدة الثوار اليونانيين 1827 يعتبر التدخل البريطاني الفرنسي الروسي المشترك في اليونان سنة 1827 لمساعدة الثوار اليونانيين ضد الدولة العثمانية أقدم حالة تدخل إنساني في التاريخ الحديث وصفها Stowell أنها أقرب إلى حالة الدفع بحق تقرير المصير لبعض الشعوب رغم أنها حالة تدخل إنساني في مواجهة الأساليب البشعة التي مارسها العثمانيون في مواجهة الانتفاضة في اليونان.
عقدت القوى الكبرى الثلاث بريطانيا وفرنسا وروسيا معاهدة عام 1827 حرروا في ديباجتها مبررات تدخلهم في اليونان جاء على صدرها القضاء على حالة الفوضى وعدم الاستقرار اللتين تسببت فيهما الحرب مما أدى إلى توقف التجارة الأوربية وعرضت رعايا الدول المتعاقدة لخسارات لا تقدر، كما أضافوا بأن الدول المتعاقدة تلقت طلباً من اليونانيين للتدخل عن طريق الوساطة بينهم وبين العثمانيين، ولذلك ذكروا أنهم قد قرروا وضع حد لسفك الدماء ووقف الشر وإقرارا الأمن والسلام وهي جهود تنطلق من الجوانب الإنسانية أكثر مما تنطلق من عامل المصلحة القومي وإقرار الاستقرار في أوروبا على حد ما ذكروا (9) .
حددت المعاهدة هدفها في إجراء وساطة بغرض الوصول إلى فترة انتقالية بين العثمانيين واليونان ولكنها اعتمدت بنداً سرياً أنه في حالة عدم موافقة الباب العالي على ذلك أو خرق الهدنة أن تقوم الدول المتعاقدة بفرضها باستخدام كل الوسائل الممكنة، هذه حالة تاريخية يمكن أن تقع في إطار فرض السلام بالقوة على ما نسميه في عهدنا اليوم، صاحب ذلك البند السري تعليمات صدرت لقواتهم العسكرية بأن تضع نفسها على أهبة الاستعداد للتدخل، تضمن البند السري أيضاً اتفاقاً بين الدول الموقعة واليونانيين على تشجيع التجارة مع هذه الدول وإقامة علاقات معها بعد نيلها للاستقلال والذي تم عام 1830.
رفضت الدولة العثمانية الانصياع ففرضت الدول المتعاقدة حصاراً بحرياً في 31 أغسطس 1827وترتب على ذلك الحصار حدوث مواجهة بين الدول المتعاقدة والعثمانيين عرفت بموقعة نافرينو Navarino في 20 اكتوبر 1827 حيث هُزم العثمانيون في تلك الموقعة، كانت روسيا في ذلك الوقت مشغولة بحربها ضد الفرس وبنهاية تلك الحرب أعلن قيصر روسيا الحرب على تركيا في 26 أبريل 1828، وعلى أثر ذلك أعلن الباب العالي قبوله بالشروط وفقاً لمعاهدة لندن بإعلان أصدره في 9 سبتمبر 1829 ووقع معاهدة سلام في روسيا بعد خمس أيام من ذلك التاريخ.
رفض الفقيه براونلي اعتبار تلك الحالة من حالات التدخل الإنساني حيث أن الحكومات في ذلك التاريخ لم تقدم مرجعية لتبرر بها قانونياً ذلك التدخل رغم ما ذكر من دوافع لغياب المفاهيم القانونية، وغياب العرف الدولي الذي يحظر الإبادة الجماعية، أما فيما تعلق بإساءة الدولة للرعايا الموجودين تحت رعايتها فإن المعروف أن الاعتراف بحق التدخل الإنساني لم يتبلور إلا بنهاية القرن التاسع عشر.
يضيف براونلي أن الغالب أن بريطانيا وفرنسا شاركتا في الحرب ضد الدولة العثمانية لتفويت الفرصة على روسيا على القيام بتلك الخطوة بصورة آحادية بعد نهاية حربها مع الفرس وتبسط سيطرتها على اليونان، خاصة وأن بريطانيا وفرنسا استغلتا تعاطف الرأي العام الأوروبي مع اليونان في الأيام الأولى للانتفاضة اليونانية للقيام بعمل ما استقر على التدخل.
لقد ذكرت بريطانيا أن العثمانيين يحاولون تهجير سكان جزيرة مرويا Morea إلى مصر وتهجير سكان جدد إليها من أفريقيا وآسيا لتغيير تركيبة السكان اليونانيين خاصة الجزء الأوروبي منها علماً أنه لم يثبت صحة هذه الرواية التي ربما تم دسها لخلق تحالف بريطاني روسي في مواجهة الدولة العثمانية على هدى معاهدة لندن التي وقعت سنة 1827 التي عجلت بعقدها تلك الرواية، رغم أن الشكوك ثارت حول مصداقية روسيا في التدخل في اليونان لأسباب إنسانية.
3/2 الاحتلال الفرنسي لسوريا 1860-1861:
جرت أحداث في سوريا في يونيو ويوليو 1860 راح ضحيتها عدد من المسيحيين والمارونيين وأن الدروز قاموا بتلك الأحداث وتسببوا فيها في جبل لبنان وفي دمشق، حيث كانت لبنان جزءاً من سوريا الكبرى في ذلك الوقت في ظل الدولة العثمانية، في يوليو 1860 اجتمع سفراء كل من النمسا وبريطانيا وفرنسا وبروسيا وروسيا في باريس مع ممثل تركيا حيث تم التوقيع على بروتكول أصبح اتفاقية وقعت في 5 سبتمبر من نفس العام.
بموجب ذلك الاتفاق أبدى السلطان رغبته في اتخاذ عدد من الإجراءات لوقف تلك الدماء في سوريا وإرساء دعائم الأمن والنظام في ظل السيادة العثمانية، ووافق على إرسال قوة من 12 ألف جندي لإقرار الأوضاع، وقد ساهمت فرنسا بنصف تلك القوة للمساعدة في إقرار الأمن، مع موافقة الدول الأخرى لإرسال قوات إضافية إذا دعت الضرورة.
قدر الاحتلال الفرنسي وفقاً للاتفاق أن يبقى في سوريا ستة أشهر ولكنه أمتد إلى عام حتى يونيو 1861، ورغم أن القوات العثمانية قد تمكنت من إقرار الأوضاع إلا أن الأسطول الفرنسي ظل يراقب الشواطئ خلال تلك الفترة.
في تعليقه على تلك الواقعة ذكر الفقيه براونلي أنه رغم أن تلك الحادثة يمكن أن تمثل نوعاً من التدخل الإنساني إلا أن تمكن السلطات العثمانية من إقرار الأوضاع قد سلب الفرنسيين حجتهم في التدخل ومحاصرة الشواطئ وبالتالي فإن العملية قد لا تفي بأغراض التدخل الإنساني وإن كانت دوافعها صحيحة عليه فإن إصرار الفرنسيين والأوربيين على التدخل ربما وقفت وراءه الرغبة في إسقاط الإمبراطورية العثمانية بينما كانت مسؤولية النزاع تقع على عاتق المسيحيين أنفسهم.
من ناحية أخرى فإن موافقة العثمانيين على التدخل بتفويض محدود للقوات الفرنسية يستبعد الحالة كونها من مفاهيم التدخل التقليدي.... باعتبار أن كلمة تدخل تعني عدم رضا الدولة المتدخل لديها عادة.... وفي تقديرنا الشخصي أن هذه حالة أقرب إلى التدويل منها إلى التدخل حيث أن التدويل يتم بالتراضي.
أما ستويل فإنه يرى أن السلطان العثماني أعطى موافقته تحت ضغوط أوربية ورغبةً منه في تفادي الأسوأ وهذا يقود إلى اعتقاد بأن ما حدث يعتبر تدخلاً إنسانياً لو لا أن التدخل قد جاء آحادياً ومن جانب واحد بصورة تثير الشك في النوايا الفرنسية.
ما قد يشفع للفرنسيين في اعتبار الحالة حالة تدخل هو عدم رغبة القوى المتعاقدة الأخرى في التدخل عسكرياً وأن فرنسا قد فوضت بذلك، وأن البروتوكول الذي وقع في أغسطس 1860 قد تضمن بنوداً ذكرت فيها الدول الموقعة أنها لا تسعى لتحقيق مزايا إقليمية أو بسط النفوذ أو الحصول على تنازلات من وراء عملية الاحتلال وأن الدوافع الإنسانية تتعلق بضمان حماية المسيحيين في سوريا .
3/3 تدخل الولايات المتحدة في كوبا 1898:
يرى البعض أن التدخل الأمريكي في كوبا سنة 1898 تدخل آحادي، ويعتبر ستويل Stowell أن الحالة من أبرز الأمثلة التي تصنف كتدخل إنساني، لقد أدى التدخل الأمريكي إلى هزيمة الإسبان وانسحابهم وأصبحت كوبا محمية أمريكية منذ ذلك الوقت إلى حين.
جاء التدخل على أثر بعض التقارير التي أفادت بالوحشية التي يتعامل بها العسكريون الأسبان لقمع الانتفاضة الكوبية التي بدأت سنة 1895 وإن كانت هذه الوحشية ليست بالقدر الذي وصفت به للسماح بالتدخل، فقد عملت أسبانيا كما أشارت الصحف على وضع الكوبيين في معسكرات تركيز مما أثار غضب الولايات المتحدة الأمريكية كما ذكر.
فقد أشارت الصحف إلى مقتل أكثر من مائتي ألف كوبي في المعسكرات، يقف أيضاً وراء التدخل الأمريكي اللهجة الحادة التي خاطب بها رئيس الوزراء الأسباني الولايات المتحدة.
لقد علل الرئيس الأمريكي تدخله في كوبا بأربع أسباب:
1/ العامل الإنساني 2/ حماية الرعايا الأميركان في كوبا وممتلكاتهم.
3/ حماية المصالح التجارية الأميركية 4/ حالة الدفاع عن النفس في إشارة إلى تفجير باخرة حربية أميركية بواسطة غواصة إسبانية على ما رجحت السلطات الأميركية .
إن من أهداف الأميركان كما ذكروا تقديم ضمانات لاستقلال كوبا وإجبار أسبانيا على تقليص سيطرتها على الجزيرة، ونفت الولايات المتحدة أن يكون لها أي مأرب آخر كبسط النفوذ وإنما تقديم حل سلمي للنزاع .
الفقيه فونتين Fonteyne ذكر أن التدخل يحمل سمات التدخل الإنساني أما سالسيوري فهو يشير إلى المبررات الأميركية على أنها تضمنت مصالح يسعى الرئيس الأميركي لتحقيقها وأشار إلى أن التدخل أقرب إلى حالة الدفاع عن النفس منه تدخلاً إنسانياً.
فقهاء آخرون رأوا في التدخل حماية للرعايا الأمريكان وممتلكاتهم أما والتزر Waltzer فقد اعتبر التدخل نوعاً من الإمبريالية الفاضلة التي مورست أيام القراصنة ولا يمت بصلة للتدخل الإنساني.
الفصل الثالث
التدخل الإنساني في القرن العشرين
أطل القرن العشرين وما زالت مسألة التدخل الإنساني غير واضحة المعالم من الناحيتين الفقهية والعملية، فالنظر إلى مسألة التدخل الإنساني من زاوية الحق بعد مرور قرن من الزمان إما أنها نظرة متحيزة أم أنها نظرة خاطئة، فقد أشار على سبيل المثال الفقيه براونلي Brawnly إلى أن ذلك المبدأ فضفاض وله أشكال متعددة ومثير للخلافات من حيث وضعه القانوني خاصة إذا كان التدخل آحادياً.(10)
"
بعض الفقهاء طالبوا بأن يكون التدخل الإنساني الدولي جماعياً بحيث لا يسمح لدولة أن تأخذ القانون على عاتقها عن طريق التدخل بصورة آحادية
"
هناك بعض الدراسات التي أشارت إلى خطوط فاصلة بين من أكدوا على حق التدخل الإنساني الآحادي وأولئك الذين رفضوا ذلك الحق، ومن أشاروا إلى أن القانون الدولي لم يحتو على الكثير في ذلك الصدد. وبالنظر لرأي المجموعة الأولى والمجموعة الأخيرة يمكن القول أن غالبية الفقهاء قد أكدوا على ذلك الحق. والقليل منهم ربط بين مبررات التدخل والطريقة التي يمكن أن يتم بها. وهؤلاء تمسكوا بالرأي القائل بأنه إذا كانت هناك ثمة استثناء لقاعدة عدم التدخل فإن ذلك الاستثناء هو أن يكون التدخل جماعياً بحيث لا يسمح لدولة أن تأخذ القانون على عاتقها عن طريق التدخل بصورة آحادية.
1/ الرأي القائل بالتدخل الإنساني كحق قانوني:
ينقسم هؤلاء الذين يؤكدون على الحق القانوني بالتدخل الإنساني إلى مجموعتين، هؤلاء الذين يروا ذلك التدخل كإجراء شبه قضائي وبوليسي في مواجهة ما يرتكبه أصحاب السيادة من جرائم، وأولئك الذين صنفوا ذلك الحق كحالة دفاع عن حقوق المضطهدين.
1/1 التدخل كإجراء بوليسي:
يأتي على رأس هؤلاء الفقيه الفرنسي روجييه Rougier الذي وصف نظرية التدخل الإنساني بأنها محاولة لإعطاء حق التدخل أساساً قضائياً لدولة لممارسة ضوابط قانونية لتصرفات دولة أخرى في مجالها الداخلي تناقض القوانين الإنسانية كذلك نجد ويتون Wheaton وولسي Woolsey وارنتز Arntz وبوشارد Bouchardمن مؤيدي ذلك الاتجاه، وهو أقرب إلى ما تحدث عنه قروشيص حول تصوره للحرب الرادعة أو العقابية، Punitive war التي سارت على نهجها الدول المتحضرة.
هنالك من الدارسين من أشار إلى الأعباء التي يمكن أن تتحملها الدولة المتدخلة ولذلك أشاروا إلى أن التدخل يتم بواسطة الدولة المتحضرة، وهذه نظرة تقليدية حيث كانت الدول الغربية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تدعو نفسها بتلك الصفة ، وكما نعلم وأشرنا إليه أن الوضعيين من الفقهاء قد عارضوا فكرة التدخل لما يمكن أن تؤدي إليه من سوء استخدام وتسيس.
إن نقطة الانطلاق في المبدأ الذي يجيز مسؤولية التدخل الإنساني هي الدفاع عن الإنسانية إذا ما وقع اضطهاد صارخ لأقلية أو فئة من رعايا الدولة المتدخل لديها، فقد ذهب الفقيه روجيه إلى انه حتى إذا لم توجد قاعدة قانونية تبرر التدخل دفاعاً عن حقوق الجنس البشري في دولة ما واتضح أن هذه الدولة تعامل فئات من رعاياها معاملة تشوبها القسوة والهمجية فانه من الجائز للمجتمع الدولي أن يتدخل لحماية هؤلاء.
ويعتبر ويتون أن تدخل الدول المسيحية في أوروبا لصالح اليونانيين ضد الدولة العثمانية صورة جديدة لمبادئ القانون الدولي العام التي تخول مثل ذلك التدخل لمصلحة الإنسانية.
أما الفقيه المصري محمد سامي عبد الحميد فهو يؤكد أن السوابق التاريخية كتدخل فرنسا وبريطانيا 1827 لحماية المسيحيين في اليونان من الدولة العثمانية وكذلك تدخل فرنسا في سوريا سنة 1860 لم يكن في حقيقته تدخلاً إنسانياً بل كان تدخلاً ذا طابع استعماري هدفه الأساسي إضعاف الدولة العثمانية وتمزيق أوصالها تمهيداً لاستعمار البلاد الإسلامية .(11)
1/2 التدخل بالإنابة عن الشعوب المضطهدة:
المؤيدون للتدخل بالإنابة يفترضون أن للدول واجبات نحو رعاياهم وحقوق يجب الالتزام بها وهم ينقسمون إلى مجموعتين:
مجموعة ترى أنه عندما تخرق دولة حقوق مواطنيها فإن من حق أي دولة أخرى التدخل، وهذا المبدأ يتفق مع ما ذكره الفقيه قروشيص حول ما أسماه بإعلان الحرب بالإنابة عن المضطهدين، لقد تخوف كثير من العلماء حول إمكانية اساءة استخدام ذلك الحق، وهناك من رأى أمثال جاسبار بلانتشلي Caspar Bluntscheli الذي ذكر إن من حق دولة أن تتدخل بالإنابة عن المضطهدين ولكن لإقرار احترام حقوقهم واحترام القانون الدولي فقط في حالة انتهاكها أثناء الحروب الداخلية التي قد تمثل خطراً داهما في دولة ما وقد انضم إلى ذلك الرأي كل من تيسون Teson ومايكل رزمان Reisman . (سسترمان37)
ورأى آخر كما ورد في كتابات فايتل Vattel من ناحية عامة وآخرين فإن التدخل الإنساني يجب أن يقتصر على أوضاع تسودها حروب أهلية أو مناطق اندلع فيها تمرد أدى لانقطاع الصلة بين صاحب السيادة ورعاياه، هذا الرأي يشمل بين طياته دوافع التدخل الإنساني والتي تتمثل في وقف سفك الدماء على غرار ما احتوته معاهدات 1827-1860 التي عقدتها كل من بريطانيا وفرنسا بخصوص التدخل في اليونان وفي سوريا، وتمتد دوافع التدخل وفقاً لذلك الرأي للحفاظ على النظام بمواجهة الخطر الداهم وعدم الاستقرار.
ورأي ثالث يقصر حالة التدخل الإنساني في حالة تعرض سلالة لاضطهاد جسيم من قبل قوة أو جهة أو سلالة مخالفة للسلالة المضطهدة، وقد تأسس في وقت ما مبدأ مساعدة الشعوب وحركات التحرير ضد المستعمر السياسي على ذلك المبدأ.
2/ الرأي القائل بعدم مشروعية التدخل الإنساني:
إن الذين يعارضون حق التدخل الإنساني ينقسمون أيضاً إلى معسكرين، فالمعسكر الأول رفضوا تماماً الاعتراف بأي حق مطلق سواء بالاستناد لآراء الفيلسوف هويز الذي أنكر أي حق للرعايا على صاحب السيادة أو بالقول بأن التدخل لا يتلاءم مع سيادة الدولة، ومن دعاة هذه المدرسة الفقيه تيسون Teson والفيلسوف هجل Hegel .
أما المعسكر الثاني من الفقهاء فقد تبنى موقفاً أكثر مرونة مع التحوط لإمكانية سوء استخدام ذلك الحق إذا ربط بالجوانب الأخلاقية أو المثالية، ويقول الفقيه فيليمور Philimore إنه يمكن الدفاع عن مصالح الإنسانية كأحد الدوافع التي تقف من وراء التدخل ولكن بوجود مبررات موضوعية ودقيقة توجب التدخل في شؤون دولة أخرى وهو مبدأ لا يقره القانون الدولي، لأن ذلك يرتبط بسوء الاستخدام، ويؤدي إلى انهيار مبدأ الاختصاص الداخلي.
الفقيه براونلي من أنصار مبدأ عدم التدخل بالإرادة المنفردة، ويفضل العمل الجماعي سواء في شكل دفاع مشترك أو في شكل ترتيبات إقليمية من خلال مقاصد الدفاع المشترك بشرط إلا يخل ذلك التدخل بإحكام الفصل الثاني من ميثاق الأمم المتحدة وأن يكون التصرف بتفويض من الأمم المتحدة وذلك لتفادي سوء استخدام ذلك الحق بالإرادة المنفردة.
ويضيف الفقيه براونلي Brawnlie إلى أنه فيما عدا حالة الدفاع الشرعي الجماعي فأن أي تدخل يعد عملاً غير مشروعاً.
ويرى الفقيه براونلي أنه لا يمكن الاستناد للمادتين 2/7 ، 51 من ميثاق الأمم المتحدة للتدخل الإنساني طالما أنه لا يمس أراضي الدولة أو استقلالها السياسي، فالواقع أن الميثاق نفسه يحظر التدخل باستخدام القوة المسلحة كما جاء في المادة 2/4 إلا في حالة التدخل المشترك الاستثنائية بتفويض من مجلس الأمن.
ويرى جانب من الفقه الدولي أنه من الناحية القانونية يمكن القول بأن التدخل الإنساني يقع برمته في نطاق النظرية السياسية.(12)
3/ التدخل الإنساني كمبدأ سياسي لا يمكن تجاوزه :-
إن المشكلة التي تواجه تقييم الوضع القانوني لحق التدخل الإنساني خلال القرن العشرين يتمثل في أن عدداً كبيراً من المختصين قد أثاروا التساؤل حول وجوده من عدمه خارج إطار القانون الدولي, وآخرون تبنوا موقفاً حاذقاً بالقول بإن هناك حدود أخلاقيه لسلوك الدولة بغض النظر عن النظام القانوني.
ويشجع هول Hall الجانب السياسي والفقهي لمبدأ التدخل الإنساني والذي يعكس مشاعراً خارج إطار القانون, ويقول إنه لا يوجد حق للتدخل الإنساني ولا يمكن أن يكون قانونياً، ما لم يسمح به مجتمع الدول المتحضرة بأجمعه, وهذا التفويض من مجتمع الدول المتحضرة لا يصبح ممكناً ما لم تسنده مبررات.
أما بريرلي Brierly فيشير إلى أن التناقض بين القانون، والمعنويات هو الذي قاد للنظر للأسباب الإنسانية على أنها مبررات قانونية للتدخل.
4/ التدخل الجماعي:-
أما اوبنهايم Oppenheim فقد شكك في وجود قاعدة تسمح بالتدخل لتحقيق مصالح الإنسانية، وقال إن الرأي العام وسلوك القوي الكبرى هما اللذان يقفان إلى جانب التدخل، وأشار إلى أن حق التدخل ربما يعترف به يوماً ما ولكنه حصر ذلك في التدخل الجماعي بواسطة القوى الكبرى، ويقف إلى جانب ذلك الرأي كل من هول Hall وباسكال فيور Pasqual Fiore وأموس هيرشي Amos Hershey بينما لم يحدد الكثير من الكتاب كيفية ذلك .3)1)
وقد أعطى اوبنهايم شرعية لتدخل كل من بريطانيا وفرنسا في اليونان 1872 وفي سوريا 1861 باعتباره تدخلاً جماعياً لأسباب إنسانية، وعلى العكس من ذلك عندما أعطت روسيا القيصرية لنفسها الحق في التدخل بإرادة منفردة بالإنابة عن المسيحيين الذين قتلوا بواسطة الباب العالي الأمر الذي أدى إلى حرب القرم سنة 1853-1854 فإن بريطانيا وفرنسا وقفتا إلى جانب السلطان العثماني دفاعاً عن سيادة الدولة العثمانية واستقلالها.(14)
إن الذين أقروا بأن التدخل الإنساني لا يسنده أساس قانوني دولي لم يتمكنوا من إثبات منهجهم بالرجوع لقواعد السلوك الدولي _ كما أن الذين أقروا بأن التدخل ينطلق من مُثل وأخلاقيات لم يتطرقوا إلى كيفية إجراء ذلك التدخل سواء كان بالإرادة المنفردة أم الجماعية.
الفصل الرابع
تسييس التدخل الإنساني
أصبح التدخل الإنساني في العقد الأخير من القرن العشرين من وسائل السياسة الخارجية وأثار ذلك إشكالات عديدة من حيث الأساس الذي يقوم عليه التدخل الإنساني على النحو الذي أوردناه، ومن حيث مكوناته وتنفيذه ومن حيث الآراء التي طرحت حوله بحيث لم يصل المهتمون بالموضوع إلى إجماع حتى الآن.
"
التدخل الإنساني أصبح في العقد الأخير من القرن العشرين من وسائل السياسة الخارجية وأثار ذلك إشكالات عديدة من حيث الأساس الذي يقوم عليه التدخل الإنساني
"
وبتقسيم التدخل الإنساني إلى تدخل فردي وتدخل جماعي يمكن القول إن التدخل الذي تم في الصومال والبوسنة يقع تحت طائلة التدخل الجماعي، فالتدخل في الصومال كان تدخلاً إنسانياً جماعياً أممياً بينما كان التدخل الإنساني في البوسنة تدخلاً إنسانياً جماعياً إقليمياً، باعتبار أن الأول تم بواسطة قوات دولية، أما الآخر فقد تم بواسطة قوات حلف الأطلنطي (الناتو).
أما ما حدث من تدخل في الكويت لإعادة شرعية الحكم لدولة عضو في الأمم المتحدة عام 1991 لشن هجمات على العراق فإن ذلك لا يقع تحت طائلة التدخل الإنساني كما أشار لذلك بعض الكتاب (توبياس نوفل) وإنما يقع تحت بند الدفاع الجماعي المنصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة .(15)
وهنا قد يختلط مفهوم الأمن الجماعي بمفهوم التدخل الإنساني لدى بعض الفقهاء إذ يرون في التدخل الإنساني حماية للمدنيين مما يجعل الأمر نوعاً من الدفاع الجماعي عن المضطهدين أو المهمشين كما سبق ذكره، خاصة إذا وجد التدخل الإنساني مدخلاً له من خلال عمليات اللجوء والنزوح التي قد تصاحب العمليات العسكرية.
فالتدخل الإنساني في البوسنة والتدخل الإنساني في جورجيا على التوالي في بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين قد قامت به منظمات إقليمية، ورغم أن كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة قد نفى أن يكون حلف الأطلنطي قد تلقى تفويضاً في حالة البوسنة فإن جماعة الدول المستقلة التي تقودها روسيا قد تلقت تفويضاً للتدخل في جورجيا (كوفي عنان) (16) .
وسواء كان ذلك التدخل أممياً أو إقليمياً بتفويض أو بدون تفويض فإن الرأي الفقهي الغالب أنه لا يوجد حق مقرر للتدخل الإنساني، فليس من حق دولة أو مجموعة من الدول أن تخرق السيادة الوطنية أو الاستقلال السياسي لدولة أخرى بحجة مساعدة شعب تلك الدولة لما قد يكتنف ذلك من دوافع سياسية في الواقع الدولي، ولهذا السبب نجد أن هناك رأي يستلخص من الميثاق ما يمكنه من ذلك التدخل بحجة الدفاع الجماعي الشرعي، أو الدفاع الشرعي عن النفس، كما أن هناك رأياً آخر قد يستند للفصل السابع ما تعلق بالمادة 39 الخاصة بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين باعتبار أن إهدار حقوق الإنسان يهدد السلم والأمن الدوليين.
أما حالة التدخل بغرض الدفاع الشرعي عن النفس والمقصود بها التدخل الفردي فنجد لها بعض الأمثلة في تدخل الهند في باكستان الشرقية عام 1971 وتدخل فيتنام في كمبوديا عام 1992 وتدخل تنزانيا في يوغندا عام 1978 تأسيساً على فكرة التدخل العالمي، أو الاختصاص العالمي لحقوق الإنسان، ونجد أن هذا التدخل تم بواسطة دول مجاورة باستغلال تدفقات اللاجئين على الحدود ونشؤ أوضاع إنسانية تهدد الأمن القومي لدولة اللجوء كما يهددان الأمن الإقليمي والدولي.
وهناك حالات لتجاوز القوات المتدخلة دولياً تدخلاً جماعياً لتفويضها الذي منحته لها الأمم المتحدة، وهي حالة القوات الأميركية في الصومال التي سعت خارج التفويض لتجريد عيديد من أسلحته وكانت النتيجة كارثية على القوات الأميركية وعلى عملية الأمم المتحدة في العام 1993-1994.
إن أكثر ما يعتبر من قبيل الأزمات الإنسانية تدفقات اللاجئين والتي تعتبر مؤشراً قوياً لاضطراب الأوضاع، وعدم الاستقرار سواء في دولة الأصل أو دولة اللجوء أو في الإقليم بصفة عامة، فالحكومة التي لا تستطيع الحفاظ على أمن رعاياها فكأنما توكل الأمر لقوة دولية أو إقليمية للقيام بذلك باعتبار أن ذلك يعتبر مؤشراً لعدم الاستقرار السياسي في دولة الأصل وعدم الاستقرار السياسي في الإقليم، وذلك باستثناء حالتي روديسيا وجنوب أفريقيا اللتين عوقبتا بالطرد من الأمم المتحدة عام 1974.
فإذا كانت الأوضاع الإنسانية منطلقا للتدخل الإنساني الأمر الذي كان على شفا حفرة من ذلك في دارفور فإن الأوضاع الإنسانية في حد ذاتها يمكن تسييسها، فالأزمات الإنسانية تعالج عادة بواسطة عمليات الإغاثة وتعالج عمليات حفظ السلام الأوضاع المضطربة، فإذا ما تعلل دولة المجتمع الدولي باضطراب الأوضاع الإنسانية كنتيجة لوجود أزمة إنسانية فإن الباب ينفتح أما التدخل الإنساني الذي يتعدى حدود التدخل التقليدي بالإغاثة لما وراء ذلك من تدخل لحماية المدنيين.
لقد ظلت المصالح القومية للدول المانحة تحكم عمليات الإغاثة الإنسانية وما قد يستتبعها من تدخل الإنسان، وهذا في حد ذاته يلقي بظلال من الشك على دوافع التدخل الإنساني والتدخل العسكري، ومن أمثلة ذلك نجد التدخل الإنساني الروسي في جورجيا في العام 1991 ثم في العام 2008 والتدخل الإنساني الفرنسي في رواندا عام 1996 حيث جاء تفويض الأمم المتحدة – مجلس الأمن – في ظل تفهم تلك المصالح وعلى العكس من ذلك ما لم يهدد الصراع في رواندا وأفغانستان مصالح الدول الكبرى فإن التدخل لم يكن ليتم، ذلك الأمر يهدد المعايير الدولية للتدخل بالتخريب.
والسؤال المطروح الآن هو كيف يمكن وضع إجراءات ومعايير لحيادية واستقلال الأمم المتحدة عن مصالح الدول الكبرى في عملية التدخل الإنساني؟ بمعنى إعطاء التدخل الإنساني قوة القانون على أساس من العدالة والموضوعية بحيث لا يحدث التدخل بسبب أجندة داخلية للدول الكبرى وفي حالة العدم التعذر بالعبء الإنساني الواقع عليها.
ثم هناك سؤال مطروح وهو هل يحدث التدخل الإنساني لوقف العنف أم لوقف معاناة المتضررين بالمجاعة أو الأمراض والأوبئة؟ لقد أثار بعض المختصين مسألة قوات الأمم المتحدة في البوسنة، فالقوة كانت تسمى قوة الحماية رغم أنها لم تصمم للدفاع عن المدنيين. الأمر الذي حدا ببعض الرافضين للقول بأن القوة كانت مخصصة للدفاع عن النفس أثناء أدائها لتخفيف معاناة المتضررين وليس حمايتهم.
وفي مسألة العون الإنساني في البوسنة تمت ضغوط على المجتمع الدولي للتصرف إزاء هذه الأزمة، وعلى العكس من ذلك حدث التدخل بالنسبة لكرواتيا وسلوفينيا خلال نفس الفترة لأنهما دولتان غنيتان وكان لصندوق النقد الدولي ترتيب فيهما مما حث على إقرار الأوضاع فيهما. لذلك لم نسمع عن مأساة في تلك الدولتين تشابه مأساة البوسنه كذلك الحال بالنسبة لروندا التي برر السكرتير العام للأمم المتحدة فشل التدخل فيها لعدم وجود الرغبة السياسية ولم يثار موضوع الإبادة إلا بضغوط من المجتمع الدولي فانشأت محكمة أروشا الجنائية الخاصة لمعاقبة الجناة عام 1997 . بعد سنة من حدوث النزاع، ولقد جاء التدخل الفرنسي بتفويض من مجلس الأمن تحت مسمى عملية تركواز في يونيو 1996 لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بفتح ممرات آمنه وصلا بملاذات آمنة إلى شرق زائر.
هناك وجه آخر لعمليات الإغاثة وهو إطالة أمد الأزمة على غرار ما حدث في الصومال، حيث أدت الإغاثة إلى تقوية أوضاع لوردات الحرب وتحقيق أهدافهم، مثلما أدى التدخل الإنساني الفردي إلى بسط مناطق النفوذ التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر من جديد في منطقة البلقان ومنطقة القوقاز ومنطقة البحيرات ومنطقة أواسط آسيا.
خاتمة
1- يتضح لنا من خلال سردنا لنظريات وممارسات التدخل منذ القرن السادس عشر وحتى فترة ما بين الحربين العالميتين أن التدخل كان يعكس مصالح الدول، حيث أن معظم الحوارات المعاصرة حول موضوعات التدخل قد ارتبطت بطريقة أو بأخرى بالحقب الماضية المذكورة، سواء كان الأمر يتعلق بالتدخل من أجل المظلومين أو المسحوقين وترك الجاني بدون عقاب، أم تعلق بإساءة استخدام التدخل الفردي على أسس تنطلق من نظرة ذاتية للدولة، أم تعلق بظاهرة حقوق الإنسان وما واجه ذلك من مشكلات تتعلق بحفاظ الدولة على سيادتها رغم أن حدود الدولة السيادية لم تعد تقف حجر عثرة أمام التدخل لحماية حقوق الإنسان، ويأتي في خضم هذه الحوارات ما يمكن أن يقال أن القانون الدولي لا يستطيع أن يقوم بأعمال في مواجهة الأحداث التي تهز الضمير الإنساني كما أنه لا يمكنه أن يسكت عنها.
"
القانون الدولي لا يستطيع أن يقوم بأعمال في مواجهة الأحداث التي تهز الضمير الإنساني كما أنه لا يمكنه أن يسكت عنها
"
بمعنى آخر أنه لا يوجد إجماع فقهي حول ما يمكن ان يُعمل، فأصول التدخل الإنساني وجدت طريقها من خلال مشروعية الحرب ضد الشر أو غير المخلصين للرعاية الكاثوليكية قديماً، وفي الدفاع عن المنظمات والبعثات التبشيرية المسيحية في الشرق في مواجهة الدولة العثمانية، ثم بعد ذلك شهدت معاهدة وستفاليا سنة 1648 إرساء دعائم نُظم أوربية جديدة تحترم مبدأ السيادة، وما تلى ذلك من مبدأ نبذ التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
لقدم اصطدم حق التدخل بتلك المبادئ السيادة، وعدم التدخل، وأصبح التدخل ضرورة في مواجهة حماية رعايا دولة ما في دولة أخرى إذا ما تعرضوا للخطر، حتى ذلك الحق لا يسنده عرف واضح.
ومصطلح التدخل نفسه أصبح مشوشاً من حيث صعوبة التمييز حول ما يقف ورائه من دوافع سواء كانت إنسانية حق أو غير ذلك.
2- ومع حلول النصف الأول من القرن العشرين أصبحت مسألة التدخل أكثر تعقيداً بالإضافة إلى أن التدخل الجماعي من قبل المجتمع الدولي أصبح صعب التحقيق من الناحية السياسية، حيث أن فكرة التدخل الآحادي أو الفردي بواسطة دولة أو التدخل بواسطة مجموعة من الدول لم تجد قبولاً مع نمو اتجاهات التمسك بجرمة الاختصاص الداخلي للدول، فأصبح المؤيدون للتدخل اعتماداً على الممارسات التاريخية قلة.
3- لم يحظر عهد عصبة الأمم ولم يسمح بالتدخل الإنساني بوضوح، يقدمان الهدف الرئيسي هو إقرار السلم من خلال القيود بعدد من التعهدات من بينها عدم اللجوء إلى الحرب وإقرار العدالة واحترام المعاهدات المعقودة في تعامل الدول مع بعضها البعض، إلا أن استخدام القوة في عهد العصبة لم يحظر في حد ذاته وإنما ما قيد هو اللجوء إلى الحرب بحيث طلب من الدول الأعضاء اخضاع نزاعاتهم للتحكيم، والتسوية القضائية أو التحقيق بواسطة مجلس العصبة لفترة لا تتعدى ثلاثة أشهر لحلها، والمقصود بالنزاعات في ذلك الوقت هو ما يبدر من الدول الأعضاء من انتهاكات داخلية لحقوق الأقليات، رغم أن مجلس العصبة لم يظهر بوضوح إمكانية تقديم توصيات للدولة المنتهكة في ذلك الشأن باعتبار أن القانون الدولي يعتبر تلك المسائل من صميم الاختصاص الداخلي للدولة.
4- وكذلك لم يشر حلف باريس أو ما يسمى بميثاق بريان كيلوج الموقع بين وزيري خارجية فرنسا والولايات المتحدة الأميركية سنة 1928، لم يشر للتدخل الإنساني باعتبار أن مضمون ذلك الميثاق يتعارض مع التدخل، إذ أن ذلك الميثاق قد حظر استخدام القوة وحث على اللجوء للوسائل السلمية لحل المشكلات الدولية، ونبذ القوة كأداة لتحقيق السياسة القومية للدولة، وقد خضع ذلك الحظر لكثير من النقاشات واستقر الرأي على أن الأمر يتعلق بحالة الدفاع الشرعي عن النفس.
5- أما بالنسبة لقروشيص فقط نظر كثير من الكُتَّاب المحدثين بعين الشك لرأى ذلك الفقيه حول حق دولة في التدخل لحماية رعايا الدولة المتدّخل لديها في ظل عدم وجود توافق حول شرعية ذلك التدخل، بينما رأي منظرون آخرون أن هذا التدخل يمكن أن يتم بواسطة قوة بوليسية جماعية ولكن بشرط الاستجابة لطلب من رعايا الدولة المتدخل لديها، وفي حالات اضطرارية أو للضرورة القصوى رأى فريق أن أي دولة يمكن أن تتصرف بمبادرة منها.
أخيراً فإن التدخل الإنساني يترك فراغاً يصعب ملئه في النظام القانوني الدولي حيث أن القرن العشرين وبصفة خاصة في النصف الثاني منه قد حظر استخدام القوة على النحو الذي ورد في الفصل الأول من ميثاق الأمم المتحدة .
الهوامش والمراجع
1- Simon Chesterman ,Just War or Just Peace , Humanitarian Interventions and International Law , Oxford University Press, 2001 pp.9.
2- Ibid , p.16
3- Ibid , p.20
4- A.E. Ecclestone, Modern Europe 1789-1960,London G. Bell and Sons Ltd .1967.pp.93
5- قادري عبد العزيز ، حقوق الإنسان في القانون الدولي والعلاقات الدولية ، دار هومة بالجزائر ، 2002 ص 101
6- السيد محمد جبر ، المركز الدولي للأقليات في القانون الدولي العام ، منشأة المعارف بالإسكندرية ، د ت ، ص 255
7- Simon Chesterman, opt ,cit,:p.11
8- السيد محمد جبر ، مرجع سابق ص 260
9- Simon Chesterman,cit,opt.p.29
10- Simon Chesterman,ibid,35
11- السيد محمد جبر ، مرجع سابق ص 422
12- Koffi Annan; The Two concepts of Sovereignty , The Economist journal, Sept.1999
13- Tobias Vogel; The politics of Humanitarian Intervention file; www.//conflicts /the politics of Humanitarian Intervention .htm 3/9/1996.
المصدر
مركز التنوير المعرفي.. الخرطوم
www.tanweer.sd


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.