البرهان يلتقي وفد البني عامر    وزارة العدل تحتسب المحامي العام الأسبق لجمهورية السودان السودان    ريمونتادا باريس تلقي برشلونة خارج دوري الأبطال    دبابيس ودالشريف    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    شاهد بالفيديو.. غرق مطار دبي    قوة مختصة من مكافحة المخدرات نهر النيل تداهم أحد أوكار تجارة المخدرات بمنطقة كنور وتلقي القبض على ثلاثة متهمين    ماذا حدث بالضبط؟ قبل سنة    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    قمة الريال والسيتي بين طعنة رودريجو والدرس القاسي    رونالدو ينتظر عقوبة سلوكه المشين    ولايات أميركية تتحرك لحماية الأطفال على الإنترنت    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    جيوش الاحتلالات وقاسم الانهيار الأخلاقي المشترك    قطر.. متقاعد يفقد 800 ألف ريال لفتحه رابطاً وهمياً    مصر.. ارتفاع حجم الاستثمارات الأجنبية إلى 10 مليارات دولار خلال 2023    خبير نظم معلومات: 35% من الحسابات الإلكترونية بالشرق الأوسط «وهمية ومزيفة»    مواطنو جنوب امدرمان يعانون من توقف خدمات الاتصال    تفاصيل إصابة زيزو وفتوح في ليلة فوز الزمالك على الأهلي    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    شركة تتهم 3 موظفين سابقين بسرقة عملائها    اجتماع للتربية فى كسلا يناقش بدء الدراسة بالولاية    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    ضبط الخشب المسروق من شركة الخطيب    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    الجمارك السعودية: دخول الأدوية مرهون بوصفة طبية مختومة    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما أشبه الليلة بالبارحة
نشر في سودانيات يوم 22 - 01 - 2012


من دروس المسرح وعظات وعبر التاريخ
بقلم : بدرالدين حسن علي
بريد إلكتروني [email protected]
قبل يومين أعدت قراءة مسرحية كنت قد قرأتها قبل نحوأربعين عاما ، وهي مسرحية " الذباب " للمفكر والكاتب المسرحي جان بول سارتر " 1905-1980 " وهي مسرحيته الأولى التي كتبها عام 1943 وكان في الثلاثين من عمره ، إلى جانب مسرحيات أخرى مثل " كين " و " الأيدي القذرة " و " أسرى التونا " و " في مكان مغلق " وغيرها ، وقد حظيت بقراءتهم جميعا بفضل توفر الترجمة العربية للأعمال المسرحية الأجنبية خاصة سلسلة روائع المسرح العالمي التي بدأ صدورها في مصر في الستينات من القرن الماضي على ما أظن .
وقد يسأل سائل : لماذا أعدت قراءة هذه المسرحية تحديدا ؟ وأقول لأنني رغبت في يوم ما إخراجها للمسرح القومي بأم درمان ، وتشاورت مع بعض أصدقائي في أواخر الستينات ووجدت منهم ترحيبا كبيرا ، والأمر الثاني لأن ابن خالي كان قد شاهد عرضا مسرحيا لها في مسرح " لاسيتي " في فرنسا عام 1943 من إخراج الفنان المسرحي الفرنسي شارل دولان وحازت على إعجابه فحكى لي عنها ، أما الأمر الثالث فلأنني مغرم بمسرح المقاومة ، أو بمعنى آخر الفن الملتزم جانب الإنسانية بشكل عام ، ومسالة مسؤولية الكاتب المبدع في الأحداث الكبرى ، وهو ما دفعني في السبعينات نحو الإتجاه لمسرح المنظر والمفكر والكاتب المسرحي برتولد بريخت أو بريشت كما يفضل البعض ، لدرجة أن بعض اصدقئي المسرحيين ينادونني " بدر بريشت " والذي أخرجت له في إمتحان التخرج فصل من مسرحيته الشهيرة " السيد بونتيلا وتابعه ماتي " بعد قراءتي لكتابه المهم المسرح الصغير أو " البرلين إنسامبل " وكانت من بطولة الفنان المسرحي الطيب المهدي ونعمات عبد الرحيم صبحي وقدمت على مسرح الفنون الشعبية بام درمان ، ويومها إكتظت صالة المسرح بالجمهور وحصلت بسببها على المرتبة الأولى في الإخراج ، أما الأمر الأخير فلأن مسرحية " الذباب " تتطابق تماما مع ظرفنا الراهن سودانيا وعربيا وعالميا على الرغم من أن أحداثها تدور في اليونان القديمة المعروفة بأساطيرها وقصصها الخيالية التي ألهمت كتابا وشعراء كبار أمثال إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس ، وقد كنت أيضا معجبا بمسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الإغريقي سوفوكليس وما زلت حتى اليوم أحفظ عن ظهر قلب مسرحيته " أوديب ملكا " .
قال لي ابن خالي أن مسرحية " الذباب " لسارتر كان يعني بها الإحتلال والقمع الألماني الذي إشتد في تلك السنوات في فرنسا ، وتصاعد المقاومة الفرنسية للوجود الألماني ، وقال لي على ما أذكر أن ذلك الوجود لم يكن عسكريا أو سياسيا فقط ، بل طال حتى الحياة الفكرية والفنية ، بل قال لي أيضا أن الجمهور المسرحي كان يخرج عقب إنتهاء العرض المسرحي في مظاهرة حاشدة ضد الإحتلال الألماني لبلدهم تماما مثلما كان يحدث من طلاب جامعة الخرطوم عقب مشاهدتهم لمسرحية " نبته حبيبتي " لهاشم صديق ، مما دعاني كي أسأل ابن خالي كيف غضت الرقابة الألمانية الطرف عن تلك المسرحية وكيف سمحت بعرضها أصلا ؟ وكان تساؤلي مبنيا أساسا على تلك السنوات الأولى من العروض المسرحية التي إنتظمت بالمسرح القومي بأم درمان على يد الفنان الراحل المقيم الفكي عبد الرحمن بدءا من عام 1967 ، وأذكر جيدا أن الإنقلاب العسكري الذي قاده جعفر نميري وأتى بحكومة مايو 1969 إستهدف ضمن ما إستهدف فن المسرح ، فمنعت وأوقفت مسرحيات مثل " المشي على الرموش " لأبراهيم شداد ، وحصار الخرطوم لفضيلي جماع ، و" حكاية تحت الشمس السخنة " لصلاح حسن احمد وناس بلد فاطمة وفويسك وأحلام جبرة وغيرها ، وعندما تم تعييني سكرتيرا للجنة النصوص بالمسرح القومي قمت بإجازة النصوص المسرحية التي كانت مرفوضة بقرار من جهاز أمن جعفر نميري وساعدني في ذلك أساتذة أمثال د. علي عبدالله عباس و د. خالد المبارك وغيرهم ، وهذا النشاط تحديدا كان السبب الرئيسي لفصلي من الخدمة في مايو 1975 بخطاب مطول ممهور بتوقيع وزير الدولة بالإعلام آنذاك بونا ملوال ، وهو ما دفعني للهجرة ، وعندما عدت للوطن عام 1980 رفض د. خالد المبارك إعادتي للعمل مدرسا بمعهد الموسيقى والمسرح وكان وقتها عميدا للمعهد على الرغم من أن الفكي عبد الرحمن طلب مني أن يقوم هو بالمهمة إنابة عني لما له من فضل على د. خالد المبارك وفي مقدمة ذلك تعيينه لخالد بالمسرح القومي مباشرة بعد تخرجه في جامعة الخرطوم .
تعود أحداث مسرحية " الذباب " إلى مدينة آرغوس بعدما إستتبت السلطة في المدينة لإيغست بعد أن قتل أجاممنون والد اوريست وإلكترا وتزوج من كليمنسترا زوجة الملك المغدور ، وفي بحثه عن مسرح سارتر يقول الناقد المسرحي إبراهيم العريس أن إيغست أقام منذ مقتل الملك السابق نظاما يقوم على العنف والقمع ، وها هو اليوم أوريست يعود الى المدينة بعد كل تلك السنين... متطلعاً الى الانتقام. لكنه لا يعود وحده، بل ها نحن نكتشف ان جوبيتر، وقد تنكر بزي رجل عجوز ذي لحية، يتبع خطواته خطوة خطوة. وحين يصل أوريست الى المدينة متبوعاً بجوبيتر الذي يعتقده مسافراً في ركب الطريق... لا يجد في انتظاره في المدينة غير رفوف من الذباب الذي يطن في الجو وينقض على أي شخص يمر. واذ يبدي اوريست انزعاجه من هذا الذباب، يقول له جوبيتر انه ذباب ذو قيمة رمزية: انه انما يمثل الندم الذي يتآكل أهل آرغوس على مقتل ملكهم آجاممنون الذي لم ينسوه أبداً... وها هم لا يزالون بعد كل تلك السنين يذكرونه .
بعد فترة من وصول أوريست الى المدينة تلتقيه أخته الكترا، ولكن من دون أن تتعرف عليه ، ومع هذا تشعر ان في امكانها مفاتحته بمكنونات قلبها ولا تتردد في التعبير أمامه عن كراهيتها لإيغست وعن يقينها بأنه هو قاتل أبيها. وهو أمر لا يبدو أنه غائب عن بال أوريست. وهو يقول هذا لإلكترا من دون مواربة... لكن هي لا تكتفي بهذا، بل تقف في الساحة العامة، خلال احتفالات صاخبة تسمى «احتفالات التكفير» وغايتها احياء ذكرى اجا ممنون، تقف خطيبة في الجموع التي يفرض عليها الاحتفال ابداء فعل الندامة الجماعية، وتدعو الشعب الى الثورة، ليس فقط من أجل اجاممنون واحتجاجاً على اغتياله بل أيضاً تطلعاً الى الحرية التي غابت منذ استتب النظام والأمر للطغيان. وهذا الاحتفال الذي يشهد كل ذلك الصخب، هو بالطبع العمود الفقري في بناء المسرحية، خصوصاً ان التقاليد تقول ان الموتى يبعثون خلال الاحتفال، وخصوصاً أيضاً أن الذباب يواصل طنينه في الجو، فيما الجموع تشهق باكية نادمة تبحث عن سبيل للخلاص.
لقد كرست إلكترا حياتها من أجل التخلص من ايغست وعلى اوريست مساعدتها. هذا السبيل، هو ما تتحدث عنه الكترا في خطبتها التي تعتبر في الأصل من أعنف الخطب السياسية في المسرح اليوناني القديم، لكن جان بول سارتر حولها الى خطاب شديد المعاصرة الآن، خطاب يحمل دلالات سياسية راهنة تصب مباشرة في صلب المقاومة المطلوبة ضد الاحتلال الألماني لفرنسا في تلك الفترة ، وضد سلطة الماريشال بيتان الذي صار رمزاً لذلك الاحتلال ورمزاً للخيانة. غير ان أحداث المسرحية لا تقف عند هذا الحد... اذ ما ان تنهي الكترا خطابها حتى يتدخل جوبيتر في الأمر بدوره مؤلباً الجماهير، ما يدفع ايغست هنا الى الاحساس بالخطر فيطرد الكترا التي تلجأ الى معبد كان اوريست مختبئاً فيه. وهنا، هذه المرة، يكشف أوريست أمام أخته حقيقة شخصيته... واذ يتعانقان، يفاتحها اوريست بأنه راغب ازاء كل ما يحدث في أن يأخذها بعيداً من آرغوس لكنها ترفض ، وتفلح الكترا في تحويل موقف شقيقهامن التردد الى القرار. ويعلن انه لا بد من قتل ايغست ، وعلى الأقل حتى يتوقف الذباب عن الطنين. ولكن الذي يحدث هو ان الكترا، ما إن يتولى أخوها قتل ايغست وزوجته كليمنسترا (أمه) حتى تحسّ بالرعب ازاء هذا القدر من الاجرام... وتلجأ الى جوبيتر كي ينقذها من فظاعة ما يحدث... فيكون جوبيتر خير مخلّص لها، فيما تلاحق جماعة الآرينيين (وهم آلهة أشرار يتولون عادة قمع المجرمين) أوريست بغية معاقبته على ما اقترف.
في اليوم التالي أعدت أيضا قراءة مسرحية البير كامو المعنونة"كاليجولا " وهي من المسرحيات الرائعة في تاريخ المسرح العالمي ، وكنت قد قمت بإخراجها وتمثيل الدور الرئيسي "كاليجولا " فيها خلال إحدى العطلات الصيفية لمعهد الموسيقى والمسرح ، وأذكر جيدا عندما صرخت قائلا " أريد أن احصل على القمر !!!! .
يعد "البير كامو" من أشهر المفكرين الفرنسيين الذين ظهروا على مسرح الفلسفة والأدب. ولد " كامو " في السابع من شهر نوفمبر عام 1913 في الجزائر ، وتوفى في الرابع من شهر يناير عام 1960 في فرنسا. كان البير كامو كاتباً وفيلسوفاً فرنسياً من الطراز الرفيع. ينتمي لأسرة عمالية ، درس الفلسفة في جامعة الجزائر، وكانت نشاطاته متعددة المجالات، منها المسرح وفن الكتابة الروائية والعمل في الصحافة اليسارية بالإضافة إلى ممارسته لنشاطات اجتماعية وسياسية مختلفة. وتقول سيمون دي بوفوار حول نصوص "كامو" المسرحية "إن نصوص كامو المسرحية، تبرز فيها شخصية كامو الحقيقية وقيمته الأخلاقية وأفكاره". أما "كروشاك"، فيقول عنه: إن إحدى المشكلات التي واجهته باعتباره كاتباً مسرحياً، هي تصوير شخصيات متفردة ومقنعة في الوقت الذي تعالج فيه مشكلات فلسفية. إنها أسئلة الوجود والعدم، وقيم الحرية والإرادةالتي كانت تتردد على الدوام في مسرحيات عدد كبير من الكتاب الذين سبقوا كامو وعاصروه مثل آنوي وسارتر وسيمون دي بوفوار، لكن نصوصه أبرزت محاولات لإعادة العمل على هذه الأسئلة وفق المفهوم الإغريقي للمسرح. فالمواقف المحرجة التي تجابه الشخصيات والقدر الذي يقتحم حياتهم بشكل مفاجئ، هي من سمات التراجيديا الإغريقية التي حاول محاكاتها. توصلنا جميع مؤلفات "البير كامو" إلى حكايات ذات مغزى وإلى أساطير تراجيدية للأخلاق، سادت في الكون عندما كان الإنسان فيها شديد النرجسية ويعتبر نفسه ممثلاً للحقيقة، شاقاً طريقه على هذا الأساس .
كتب كامو مسرحية "كاليجولا" عام 1938 وهو في سن الخامسة والعشرين، وإلى يومنا هذا يعدها النقاد أفضل مسرحياته. بالإضافة إلى كونها أكثر إثارة للجدل والشهرة، نجد فيها عصياناً شيطانياً ضد القدر، قدمه لنا مؤلفها وهو في الطريق للبحث عن معالجة لمشكلة الحرية. لذا أقدم كامو على اختيار حاكم مطلق كبطل لمسرحيته هذه-هو الذي يشرع القوانين، وهو الذي يخرقها ويبدل فيها كما تهوى نفسه، وغالباً ما يزدريها، متباهياً بأنه لم يتوقف قط عن تعليم قومه دروساً في الحرية.
حسنا ما هي مناسبة الحديث عن هاتين المسرحيتين ؟
كما قلت سابقا أنني مغرم بفن المسرح الملتزم والذي يعكس الأحداث الكبرى ، مغرم بالمسرح الذي لا يشيخ والذي تجد فيه دائما صورة عن الواقع الراهن ، والمسرحيتان تصلحان لوصف الراهن ، ولذا من المهم ربطهما بشخصين مهمين في التاريخ وهما الطاغية نيرون والجنرال فرانكو .
لتقريب الصورة أكثر كنت قد قرأت مقالا للكاتب عباس الشريف في صحيفة سودانيات الإلكترونية ، يقارن فيه بين نيرون وعمر البشير ، يقول الشريف عن نيرون :
" الإمبراطور نيرون واحد من الحكام الطغاة المجانين، الذين صاروا مضرب الأمثال فى الإشارة للطغاة والمستبدين من حكام العالم، والذين أذاقوا شعوبهم ألوانا من الاضطهاد والتنكيل والإذلال، بل الإبادة الجماعية ن وتعاملوا مع شعوبهم باعتبارهم أعداءً لإمبراطورياتهم أو عبئا فائضا على ملكهم. ونيرون إمبراطور رومانى فطر على الوحشية والجنون، هو مولود فى 37م وورث الوحشية عن أمه وتوفى والده وكان لايزال طفلاً صغيراً، وتزوجت أمه من الإمبراطور كلوديوس الذى تبنى نيرون ومنحه اسمه وزوّجه ابنته أوكتافيا. وقد تبوأ نيرون عرش روما ، بعدما دست أمه السم لزوجها الجديد كلوديوس لكى يعتلى ابنها العرش، وشهدت سنوات حكمه الأولى استقرارا، بفضل توجيهات معلمه «سينيكا» الذى ظل يرشده للصواب، لكن ما لبث نيرون أن قام باتباع أساليب العنف والظلم التى أذاقها لأبناء شعبه، فقتل وعذب وقهر، بل امتد بطشه لأقرب الناس إليه، فقتل أمه وأخاه ومعلمه «سينيكا»، بسبب مجموعة المنافقين والمنتفعين المحيطين به، والذين أوغروا صدره على معلمه العظيم، فعقد نيرون العزم على قتله، وعلم «سينيكا» بهذا وقتل نفسه، كما قتل زوجته أوكتافيا لسبب يدل على تطيره وجنونه، حيث كان يؤدى دوراً فى مسرحية، وكان يمسك بيده صولجاناً فسقط من يده، وقامت زوجته بمدح أدائه فى المسرحية، لكنها اعترضت على سقوط الصولجان من يده ودفعت حياتها ثمنا لهذه الملاحظة (النقدية)، ثم تعاظم ظلم واستبداد نيرون، وأذاق شعبه صنوف العذاب والاضطهاد، فضلا عن القتل غير المبرر بالجملة، ثم توج جنونه بإضرام النار فى روما وقد دمر الحريق نحو ثلثى مدينة روما وانتشر فيها سريعا، واستمرت النيران مندلعة لمدة خمسة أيام ونصف، ولم يكن قد بقى المزيد من الوحشية التى تثير شعبه عليه، فقد بلغت كراهية شعبه وكراهية ملوك أوروبا له مداها، عندما بدأ يحرض الشعب على الشعب ملصقا تهمة حرق روما للمسيحيين، واجتمع الناس ورجال المملكة على عزله، فتم عزله وحُكم عليه بالقتل ضرباً بالعصى، وأبى أن يُقتل بيد شعبه فقتل نفسه فى 68م.
أما الجنرال فرانكو وأسمه الكامل فرانسيسكو فرانكو (4 ديسمبر 1892 - 20 نوفمبر 1975)، قائد عسكري تولى رئاسة إسبانيا من أكتوبر 1936 وحتى وفاته في سنة 1975، وصل إلى السلطة بعد الحرب الأهلية الإسبانية (1936 - 1939).
ففي صيف سنة 1936 وتحديداً في 18 يوليو 1936 قام فرانكو بانقلاب عسكري ضد حكم الجبهة الشعبية الذي كانت إسبانيا تحت حكمه ، وكانت تتكون من حكم الديمقراطيين والاشتراكيين وقد قاومت الجمهورية الإسبانية الثانية هذا الانقلاب ومن هنا بدأت الحرب الأهلية الإسبانية، واستمرت الحرب لمدة ثلاث سنوات منذ سنة 1936 إلى سنة 1939 وبلغ عدد ضحاياها مليون من البشر. وانتهت هذه الحرب بانتصار الجنرال فرانسيسكو فرانكو بمساعدة أساسية من هتلر وموسوليني. وقد إعتمد فرانكو في جيشه على قوه من الجنود المغاربه الريفيين (سكان الريف) يبلغ تعدادها خمسين ألف جندي بقياده ضابط اسمه المارشال محمد أمزيان، وقد ظل صديقا له ومقرباً إليه وحارساً له حتى النهايه وانتصاره النهائي في هذه الحرب في سنه 1939، وقد اتاح له هذا الانتصار أن يحكم إسبانيا حكما ديكتاتورياً لمدة ستة وثلاثين عاماً متواصلة حتى وفاته سنة 1975 وقد كان عمره آنذاك 83 عامًا، ويقال أنه في آخر أيامه كان مريضا مرضا شديدا وعلى وشك الموت وهذا ما كانت تذيعه وكالات الأنباء ثم يعود إلى وعيه ، ومرة ثانية يذاع عن إحتضاره إلا أنه يعود إلى وعيه فيرى طبيبه إلى جانبه ويسمع هتافا خارج القصر ، فيسأل طبيبه عن مصدر الهتاف فيقول له الطبيب إنه الشعب الإسباني يودعك يا سيدي ، فيقول فرانكو : ليه هو الشعب الإسباني مسافر وين ؟
حكم فرانسيسكو فرانكو إسبانيا عن طريق حزب الفلانخي أو حزب الكتائب (وهو نفسه الحزب الذي أراد الزعيم اللبناني بيار الجميّل تقليده فأنشا في لبنان حزبا باسم حزب الكتائب) وقد قلد فرانكو هتلر وموسوليني في إنه جعل نفسه زعيما وأبا لإسبانيا واسمى نفسه الكاوديو أي زعيم الأمة (كما اسمى هتلر نفسه الفوهرر وموسوليني لقب نفسه باسم الدوتشي وهي كلمة إيطالية لا تختلف في معناها عن كلمة الفوهرر أو الكوديللو.
أخلص من كل ذلك إلى تقرير نشرته صحيفة الواشنطن بوست مؤخرا عن أسوأ عشرين ديكتاتورا على قيد الحياة او تم قتلهم .
ذكر التقرير أن هناك أكثر من سبعين دولة في العالم تحكم من قبل طغاة يتبنون نظم حكم سلطوية استبدادية ضد مواطنيهم، ولا يمكن التخلص منهم عن طريق الوسائل الشرعية أو الديمقراطية. ومن صفات هؤلاء طبقا لواشنطن بوست قمعهم لحرية التعبير والدين وحق المواطنين في تلقي محاكمات عادلة. بعض هؤلاء الطغاة يسمحون بممارسة التعذيب وتصفية معارضيهم وتجويع شعوبهم.
أعتمد تقرير واشنطن بوست السنوي في إعداد القائمة على مصادر مثل تقارير منظمة العفو الدولية، وهيومان رايتس واتش، ومراسلون بلا حدود، ووزارة الخارجية الأمريكية .
وخلت قائمة هذا العام من اثنين من مستبدي قائمة العام المنصرم واحد بسبب الوفاة، وهو صابر مراد نيازوف رئيس تركمانستان السابق، والثاني هو الرئيس الكوبي المريض فيدل كاسترو، والذي سلم السلطة إلى أخيه في 31 يوليو 2006. وقد احتفظ الرئيس السوداني عمر البشير بموقعه في قائمة تقرير واشنطن بوست كأسوأ ديكتاتور في العالم تماما مثل تقرير عام 2006.
وذكر التقرير أن البشير الذي يبلغ من العمر 63 عاما، ويحكم السودان منذ عام 1989 حل في المركز الأول بسبب انتهاكه المتواصل لحقوق الإنسان، خاصة في إقليم دارفور. وأضاف التقرير أنه خلال السنوات الأربع الماضية قامت القوات والمليشيات المتحالفة مع نظام البشير بقتل 200 ألف شخص في إقليم دارفور ، كما تم تشريد وتهجير ما يزيد على 5 ملايين سوداني من ديارهم، وفرار أكثر من 700 ألف خارج السودان ، وقد شاهدت بام عيني شريط فيديو للرئيس عمر البشير وهو يرقص باستمتاع شديد مع وداد بابكر زوجة المرحوم ابراهيم شمس الدين ، وهنا تذكرت جعفر نميري الذي لم ينجب وقارنته بعمر البشير الذي لم ينجب أيضا ، وقلت في نفسي ما هذا الحظ العاثر الذي يجعل رئيس السودان بلا أطفال !!!
بعد عمر البشير وكيم جونج رئيس كوريا الشمالية، وعلى خامئيني مرشد الجمهورية الإيرانية، وهو جيناتو الرئيس الصيني، حل العاهل السعودي الملك عبد الله خامسا في قائمة أسوأ مستبدي أو طغاة العالم.
وذكر التقرير السنوي لواشنطن بوست أن الملك عبد الله البالغ من العمر83 عاما، والذي يحكم المملكة فعليا منذ عام 1995 كان رقم 7 في تقرير العام الماضي.
وجاء ضمن قائمة المستبدين العشرة الرئيس الليبي معمر القذافي البالغ من العمر 64 عاما وحكم ليبيا منذ عام 1969 أي لأكثر من أربعين عاما ، وهي أطول مدة حكم لزعيم في العالم بعد فيدل كاسترو وعلي عبدالله صالح وحسني مبارك ،. وقال التقرير إن القذافي الذي وصل إلى الحكم وهو في السابعة والعشرين، قضى ما يقرب من عقد من الزمن في عداء مستحكم مع الولايات المتحدة. ولفترة طويلة كانت ليبيا ضمن القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب ، وهو أيضا حال السودان الموضوع على لائحة الإرهاب .
بشار الأسد البالغ من العمر 41 عاما ووصل إلى السلطة خلفا لوالده عام 2000، أحتل المركز العاشر في تقرير هذا العام ، متقدما ستة مراكز عن ترتيبه في تقرير العام السابق. الانتقادات الرئيسية للأسد هي تدخله في الشأن اللبناني، بالإضافة إلى إحكام سيطرته على الجيش والأجهزة الأمنية والاستخباراتية في بلاده، حيث ذكر التقرير إن نظام الأسد متهم بالوقوف وراء سلسلة الاغتيالات السياسة التي شهدها لبنان مؤخرا. واشار التقرير إلى طبيب العيون الذي كان يقوم بالدراسة في لندن عندما استدعاه والده الديكتاتور الراحل حافظ الأسد في عام 1994 لبدء تدريب الابن على حكم البلاد على حد تعبير التقرير.
وعلى الرغم من كل ذلك فهؤلاء الطغاة هم الأخيار في نظر البعض والذين أرسلتهم العناية الإلهية لإنقاذ البشرية ، ذلكم هو المسرح المقاوم الملتزم ، وتلك هي عظات وعبر التاريخ ، وما أشبه الليلة بالبارحة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.