شاهدت على محطة تلفزيون (بي بي سي) شاب سوداني في مقتبل العمر تبدو عليه النعمة وفي كامل الأناقة، وهو يجلس الى جانب مضيفه في برنامج خُصص لمناقشة موضوع الحرب التي تدور بمنطقة "هجليج"، قلت في نفسي (يا ربي ده يكون نجل منو في البهوات !!) ثم ما لبث مضيفه أن قام بتقديمه وهو يقول: "نرحب بضيفنا الأستاذ/ محمد عكاشة المستشار السياسي لسفارة السودان بلندن". في حديثه، قال الشبل السياسي "عكاشة" ضمن ما ذكر: "أنه لا يمكن عودة الوفود للتفاوض بين السودان ودولة الجنوب، ولن يقوم الرئيس بزيارة جوبا لمناقشة قضايا الخلاف بين البلدين بعد حدوث التطورات الأخيرة بمنطقة هجليج، ومن الممكن اعادة النظر في هذا الموقف اذا توقفت العدائيات ضد السودان" وقول "عكاشة" يتسق مع ما قامت باعلانه حكومة الخرطوم بالغاء زيارة الرئيس البشير التي كانت مقررة نهاية هذا الشهر، (رغم أن الوفد التفاوضي فد عاد الة أديس أبابا لمباحثات تقتصر على ملف الحدود بحسب تصريح الحكومة). ومثل هذه المواقف تكشف اختلال (منهج) الانقاذ في معالجة قضايا البلاد، وهي - الانقاذ - تقوم بتوريث منهجها المعطوب جيلاً بعد جيل لأبنائها بالتلقين وتغييب العقل، دون أن يكون لدى أجيالها الجديدة أي مساحة للتفكير المستقل الذي يخالف الخط الذي تسير عليه الحكومة،، فألانقاذ لها نوع واحد من الكلام، لا يختلف اذا قال به (الجاز) من جيلها القديم أو قال به واحد من زمن ناس (عكاشة). المنطق السليم يقول أن الذي يحمل البشير للذهاب الى جوبا أصبح بعد اندلاع حرب "هجليج" مطلوباً منه بأكثر مما كان قبل حدوثها، وأن استمرار العدائيات يقتضي تكثيف المفاوضات لا وقفها، فالمباحثات السياسية توفر من الحلول ما تعجز الحرب عن تحقيقة، بلا تكلفة تُذكر، ولا أرواح تُزهق، وهذا ليس قول مرسل أو نظري، فقد انسحب جيش حكومة جنوب السودان من منطقة هجليج (وكان لا بد له أن يفعل) نتيجة التحركات الديبلوماسية التي قامت بها الحكومة الاثيوبية تحت ضغط أمريكي واستجابة لقرار مجلس الأمن، لا خوفاً من التعبئة التي تحشدها (لجنة شيخ علي) بتكليف من الرئيس، و لا يمكن حساب الفرق في النتائج التي خرج بها العمل السياسي في ايقاف الحرب بهذه الطريقة وهي لا تُكلف غير ثمن وقود الطائرة التي تحمل المبعوثين والمكالمات الهاتفية التي تجري فيما بينهم، في مقابل الأهوال التي كان يمكن أن تسببها منازلة الجيشين في حرب تحصد أرواح الآلاف من الطرفين وتقضي على ما تبقى في خزينتيهما من أموال اذا كان فيها ما تبقى من الأساس. فالصراع بين السودان ودولة الجنوب يشبه عراكاً بين (أقرعين) يحاول كل منهما نتف شعر الآخر، فالدولتان منهكتان اقتصادياً وهما عاجزتان عن توفير الخبز الحاف لمواطنيها، وفي حال اندلاع الحرب الشاملة بين الدولتين فسوف لن تكون حرباً سهلة، فهي ليست مثل حرب الميل أربعين، التي كان يخوضها الشمال ضد مليشيات يحمل أفرادها أسلحة شخصية على أكتافهم وهم يسيرون على أقدام حافية وبملابس مهترئة، فدولة الجنوب لديها اليوم جيش نظامي يمتلك المدرعات والآليات والمدفعية ومنصات اطلاق الصواريخ وخطوط امداد لا تنضب بدعم من الغرب واسرائيل التي أعلنت حكومة الجنوب في أنها لا تجد حرجاً في التعاون معها. و المشاكل التي بين الشمال والجنوب ليست بأعقد مما يجري بين فلسطين واسرائيل، ومع ذلك فقد ظل القادة الفلسطينوين يفاوضون اسرائيل دون أن تتوقف الفصائل الفلسطينية من تفجير أوتوبيس في تل أبيب كلما تتاح لهم فرصة، ويطلقون عليها صواريخ "البسٌام" كلما أنتجت منه قطعة، والمدافع الاسرائلية ترد عليها بأقسى منها، فالحرب التي تحقق الانتصار الكلي والهزيمة التي تخلف الاستسلام انتهت بنهاية الحرب العالمية الثانية. المشكلة في منهج الانقاذ أنه يقوم باجراء التجربة المعملية على الجسم الآدمي قبل أن تُجريها على جسد الفئران ، فهي كالأب الذي يهدم البيت لتحسينه ويترك أهله في العراء ثم يبدأ في البحث عن المال الذي يشتري به الطوب، وهذا المنهج ليس بجديد على الانقاذ، وهو ليس قاصراً على دنيا المعارك التي تدمنها، فهو المنهج الذي ظل يلازمها منذ أن تسلمت الحكم، فقد هدمت مشروع الجزيرة وباعت ممتلكاته ومحالج القطن كحديد كخردة بدعوى عدم جدوى زراعة القطن الذي أدخله الاستعمار، واعتقدت - دون أيٌ تجارب علمية - أنها تستطيع تحويل المشروع لانتاج االقمح والخضروات لتكون (سلٌة) غذاء العالم، فأضاعت المشروع وأحالته لأرض بور، ثم طفقت تستورد القمح والبصل والخضروات من دول الجوار. ومنهج الانقاذ هو الذي قادها لصرف كل موارد البلاد على انتاج البترول في أرض الجنوب وأنفقت مثلها في بناء خطوط نقل البترول والمعامل ومحطات التصفية، وحين اكتمل المشروع خسرت الأرض والبترول معاً، وأصبحت تلك التجهيزات بلا معنى ولا قيمة، وبالمثل، قاد منهج الانقاذ لتوقيعها لاتفاقية سلام (معطوبة) لوقف الحرب مع الجنوب وأشعلت عوضاً عنها ثلاثة حروب في أجزاء أخرى من أرض الوطن، ولم تتوقف حرب الجنوب. والمشكلة الأخرى عند الانقاذ، أنها لا تتعلم من أخطائها، فمن الأسباب القوية التي دفعت بها للانقلاب على النظام الديمقراطي وفق البيان الأول الذي تلاه الرئيس البشير صباح 30 يونيو 1989، أنهم جاءوا للسلطة لأن الحكومة المدنية فشلت في حسم التمرد في الجنوب، وقال البشير في بيانه أنهم استلموا السلطة لأنهم يعرفون كيف يحسمون المعركة ويقضون على التمرد من لغاليغه في غضون أسابيع لأنهم (عساكر) يدركون كيف تدار الحروب، فاذا بالحرب تستمر في عهدهم أكثر من 15 سنة دون أن تتمكن الانقاذ من حسمها، ولم يقاتل قيها الجيش بمثلما قاتل (المدنيين) من ضحايا الخدمة الالزامية. وهناك سؤال لا بد له من اجابة، ما الذي يجعل الانقاذ تُظهر كل هذه الهمٌة والنخوة والغيرة على تراب الوطن ويعلن رئيسها بأنهم على استعداد لارسال (18) ألف نفس بشرية للدار الآخرة في سبيل الدفاع عن الحدود الجنوبية، ثم تغض الطرف كلياً عن مجرد محاولة سترداد اقليم كامل مضى بأهله وزرعه وضرعه (حلايب وشلاتين) تحت الاحتلال المصري في وضح النهار تحت أعين الانقاذ، وما الذي يجعل الانقاذ تقصف المحتل في الجنوب بالطائرات والراجمات، وتهادي المحتل في الشمال بالأغنام والأبقار وتبادله القبلات والأحضان!! وليست مصر وحدها التي تجاسرت على أرضنا لتحتلها بهذه السلاسة والسهولة، فالحكومة الاثيوبية – هي الأخرى – قامت باحتلال مساحات واسعة من الأراضي الزراعية بمنطقة (الفشقة) جنوبالقضارف، وقامت بضمها الى أراضيها بقوة السلاح، دون أن تقوم الانقاذ بتقديم عرضحال شكوى بشأن أرضنا المسلوبة لدى هيئة أممية !! في الوقت الذي اتجهت فيه استثمارات رجال الانقاذ صوب أديس أبابا بحسبما كشفت عنه الأخبار خلال الفترة الأخيرة (عرض تلفزيون النيل الأزرق حلقة بعنوان "نذهب بعيداً" برعاية شركة حفريات سودانية تحدث باسمها شخصيات انقاذية عن نجاح الشركة في نقل التكنلوجيا السودانية لخدمة الشعب الاثيوبي في توفير مياه الشرب قبل أن تعرض الكاميرا رقصات هز الوسط الاثيوبي في حضور السفير المدهش). اننا لا نقول بأن نجعل من بلادنا أرضاً سائبة، بل ينبغي الدفاع عن كل شبر فيها بكل ما نستطيع، ولكن لا بد من النظر في السبب الذي جعل أرضنا تحت نيران الطمع عند الآخرين، فالمرأة حينما تتكالب عليها عيون الرجال لا بد لها أن تعرف العيب الذي يفتح عندها الشهية فتستره لتكف عنها العين، والذي جعلنا نعيش هذا الضعف هو حكم الانقاذ الذي يجثم على أنفاسنا دون أن تدرك كيف تدير شئون الدولة، فهي التي جلبت لنا كل هذا الهوان والمذلة، فقوة البلد لا تأتي من عتاد جيشها، وتأتي من حكمة القائمين على أمرها وحُسن ادارتهم لشئون البلاد، والانقاذ ليس من بين أهلها حكيم أو رجل دولة. لا يمكن لدولة أن تمضي للأمام ورئيسها مطارد دولياً، ومهما تغنى أهل الانقاذ بوصف الرئيس بأنه (أسد أفريقيا)، وحاولوا التهوين من تأثير ذلك على أدائه كممثل للبلاد، الاٌ أن الحقيقة تقول بأن (الأسد) حين يتم احتجازه داخل (قفص)، يستطيع الأطفال الاقتراب منه ويلقون اليه ب (اللب) من بين قضبان الحظيرة، فالرئيس البشير لا يستطيع مباشرة مهامه الرئاسية على الوجه الأكمل في ظل هذا الحصار مهما فعل، فهو لا يستطيع زيارة الدول التي تملك الحل والعقد، وترفض وفود تلك الدول مقابلته أو حتى مصافحته حين تزور السودان. الأصل، أن مجرد الاتهام - لا الادانة - يقتضي من يطاله التنحى عن منصبه حتى لو كان الاتهام باطلاً، ما دام وجوده في دائرة الاتهام يعود بالضرر على غيره ويؤثر على سمعة وظيفته ومقدرته على القيام بها ، فحينما وجهت تهمة التحرش الجنسي - بالباطل - في حق المستر (استروس) مدير صندوق النقد الدولي والتي افترت بها عليه عاملة نظافة في فندق بمدينة نيويورك قبل بضعة أشهر، تنحى الرجل عن منصبه (وهو لا يقل أهمية عن منصب رؤساء الدول) بمحض اختياره أثناء سير التحقيق وقبل أن توجه اليه التهمة بشكل رسمي، وحين كشفت السلطات عن حقيقة بطلان التهمة التي لفقت بهدف التكسب والابتزاز، لم تعرض عليه ادارة صندوق النقد الدولي العودة لمنصبه، ولم يحاول هو ذلك، فقد كان في ضعه على (التخشيبة) لعدة أيام وظهوره على شاشات التلفزيون وهو مقيد اليدين ما يكفي لابتعاده نهائياً عن المنصب والنظر الى من يخلفه فيه، فالهيبة في مثل هذه الوظائف اذا فقدت لا تسترد. ان الوصول لحلول للمشاكل التي يعاني منها السودان سواء على صعيد العلاقة مع الجنوب والحصار الاقتصادي المضروب على السودان وملف اعفاء الديون كلها مرهونة بترجٌل الرئيس عنمقعد الرئاسة، وعليه ان كان فعلاً (أسداً) أن يفدي شعبه بمنصبه، فليس من المقبول أن يدفع الشعب بأسره ثمن أخطائه، وفي عرف أهل السودان، يقوم المواطن (غير الأسد) بتسليم نفسه للشرطة اذا كان متهماً في قضية وعلم أن أهل بيته يتعرضون للمضايقة والاستجواب بواسطة السلطات، (هناك حالات مسجلة قامت فيها الشرطة السودانية بحبس شخص عزيز على المتهم كالزوجة أو الوالدة دون تهمة لحمله على تسليم نفسه). الشعب السوداني يعلم أن التهم التي وجهت للرئيس وصدر بموجبها أمر القبض ليست كيدية، والشواهد على الأرض تحكي بصحتها، فعشرات الآلاف من أهلنا في دارفور الذين فقدوا أرواحهم باعتراف البشير نفسه لم تقصف قراهم طائرات من دولة اسرائل، والقرى التي أُحرقت عن بكرة أبيها بالقصف الجوي تشهد الصور والأفلام ما انتهت اليه من دمار وخراب، كما يعلم الشعب السوداني الجرائم الأخرى التي ارتكبها البشير ونظامه في حق الوطن وأبنائه ولا تشملها التهم التي وجهتها له المحكمة الدولية، فالانقاذ اعدمت بدم بارد أرواحاً غالية من أبنائنا وأخواننا، وشردت الملايين الذين يعيشون رعايا بلا حقوق في أصقاع العالم، وتقاسم أهل الحكم ثروات البلاد فيما بينهم، ونحن لا نريد لأنفسنا أن نصوم كل هذه الفترة لنصوم على بصلة، فنحن نريد محاسبة النظام ورئيسه بأيدينا، لا بيد غيرنا، لأنه .... ليس من بين ما وُجهته اليه المحكمة الدولية أية تهمة تتعلق بسرقة أعمارنا وأحلامنا في أن نحيا بكرامة في ربوع الوطن، فمثل تلك الجرائم لا يعرف فداحتها الاٌ من كابدوها وجرٌبوا مرارة الظلم الذي نعيشه من وراء طقمة اسمها الانقاذ ،،، وسلملي على "عكاشة". سيف الدولة حمدناالله [email protected]