[email protected] أرنولد توينبي : السودان وغياب الأقلية الخلاقة ...عبر الإنحطاط ونحو الإنتحار لأرنولد توينبي مقولة توضح رفضه لفكرة الحضارة في قيامها وأزدهارها ثم تأتي مرحلة إندثارها. فهو يقول إن الحضارة تنتحر ولا تموت موتا طبيعيا. فمثلا إن آشور قد أختنقت علي الدرع بسبب حروبها الكثيرة. يذكرني حال السودان اليوم نظرية أرنولد توينبي. هل السودان في طريقه الي الإنتحار بسبب غياب الأقلية الخلاقة أو قل بسبب غياب النخب الواعية ؟ حسب رأي أرنولد توينبي إن الأقلية الخلاقة أو النخب الواعية هي مجموعة محدودة نسبيا ولكنها ديناميكية ومخترعة تستطيع أن تبني تاريخا وثقافة. هذه الأقلية في مجابهتها للتحدي تعطي إجابة شافية. وعند أرنولد توينبي فكرة التحدي والإجابة من النخب الواعية كما فكرة العلة والمعلول أو النتيجة والسبب. ففقدان الطاقة الخلاقة من النخب الواعية يتأتي منها الإنحطاط. فاذا نظرنا من حولنا فإن كل الدلائل تقول أن السودان اليوم في حالة إنحطاط باين بينونة كبري بسبب غياب النخب الواعية . فأيام الصراع بين شمال وجنوب السودان رأى أرنولد توينبي أن مسؤلية قيام سودان موحد تقع علي عاتق المثقف الشمالي كواجب يحتمه التاريخ. ولكن بسبب غياب النخب الواعية في الشمال فقد أصبحت نبؤة أرنولد توينبي نبؤة كاذبة. ولكن نبوءته فيما يتعلق بالصراع بين الغرب والعالم الإسلامي قد صدقت. فهو يكاد يكون الأب الشرعي لفكرة صدام الحضارات. و تفصل بينه و بين هيتنغتون ستة عقود من الزمان. أما فيما يخص الصدام بين العالم العربي والإسلامي مع الغرب, ففي عام 1947كان رأي أرنولد توينبي أن تيارين سيظهران في العالم العربي والإسلامي: الأول تيار حداثوي يحاول اللحاق بالأمم المتقدمة. أما التيار الأخر فهو تيار الإسلام المتطرف الذي يحاول جر الأمة الي الماضي. فاذا نظرت اليوم لمصر وتونس بعد ثورات الربيع العربي, فيمكنك أن تري صراع التيار الحداثوي مع التيار الأسلامي الماضوي. أن غياب النخب الواعية اليوم في السودان قد أدي لغياب التماسك والتضامن وإرتصاص الصفوف. والنتيجة أن السودان اليوم عبر الإنحطاط ونحو الإنتحار كما عنوان رواية أرنست همنغواي عبر النهر ونحو الأشجار . لأرنولد توينبي أفكار مذهلة. يختلف مع ماركس ونظرته للدين. فتاريخ الأديان عنده تفوق أهميته تاريخ الفكر الإقتصادي عند ماركس. ولكن نظرته للدين تختلف عن نظرة أصحاب العقائد كالكاثوليك وأهل القبلة والصحوة التي ينادي بها الصادق المهدي وكذلك الفكرة الأخري للصادق المهدي أي فكرة الإحياء. فعند أرنولد توينبي أن العقيدة تفرق بين الناس والأيمان يجمع. فمن وراء العقائد لا يأتي إلا الإحتراب. فكما ان الكاثوليكية تقوم بالفرز المقدس وتري أن لا خلاص لغير الكاثوليك, كذلك نجد تيارات الأسلام السياسي هي عقائد تفرق بين الناس. كذلك نجد أن أفكار سبينوزا عن الدين تتشابه مع أفكارأرنولد توينبي. فلذلك نجد أن أرنولد توينبي يدعو لوحدة الأديان وليس لحوارالأديان. فعند أرنولد توينبي ان وحدة الأديان ليست مستحيلة لأن هنالك نواة لوحدة الأديان. إن العالم العربي والإسلامي, وخاصة النخب, غارق في الخوف من أصحاب العقائد من التيارات الإسلامية. فمثلا محمد عابد الجابري بعد كل الدراسات القيمة في نقد العقل العربي ونقد التراث إنتهي فيما إنتهى كمفسر للقرآن. أما تفسير الترابي للقرآن فلا يدل إلا علي مفهوم العقائد التي لا تؤدي إلا للإحتراب. في الوقت نفسه نجد رجال دين مثل ديزموند توتو في كتابه “لله حلم" أقرب لفكرة وحدة الأديان التي وقف علي عقبتها الإمام الصادق المهدي والترابي اللذان لا يبحثان إلا عن مفهوم العقيدة الذي يفرق. لذلك نجد أن ديزموند توتو لعب دور مهم في إنهاء حقبة العنصرية في جنوب أفريقيا بينما نجد أن حسن الترابي هو من أقام عرس الشهيد كدليل قاطع علي العقيدة التي تقتل. أما في ماضي الهند فيطل وجه المهاتما غاندي ودوره البارع في إستقلال الهند وفلسفة اللا عنف,بعكس عقيدة الترابي التي تقوم علي العنف المؤدي لعرس الشهيد . أمثال الأستاذ محمود محمد طه و المهاتما غاندي وديزموند توتو يمثلون الأقلية الخلاقة التي يتحدث عنها أرنولد توينبي. وكما ذكرت فأن أرنولد توينبي كان مولعا بتارخ الأديان. لذلك يري أرنولد توينبي أن الشعوب الأوروبية لم تكن الوريث للعقل الأغريقي الروماني, بل هي وريث التراث الكنسي الذي حكم أوروبا لألف عام. لأن الكنيسة هي التي حكمت بعد إندثار الإمبراطورية الرومانية. أما أفكار المسيحية فقد دخلت للإمبراطورية الرومانية عن طريق العبيد, كما ينعتهم الرومان, الذين تم جلبهم من الشرق الأوسط. فكما يتسأل أرنولد, من يتخيل بأن تسود أفكار حفنة من العبيد والبرابرة علي إرث الإمبراطورية الرومانية؟ وهذا التساؤل يجيب علي فكرته التي تتحدث عن إنتحار الحضارات. يقول أرنولد إنه من فكرة الكنيسة القائلة “إن الله قد صار إنسانا “, جاءت أنانية الحضارة الغربية والإستعمار والعبودية. ولذلك ينادي أرنولد توينبي بوحدة الأديان لأن من العقائد التي تفرق جاءت فكرة المركزية الأوروبية الي أن ظهرت أفكار دي كارت التي قطعت أفكار الكنسية و دعت إلى إحترام (أنا أشك , إذن أنا أفكر, , أنا أفكر إذن أنا موجود). وهنا يكمن سر الإختلاف بين ماركس وأرنولد توينبي الذي يرى أن التاريخ الديني هوالذي يستطيع تفسير حالة العالم وليس التاريخ الإقتصادي. ومن هنا دعى أرنولد توينبي لفكرة وحدة الأديان. أن أنتحار الحضارة الرومانية التي إتسمت بالعقل وورثتها الكنيسه ( الدين ) فأن عكس ذلك سيكون شأن السودان. فأن الفكر الديني هو سيؤدي لإنتحار الثقافة السودانية و لكن في خاتمة المطاف سيرثها العقل الذي يحاربه الأن أصحاب العقائد التي تفرق من أمثال الإمام الصادق المهدي والترابي وحتي من أمثال عبدالله علي إبراهيم الذي أصبح حامي حمى العروبة والإسلام في السودان . في كتاباته “المغامرة الكبري للإنسانية وإنتحار الحضارات " يرى أرنولد توينبي أنه عندما تفقد الأقلية الخلاقة قدرتها يتوقف نمو الحضارة, وبعدها تتحول النخبة أو الأقلية الخلاقة الي أقلية مهيمنة وتميل لفكرة السيطرة وبعدها يختفي التعاضد ويظهر منطق الهيمنة. ومنطق الهيمنة اليوم يريده أصحاب العقائد التي تفرق من أمثال الصادق المهدي وعبدالله علي إبراهيم. ففكرة الهيمنة فكرة مترسخة في الثقافة السودانية التي تنتصر للثقافة العربية الأسلامية علي حساب ثقافات شعوب السودان الأخري. علي أي حال سننتظر طويلا لظهوررجال بقامة ديزموند توتو , يؤمنون بالإيمان الذي يوحد وينبذون العقائد التي تفرق. بقدر الإنتظار الطويل ذلك نفسه سنتظر ميلاد أقلية خلاقة لا تنظر لأهل الهامش كبرابرة يجب القضاء عليهم من أجل الإنتصار للعقائد التي تفرق. في إنتظار ميلاد الأقلية الخلاقة يظل الأمل معقودا علي تقدم البشرية وإرتباطها بمستقبل تحدث عنه القس ديزموند توتو في كتابه “لله حلم" يوم لا تترك البشرية أحدا علي قارعة الطريق, حتي الأشرار. نعم لله حلم ولكن قد سحقته حماقات البشر.