المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    بيان هام من السفارة السودانية في تركيا للسودانيين    "بناء الدولة وفق الأسس العلمية".. كامل إدريس يدعو أساتذة الجامعات للاسهام في نهضة البلاد وتنميتها    مونديال الأندية.. فرصة مبابي الأخيرة في سباق الكرة الذهبية    نبيل عبد الله: قواتنا بالفرقة 14 مشاة صدّت هجومًا من متمردي الحركة الشعبية بمحطة الدشول    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    بلاغ بوجود قنبلة..طائرة سعودية تغيّر مسارها..ما التفاصيل؟    أكثر من 8 الاف طالب وطالبة يجلسون لامتحانات الشهادة الابتدائية بسنار    كيف تغلغلت إسرائيل في الداخل الإيراني ؟!    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    أردوغان: الهجوم الإسرائيلي على إيران له أهداف خبيثة    "خطوة برقو" تفجّر الأوضاع في دارفور    الصادق الرزيقي يكتب: الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم    أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    فيكم من يحفظ (السر)؟    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    هيمنة العليقي على ملفات الهلال    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نشاط مكثف لرئيس الوزراء قبل تشكيل الحكومة المرتقبة    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    شاهد بالصور والفيديو.. الفنان حسين الصادق ينزع "الطاقية" من رأس زميله "ود راوة" ويرتديها أثناء تقديم الأخير وصلة غنائية في حفل حاشد بالسعودية وساخرون: (إنصاف مدني النسخة الرجالية)    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    فجرًا.. السلطات في السودان تلقيّ القبض على34 متّهمًا بينهم نظاميين    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اصرار نظام البشير على اخضاع الجميع عبر السلاح والحرب يحمل الاقاليم القديمة الى الانفصال.

لن تجد بين الحكومة و المعارضة التقليدية (الاحزاب والقوى السياسية المعروفة منذ اربعينات القرن الماضي) رؤية لحل الأزمة التي تنزلق نحوها البلاد والعباد. بالمقابل تحمل قوى الهامش رؤيتها غير المتوافق حولها للتغيير عبر (البندقية) التي دُفعت لها دفعاً، بل دفع منهج حكومة المؤتمر الوطني الجنوب دفعاً نحو الانفصال بعد حرب بدأت قبل الاستقلال ومازالت آثارها ماثلة ومتفاعلة.
ولكن اذا انعدمت الرؤية ولم يتبلور حل يوفق بين الحكومة والاحزاب التقليدية وقوى الهامش الذي تمثله الجبهة الثورية وبتراضٍ بينهما كاملاً، هل سنتوقع بروز حل مُرتضي للجميع أم أن الحل أمامنا ونساق إليه مجبرين؟!. وأن الأزمة تتعلق بالخوف من هذا الحل، بأكثر مما تتعلق بمعيقات التغيير أو تأخيره.
ذلك لآن موقف احزاب المعارضة يكاد يتطابق مع موقف الحكومة، سوى أن المعارضة تريد فقط أن تحل محل الحكومة عبر المناداة باسقاطها و أمر اسقاط الحكومة لا تحرص عليه المعارضة حقيقةً، بل تريد أن يأتي الحل من الحكومة وعبر تكوين حكومة انتقالية تعمل على حل الصراع وتشرع في ترسيخ ديمقراطية شفافة. أما الحكومة فترى أنها هي الممثل بل المسؤول عن توجه البلاد وهويتها العربية الاسلامية، ولا تثق في المعارضة كونها تراها ليست على اتفاق بينها، وعند الحكومة عدم الاتفاق هذا هو مدخل للتفريط في الهوية العربية الاسلامية اذا ما هي تماهت و انساقت مع دعوى الحكومة الانتقالية.
والحقيقة أن الحكومة لا تريد أن تتخلى عن السلطة ولأسباب كثيرة أقلها الخوف مما جنت ايديها ومن المحاسبة والمعاقبة في الداخل والخارج، وأعلاها خوفها أن تُوسم بأنها من قسم البلاد خاصة بعد انفصال الجنوب الذي كان في نظرهم خطراً انتهي بالانفصال وصارت البلاد عربية اسلامية مائة بالمائة بحيث انها لا تحتمل أو تتطلب (الدغمسة)، وبين هذا وذاك المصالح المرسلة التي لا تحدها حدود ولا يردعها رادع أو مراقب أو قانون.
أما المعارضة فتخاف أن يتبدل الحال غير الحال وتأتي للحكم قوى لم تعرف طريقاً للحكم منذ الاستقلال، والاخطر من ذلك أن تظهر قوى جديدة وسوق سياسية تبور فيها كل سلعها وينزوى كل تاريخها العريض، فتحال إلى التاريخ متحفاً ينظر إليه بتندر لقوى عشقت الصراع بينها حد التفريط وبلا نظر للوطن ولا لمصالح شعبه وحقوقهم في السلطة والثروة، إلا وفقاً لتكتيك الغلبة على الاخر واستمالة طرف في حريق الطرف الاخر وليس طلباً للعدل والمساواة في الحقوق.
جربت المعارضة عبر تاريخا الطويل كل شئ واحالت حتى صفة القومية إلى ايديولوجيا بأن تدرج بعض رموز من اقاليم وولايات السودان المختلفة لتوصف فقط بأنها احزاب قومية، ثم افرطت وتمادت في ذلك حتى صار تعريف القومية معيباً بأن يكون ضمن حزبك ممثلون لكل جغرافيا السودان، ولكن ليس أكثر من ذلك. والآن تجري أدلجة (خطر استخدام القوة) في التغيير، بحسبانها لا تقود إلا للفوضى. والفوضى في هذه الحالة لا تعدو أن تكون ايديولجيا للتعمية وصرف النظر عن حقوق أهل السودان المسلوبة من البعض ويراد لها أن تكون حقاً محصوراً لبعض آخر هو الاسلام وهو العروبة وهو النظام ضد الفوضى، وهو كل شئ قابل للتوظيف ويرجي منه ايقاف خطر القوى الجديدة الاخذة في البروز على المسرح السياسي وبقوة.
والفوضى بحسب المعارضة هي المعادل للقوى التي تريد تغيير هوية البلاد بحسب الحكومة وحزبها ومن دار في فلكها بوعي او بدون وعي. لن تجد توصيفاً أو تعريفاً يحدد الفوضى أو يقف عند اسبابها ليضع حداً لها بالحق والعدل. ولكن هكذا ايديولوجيا التوظيف والتخويف. لن تجد من يتحدث عن سودانية الثوار حملة السلاح، ولا مطالبهم ، ولا وقوف عند الاسباب التي دفعتهم لحمل السلاح، ولا عن وضعهم في الحل الذي ستفضي له (الحكومة الانتقالية) بافتراض أنها هدف للمعارضة مثلما اسقاط النظام هدف.
على الاقل الحكومة وحزبها واضحة الطرح، لا تري سوى منسوبيها ومحسوبيها، وتتعامل على اعتبار أنهم هم السودانيون فقط بل هم السودان ذاته، ولا تريد أن تتحرك عن هذا الموقف شبراً واحداً، بل تتعامل وفقاً لهذه القاعدة حتى مع أهل الوسط والقوى السياسية دعنا نقول (المسجلة) بمعنى المعترف بها، ولكن على الورق الذي يزين النظام ويظهره بالتعدد.
أمام انسداد أفق الحل أنى كان متراضياً عليه أو جاء كنتيجة لتغيير النظام بأي وسيلة، ثورة شعبية، أو غلبة عسكرية كيف سيكون الحل؟، وهل بإمكاننا تجنب الفوضى المُعرفة بانزلاق البلاد في حالة من الصوملة، بمعنى اقتتال لا يفتر ولا يعرف التوقف؟. وهل هناك سبيل لتجنب مثل هذه النهاية الدامية لنظام دموي ذي شهرة عالمية في اراقة دماء شعبه؟.
دعونا نذكر بأن الحرب على الجنوب جرى تصويرها بل ادلجتها على خلفية المسيحية، وجاء امتحان تمرد دافور قاسياً ولا تنطبق عليه دعاوى المسيحية، وبدا واضحاً أن الحرب كلها التي دارت في الجنوب والتي تدور في دارفور وجبال النوبة والنيل الازرق لا علاقة لها بدين، بل بمواطنين لهم مطالب طالت سنوات صبرهم وانتظارهم لحلها والتعامل الجاد معها ولا حياة لمناد. لذلك تعلم الحكومة ومن جاراها أني كان، أن دعوة تغيير هوية البلاد بلا قيمة سوى محاولة للتبرير واستيلاد شرعية لحرب بلا ساقين ضد مواطنين لهم مطالب تستوجب الحل الواضح غير القابل للنقض أو التلاعب. لكن الحل هذا سيقلب موازين القوى كلها بما فيها (الانتخابية) وهذا وضع لمن ظل يحكم بلا منازع منذ الاستقلال غير محتمل وهذا هو فقط (الخطير) الذي تخافة الحكومة من جهة وقوى المعارضة من جهة أخرى وسيظل كامناً عند الكثيرين في لا شعورهم.
الطريف أن الحرب مع الجنوب المسيحي لم تمنع الحوار والاتفاق مع الحركة الشعبية، فلماذا لا يتم الاتفاق مع الجبهة الثورية وقد باتت أقرب ديناً وجغرافيا بحسب توصيف الحكومة بعد انفصال الجنوب وأن شعب السودان القديم بات 99% منه مسلماً. الموضوع اذاً ليس الدين ولا الهوية الاسلامية العربية، بل السلطة والسلطة فقط. ذلك أن اتفاقية السلام الشامل كانت قد وضعت أرضية قوية لتغيير وافقت عليه الحكومة. صحيح أن الخلفيات والدوافع اختلفت بين طرفي الاتقافية وقتها، فقد كانت الحكومة ممثلة في النائب الاول للرئيس كطرف محاور تسعى إلى استجلاب حليف قوي يسند مركزها في السلطة مقابل التخلي له عن كامل الجنوب وكيفما شاء. للدرجة التي تنازل فيها علي عثمان محمد طه وقتها عن أبيي لتنضم للجنوب بحسب ما اوردت هلدا جنسون في كتابها (اندلاع السلام صفحة264) وذكرت ذلك نصاً كما يلي: "... وفي وقت لاحق من ذلك الشهر خلال محادثات خاصة في نيفاشا (كما تشير الى ذلك ملاحظاتي المدونة حول تلك المناقشة) ذكر لي أن الحكومة في نهاية المطاف " لن تكون معارضة لبقاء منطقة أبيي كجزء من بحر الغزال" وكان قد ذكر الشئ نفسه لقرنق." انتهى الاقتباس عن هلدا. والواضح أن سعي الحكومة لم يكن لأجل الجنوب بل لأجل البقاء بالسلطة، وأن الحكومة كانت تبحث عن شراكة أكثر مما كانت تبحث عن اتفاق ستكون من ضمن نتائجه ايقاف الحرب ولكن الاهم هو تدعيم وضع الحكومة وضمان استمرارها بلا مهدد. ومن يريد المزيد فليطالع كتاب هلدا جونسون (اندلاع السلام) وسيجد تفاصيل كثيرة تشير ثم تؤكد أن السعي الاساس للنائب الاول للرئيس علي عثمان كان البحث عن شراكة وليس حرصاً على حقوق الجنوب. وعلى العموم ذلك ما أكدته بعد ذلك المرحلة الانتقالية التي شهدت صراعاً مستمراً وليس شراكة حقيقية.
نعود إلى القاعدة القوية التي وضعها اتفاق السلام للحل خاصة وأن هذا الحل اكتمل بالتوقيع عليه غض النظر عن نوايا كل طرف وأهدافه من وراء الاتفاق. ذلك أن الاتفاق فرض طريقاً للحل لا يمكن تجنبه مهما كانت النوايا وإن كانت محدودة في ضمان استمرار السلطة ودعمها. فقد اعطت الجنوب اقليماً كاملاً دونما اعتبار للتقسيم الذي استحدثته حكومة الانقاذ (عشرة ولايات)، وجيش، ونصيب كامل الدسم من موارد الاقليم وليس من موارد الحكومة القومية، ومضت أكثر من ذلك وشاركته ب 28% من الحكومة المركزية وذات النسبة في الأمن والخدمة المدنية ..الخ. بالطبع أصبح ذلك الاتفاق نموذجاً ومحفزاً لكل الاقاليم والولايات التي وضعها يماثل وضع الجنوب أن تجد ذات المعادلة والمعاملة خاصة وأن المثال الذي جاءت به الاتفاقية قد أصبح واقعا ومطبقاً. كما أن الاتفاقية وضعت قاعدة فعالة سمتها (الوحدة الجاذبة) والتي تدعو لنبذ الانفصال بعد ضمان كامل الحقوق وحسن تطبيق ذلك.
المحك اذاً في (الوحدة الجاذبة) هذه!!؟. والتي هي بحسب اتفاقية السلام الشامل مع الجنوب تسوجب عدم استخدام حق (تقرير المصير) بما يفضي للانفصال. على خلفية أن كل مطالب الجنوب قد أُوفيت له اقليماً وقوميا. ولكن السؤال لماذا لا ينطبق ذلك ويطبق على باقي اقاليم السودان الشبيهة بالجنوب وغير الشبيه به؟. لأن تطبيق الاتفاقية على كامل اقاليم السودان كان وحده الذي سيضمن جاذبية الوحدة وقبلها صدق التطبيق للإتفاق مع الجنوب. لكن الغرض الذي كان يسعى له علي عثمان النائب الاول لم يكن جاذبية الوحدة، بل كان جاذبية البقاء والاستمرار في الحكم وبدعم من الجنوب وجيشه لسلطة المؤتمر الوطني بالمركز. فاعطاء كل اقليم بكامل ولاياته جيشاً ونسبة من ثروته واشراكه بنسبة في الحكومة القومية لن يبقي شيئاً لأهل المؤتمر الوطني وحكومة الانقاذ. صحيح أن الامر لم يسر كما ينبغي له، خاصة مع شكوك الكثيرين داخل النظام أن علي عثمان كان يسعي لشراكة تضمن استلامه لرئاسة البلاد، وذلك عبر اضعاف الجيش ووضعه امام جيش الجنوب ووفقاً لاتفاق مضمون ومراقب عالمياً. ومن جهة اخرى لم يطق أهل المركز أن يشاركهم الجنوبيون ويأخذوا منهم 28% من سلطة هي ملك لهم وحدهم. اختلت الشراكة واستحالت إلى مشاكسة انتهت بالانفصال.
لكن تلك الشراكة جعلت المؤتمر الوطني وحكومته أمام استشعار كبير بالخطر القادم الذي يمثله الجنوب وكذلك باقي الاقاليم والولايات التي بدأت تتحرك على خلفية المثال الجنوبي في طرح مطالبها فأعدوا عُدتهم واستعدوا واستولدوا (مثلث حمدي) ذي المواصفات المطلوبة لحصن قوي ضد أي خط قد تقوده الاطراف وأهل الهامش ضد سلطة المؤتمر الوطني وحكومته على هُدى اتفاقية السلام الشامل، وكان ذلك بعد شهر تقريباً من توقيع اتفاقية السلام الشامل. ذلك اذن هو تفسير ايديولوجيا الهوية العربية الاسلامية الذي تحاول الحكومة تجييش الشعب كله خلفها به، لدفع تهديد الجبهة الثورية ضمن مشروع انهزامي يضحي بكل الشعب حتى شعب مثلث حمدي لضمان استمرار سلطة المؤتمر الوطني ولو انتهي كل السودان إلى دويلات خمسة أو أكثر ولو لم يبق لحكومة المؤتمر الوطني سوى مثلث حمدي (دنقلا – سنار - الابيض).
انسد الأفق أمام الحل بين مدرستين مدرسة تريد فقط تغيير النظام تمثلها الحكومة والمعارضة (اسقاط النظام- حكومة انتقالية)، ومدرسة تسعى لاسقاط الحكومة وتغيير الدولة واعادة بناء مؤسساتها وتمثلها الجبهة الثورية وقوى الهامش، بحسب توصيف علي عسكوري (راجع بخصوص ذلك مقاله بين اسقاط النظام والتغيير موقع سودانايل). لا يبدو أن الحل سيأتي من قبل المعارضة لضعفها البنيوي من جهة ولبوار طرحها لحل يعمل على احلال حكومة محل حكومة الانقاذ على الاكثر. ولن يأتي بالطبع من قبل الحكومة التي ترى أن مشاركة الاحزاب ضمنها خروج على الملة (العربية الاسلامية) أن لم يكن كفر، وبالطبع لن تقبل أو تحتمل أي مشاركة لقوى الهامش وإن جاءت مستندة على حل متفاوض عليه وموقع ضمن اتفاق، قد تم تجريب ذلك مع الحركة الشعبية وأهل الجنوب.
الواضح أن الحل الذي نساق له هو تقسيم السودان إلى ما شاء الله له أن يقسم، عبر التخندق كل في موقفه ومكانه يرجو شيئاً لن يكون، ويتمنى البقاء في السلطة مع استحالة ذلك. أو احلالها سلما وتراضياً ولكن بدون حل واضح المعالم.
الكل يعلم أن نموذج اتفاقية السلام الشامل لا مفر منه وأنه بات يمثل الحد الادني لأي حل يضمن بقاء السودان الحالي وربما يدفع الجنوب للعودة إلى الدولة الواحدة. وذلك عبر أعلان الحل مفصلاً، بأن كل أقليم (بحسب التقسيم الاداري القديم) له الحق في أن يدار بأهله، ولهم الحق في توظيف كامل موادهم في تنمية اقليمهم، وكذلك تكوين جيشهم، وخدمتهم المدنية ... الى آخر التفاصيل المستوفية لنموذج اتفاقية السلام الشامل مع الجنوب من ترسيم حدود وخلافه. هكذا سنضمن أن السودان سيعاد ترتيبه وتركيبه من جديد عدلاً وشراكة بين أهله. ونضمن أن الجيش سيعاد تكوينه ومن كل جيوش أقاليم السودان، وكذلك الخدمة المدنية، كما أن ثروة كل أقليم باقية فيه، وأنه سيتم وبين كل الاقاليم تحديد نسبة الثروة التي ستكون لمركز السلطة المتراضى عليه. وبالطبع ستُحدد سلطة المركز ومدي صلاحياته وحدودها. ذلكم هو النموذج الذي كان ينبغي أن يصار إليه فور توقيع اتفاقية السلام الشامل ولكن النوايا غلابة. والآن ما يزال هذا النموذج ذا صلاحية، بل لن يُقبل غيره وقد بات الجنوب نموذجاً لدولة كاملة الدسم على حد تعبير الرئيس البشير. هذا هو الحل الذي فرضته اتفاقية السلام الشامل، وبعد انفصال الجنوب بات من الصعب تقديم أقل من ذلك لباقي شعوب وأقاليم وولايات السودان. ويبقى الخيار مفتوحاً أن يتم كل ذلك في اطار فدرالي أو كونفدرالي لن يكون هناك فرق. وهكذا سنتجنب كل احتمالات الفوضى، ونضمن توقف الاقتتال والحروب التي دامت وتجددت منذ الاستقلال. كما أن هذا الحل سيكون مقبولاً بهذا الشكل والتفاصيل اذا جاء من الحكومة الحالية أو من المعارضة بعد اسقاط النظام أو كيفما كان بينهما في حالة (الحكومة الانتقالية).
مهما يكن من أمر البديل لهذا الحل النموذج سيكون خصماً على (مثلث حمدي) وأهله وان جاء مفروضاً عليهم من سلطة غيبتهم. بل سيفرض عليهم أن ينضموا ويكونوا جزءاً من السودان الجديد رغماً عنهم. لأنه وقتها سيكون (مثلث حمدي) دولة بلا ساحل، بالضبط كما هو حال الجنوب الان. ذلك لأن الحل البديل والذي سيتم على ذات السياق والتفاصيل التي سبق ذكرها. لكن الذي سيقود ذلك الحل هو دولة جنوب السودان!!؟. فاذا اصرت حكومة الانقاذ وحزبها المؤتمر الوطني على اخضاع الجميع عبر السلاح والحرب، فأن الاقاليم القديمة ستفرض عليه انفصالها أو تفضل أن تنضم لدولة جنوب السودان المعترف به الآن. ففي حالة جبال النوبة والنيل الازرق ومع استحالة انفصالهم لدول سيفضلون أن يكونوا ضمن دولة جنوب السودان ولو بدفع من ايديولوجيا الهوية العربية الاسلامية التي لا تحسبهم ضمنها. وهكذا ستبدأ دولة الجنوب في التمدد شمالاً. وستدفع قضية أبيي كل شعب المسيرية الى الانضمام لدولة الجنوب كون كل مصالحهم ومعاشهم مربوط بالجنوب وهكذا سيكون الجنوب قد تمدد في كل مساحة ولاية جنوب كرفان الحالية حتى بابنوسة وما بعدها و معظم النيل الازرق أن لم يضم كل الولاية. واذا انفصلت دارفور مع وضعها الحالي ستحتاج إلى دعم لمعالجة اوضاعها المتردية التي سببتها الحرب الضروس هناك، سيكون أفضل لها أن تنضم لجنوب السودان في دولة واحدة أو يشكلان كونفدرالية. وهكذا سيكون الجنوب قد كاد أن يبتلع أو يحاصر باقي السودان المتمثل في مثلث حمدي (دنقلا – سنار- الابيض) و شرق السودان. فاذا ثار الشرق (وهو مرشح لذلك بحسب معلومات المؤتمر الوطني ذاته) فأن مثلث حمدي سيكون دولة بلا شاطئ، خاصة اذا ما مضى الشرق في الدخول مع الجنوب ودارفور في كونفدرالية أو دولة واحدة. وعندها سيضطر (مثلث حمدي) إما للانضمام لكونفدرالية الجنوب ودارفور والشرق، أو على أقل تقدير أن يجد صيغة من الاتفاق معها تضمن دخول وخروج مصالحه عبر البحر الاحمر الشاطئ الوحيد.
إن اتفاق السلام الشامل سيكون طوقاً عصياً وقاهراً على رقبة المؤتمر الوطني وحكومته، وكذلك وبدرجة أقل على القوى السياسية التقليدية. فلا مفر منه إلا إليه. كما أنه فوق ذلك وبحسب حجم التغيير الذي سيفرضه، سيدفع بظهور قوى سياسية جديدة في كل شئ في شكلها وطرحها وعضويتها. فالقديم سيذهب حتماً مع السودان القديم أنى كان الحل وكيف ما جاء.
أما اذا اصرت الحكومة وحزبها على التمترس في حالة استمرار الحرب والتمادي فيها وتوسيع نطاقها. وظلت المعارضة بلا افصاح عن الحل الذي يجب أن يكون لتقود جميع السودان على بينة مما هو آت. عندها يجب أن يخرج (تيار جديد) بأي تسمية جاء ويعلن وينادي في الناس أن يا أيها الناس ، اذا اردنا استباق الفوضى يجب الا ننتظر حلاً من حكومة أو معارضة بما في ذلك خيار الحكومة القومية، وأن الحل الذي يضمن ألا نصل إلى مصير الصومال ونتقاتل كل ضد الاخر بلا رؤية أو هدنه، الحل هو أن يصار إلى تقسيم السودان حقاً وفعلاً الي سبع دول أو بحسب أقاليمه القديمة ويكون لكل اقليم مثلما كان للجنوب من جيش والحق في كل موارده وكامل ادارة ترابه عبر من يختاره أهل الاقليم لتمثيلهم. ثم ندعوا كل من يريد أن يؤسس السودان الجديد أن يأتي بشركته فيه عدالة وتساوياً، وتُكون حكومة قومية كونفدرالية أو فدرالية تمثل الدويلات أو الاقاليم كلها. هكذا نحسم خطر الانفلات الامني ونحقن الدماء ونعطي كل صاحب حق حقه، ثم يقرر هو ما اذا كان يريد أن يكون ضمن كونفدارلية أو فدرالية السودان الجديد أم لا.
كم نحن شعب عجيب لا تتركه الحكومة يسعى للحل بينما هي تمتنع وعمداً، و لاتتيح المعارضة مساحة لمساهمة الاجيال الجديدة في الحل ثم لا تطرح حلاً واضحاً يسير خلفه الناس، ثم نجبر على أن نطلب ذات الحل الذي ظللنا نتجنبه جميعاً، حقناً للدماء وتجنباً للفوضى. وبعد كل هذا العنت و الانسداد سيكون هذا الطرح مستنكراً!!. ورغم كل شئ لاحل هناك فيما يبدو سواه.
صحيفة التغيير الالكترونية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.