المظاهرات التي اندلعت في السودان أخيرا, أثارت ردود فعل متباينة. كارهو النظام الحاكم استبشروا خيرا, وينتظرون سقوطه للهاوية. والمتعاطفون معه, رأوا أن الوصول لهذه النقطة بعيد المنال, لأن الحركة الإسلامية المتغلغلة في النسيج الرسمي للبلاد تملك مفاتيح, تمكنها من دعم النظام حتي لو تغيرت الوجوه. طبعا هناك فرق بين ما جري من حركة جماهيرية في مصر وما يدور في السودان, تجعل المقاربة بين الحالتين غير دقيقة. فالظاهر وجود احتجاجات رافضة لممارسات حزب المؤتمر الوطني الحاكم, وفي العمق تبدو مكونات البيئة السياسية وطريقة التحكم في مفاصل الدول مختلفة. وبالتالي سوف تأتي النتائج علي القدر نفسه من بعد المسافات. ومن فرحوا, في الداخل والخارج, بالسخونة التي شهدها السودان, عليهم أن يتريثوا حتي تكتمل الطبخة السياسية. فما حدث هناك لا يشبه ما تابعنا تفاصيله عن قرب هنا في مصر. وهذا لا يعني مدحا في نظام الخرطوم, لأنه يعاني عمليا مشكلات وأزمات تفوق ما كان يعانيه نظام مبارك الأسبق, لكنه إقرار بالواقع, حيث تأتي المعارضة من داخله, ولديها من الأدوات ما يساعدها علي إجراء جراحة سياسية عاجلة, إذا تأكدت أن طوفان البسطاء والمهمشين سوف يدمر الأخضر واليابس. فالإصلاح عبر المؤسسة العسكرية أو الحركة الإسلامية, أصبح الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تطفيء نيران الغضب الملتهبة في صدور الناس في الشوارع والميادين. السودان غير مصر, لأن أحزاب المعارضة التقليدية هناك, فشلت في هز أركان النظام علي مدي نحو أربعة وعشرين عاما, ولم تستفد من عمليات الشحن والتعبئة الشعبية, وجربت جميع الحيل السياسية واستخدمت كل السبل العسكرية, ومع ذلك أخفقت, وتفرغت لتصفية الحسابات الشخصية والحزبية, الأمر الذي أسهم بسهولة في احتوائها من قبل نظام الخرطوم, ونجح في تفتيتها, وتمكن من أن يفقدها جانبا كبيرا من توازنها وقدراتها الحركية, لأن بعضها فتح أذرعه وتعامل مع مناورات ومساومات النظام بدرجة سيئة من البراجماتية. ربما لا يختلف وضعها مع حال المعارضة المصرية خلال عهد مبارك, حيث قبلت الدخول في صفقات محرمة, بطريقة أدت إلي تشويه صورتها سياسيا, وأبعدتها عن القيام بدور مؤثر في المشهد قبل وبعد ثورة يناير. وحتي تدافع الجماهير السودانية, احتجاجا علي الأوضاع الاقتصادية, ورفضا للممارسات الأمنية, جاء متقطعا( عكس الحالة المصرية) بشكل مكن النظام من سرعة السيطرة علي المفاتيح الأساسية في الشارع وداخل القوي الحزبية. النقطة الأشد أهمية, تكمن في الكوابح الخارجية, التي ترفض فكرة سقوط النظام من خلال المظاهرات والثورات الشعبية, خشية العودة إلي دوامات الحرب الأهلية, وما تنطوي عليه من ارتدادات وانعكاسات تؤثر علي مصالح بعض القوي الدولية. فالواضح أن التدخلات لإشعال الحرائق السودانية, لا تقارن بما جري ولا يزال في مصر من مؤامرات ترمي إلي الفوضي. كما أن الرئيس عمر البشير المتهم من قبل المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم إنسانية يتحرك بحرية في القارة الأفريقية وخارجها. ولو هناك نية حقيقية لدي القوي التي تحيك المؤامرات في مصر لتكرار تجربتها في السودان, كان الأولي الإلحاح والجدية في عملية إلقاء القبض عليه. لكن لأن هذا الطريق محفوف بالمخاطر الاستراتيجية, تم تجاهل المضي فيه, وبقي في الواجهة لزوم التهديد والوعيد, عندما يفكر السودان في الخروج علي الخط المرسوم. علاوة علي أن وجود مصلحة جوهرية في الحفاظ علي النظام الذي فرط في جنوب السودان, ليس مكافأة له فحسب, بل أيضا لأن تعرضه لتهديدات قوية سوف يرخي بظلال سلبية علي دولة الجنوب الوليدة, التي من المنتظر أن تتحول إلي أحد المفاصل في سياسات بعض القوي العالمية. أضف إلي ذلك أن السقوط عبر أدوات جماهيرية, سيعرض السودان لشبح التفكك والمزيد من التقسيم, في ظل الحروب المشتعلة والحساسيات المتفاقمة في أماكن متفرقة, من الغرب إلي الشرق, ومن الشمال إلي الجنوب. وهو ما يتسبب في تأثيرات قوية علي كثير من دول الجوار, التي دخل بعضها ضمن حلقة مهمة من حلقات الترتيبات الأمريكية في شرق ووسط إفريقيا, وتحت مسميات متباينة. السودان غير مصر, لأنه يملك غطاء دوليا, يمكن أن يعصمه إلي حين من فخ السقوط. كما أن فكرة الحشد الجماهيري علي الطريقة المصرية, تفتقر إلي الحد الأدني من المقومات, وأهمها تحاشي وجود انقسامات سياسية عميقة في الشارع والتوافق حول هدف واحد, فهناك من يطالب برحيل النظام نهائيا, ومن يتلاعب بالألفاظ فينادي بالبديل الجاهز, ومن يعزف بقوة علي وتر التغيير والإصلاح من الداخل, ومن يبحث عن توفير لقمة العيش, بصرف النظر عمن يقدمها, حتي لو كان البشير. ناهيك عن الهوة الشاسعة بين المواطنين والمؤسسات الرسمية, التي تعمل لمصلحة الحركة الإسلامية, دون التفات لمطالب ومشاعر الجماهير. الاهرام المصرية