لأننا نعمل بنبض النسيج الحي ودفق الدم الموار واختلاجة, بروح اهل السودان وتاريخهم الطويل الذي يحتل مركز الدائرة, ولا يمكن لهذا الإرث أن يركل الي الهامش أو يكبح جماح سطوعه في بيوت الاشباح. وأنه لا مناص ان نعمّر ليل المهاجر والمنافي بزغاريد الشمس الآتية إلي أن يسدل الستار علي المسرحية الهازلة المبكية مهما طال الزعيق والدخان, ويردد عشاق الوطن السُمر نشوة النشيد الوطني بكل اللهجات والرقصات والطبول والرطانات الفصيحة, لأنهم معمّدين بأشعة شمس جديدة يلبّون صوت التاريخ لفجر آت لا محالة. لا زالت صحيفة المهاجر تمارس سطوعها في المهجر معبّرة عن كيان اهل السودان الذي ينتفض من رماد نكساته اكثر بأساً بركّازه الخالد. شعب يحس بثقل الكبت, يتألم ويشقي, حكيما في كتم مشاعره, صبره عظيما متطاولا, إنه الشعب السوداني معلم الشعوب الذي يدّخر طاقة كبري لا يكسر شوكتها الجلاّدون كافة. عندما يخرج الشعب السوداني الي الشوارع مطالبا بالتغيير , تقف له الشعوب الاخري اجلالا واحتراما وتأدبا امامه. وعندما نقول معلم الشعوب لا نطلقها بطرا ولكن من منطلق ريادة الشعب السوداني في هذا المجال, بل يتقذّم هذا اللقب امام منجزات هذا الشعب العظيم, وما يؤكد ذلك هبّة شعبنا في سبتمبر ليطهّر بدمائه ارض الوطن من دنس الاسلام السياسي. قد يقول البعض أن الشعب السوداني سبق وأن قهر نظاميين دكتاتوريين فما الجديد؟ أو البعض الاخر المصابين بحالة الانبهار بثورات الشعوب الاخري. فإننا نقول توقفوا يا هولاء واقرأوا التاريخ جيدا. وكي نكون اكثر موضوعية. فإن نظام الانقاذ الذي يتخندق ضده شعبنا ,نظام يختلف تماما عن بقية الانظمة الدكتاتورية , يختلف اختلاف جوهري عن اي ايدلوجيا وصلت للحكم في تاريخنا وتاريخ المنطقة السياسي, بل ليس ضربا من المبالغة ان قلنا العالم بأسره. فلأول مرة تتحالف ايدلوجيا الاسلام السياسي مع المؤسسة العسكرية في انقلاب علي نظام ديمقراطي, ولقد علّمنا التاريخ ان الايدلوجيا الدينية وحدها فقط, جثمت علي صدور الشعوب عدة قرون دون مقاومة. إن الديكتاتورية التي تحكم شعبنا الان هي ابشع واشرس ديكتاتورية وانها اكثر بشاعة وشراسة من الدولة الاموية ولذلك لا نتردد لحظة بأن نقول بملء الفم, أن الجيل الذي واجه الانقاذ في الشوارع الان فاتحا صدره يحتضن الرصاص الاسلاموي, هو اعظم جيل انجبه الشعب السوداني, لأنه جيل يخوض اكثر من معركة واستطاع ان يهزمها, هولاء الشباب من الجنسين استطاعوا أن يواجهوا عاصفة الاعلام الاسلاموي بوعيهم, فواجهوا ابشع انواع التعذيب النفسي والبدني واستطاعوا ان يركّعوا جلاديهم داخل المعتقلات والسجون, واكدوا ان عملية التدجين والادلجة فشلت بكل معايير الفشل وهذا ما أصاب النظام في خاصرته وأنه بعد كل هذه السنوات يكتشف ان عملية التغييب العقلي التي وظّف لها كل اسلحته الاعلامية لم تجدي نفعا, ولعلها اهم مكتسبات ثورة سبتمبر. النظام الان استنفد كل اسباب وجوده واصبح سقوطه واجبا اخلاقيا قبل ان يكون سياسيا, وفقد اي فرصة للتنصل من هذه الدماء كما كان يمارس هواية التنصل من جرائمة التي ارتكبها ولا زال يرتكبها في الهامش, وفي قلب الخرطوم اسفر عن وجهه الحقيقي وكانت اخر مراحل السقوط الاخلاقي الذي بات واضحا للجميع الاّ من في قلبه مرض, فمن لم تهز فيه هذه الدماء التي سالت شعرة, فليتحسس انسانيته. وفي الختام التحية لجماهير الشعب السوداني بذكري ثورة اكتوبر والتي اتت هذا العام بطعم النصر.