كان الفاروق عمر يستقبله بحب ثم يصفه ب (غنيمة العابدين)، وكان إبن مسعود يرحب بالغنيمة شارحاً : ( أهلاً بالشتاء، يطول فيه قيام الليل ويقصر فيه صيام النهار)..هكذا كان يحتفي الكرام بالشتاء، رضي الله عن الفاروق و إبن مسعود، وعنهم جميعاً..ولكن تغيرت الأنفس والأمزجة، وكذلك الأزمنة وما عليها من الأحوال والأهوال، ولذا صار الشتاء قاهراً، أوكما يصفه فاروق جويدة على لسان حال قائل : ثيابك لم تعد تحميك من قهر الشتاء/ وتمزقت أثوابنا، وهذي كلاب الحي تنهش لحمنا/ ثوبي تمزق هل تراه ؟؟/ صرنا عرايا، وفي عيون الناس يصرخ عُرينا/ البرد والليل الطويل، العري واليأس الطويل/ القهر والخوف الطويل/ ماذا تقول عن الرحيل ..؟؟ :: وفي الخاطر ( تلك القرية )، وبعض تفاصيل الشتاء..فلنستعد، لقد أقبل، أو هكذا بيان العارفين بملامح المناخ..ونستعد بتحويل البيان إلى عمل..نطحن ضعفاً من القمح، وكان مقدار طحين القمح قبل الشتاء نصف ما تطحن من الذرة، ولكن ما لايُسهل هضمه يصلح مضادا لبعض البرد، ولذلك نضاعف طحين القمح..ثم نستعد بمضاد آخر..نربط الفؤوس على ظهورنا النحيلة، و نتسلق أشجار النيم و ذؤابات النخيل، ونقطع من الفروع والجريد أنضرها.. ورفاقاً يجمعونها، ويحزمونها بحبال تستمد متانتها من صبر سيقان (نباتات الحلفا)..ويا لعدالة تلك السيقان، كما تفرهد على الجداول والشواطئ ، تقاوم عطش الفيافي أيضاً..أي كأنها على قسم بأن تعدل بين البسطاء والمساكين حين تمدهم بحبال سيقانها، متكئاً على شاطئ النيل كان هذا المسكين أو رفيقاً لنجيمات الفيافي ..!! :: ونحمل ما جمعناها وحزمّانها، ونقصد الديار ونوزعها برص يتكئ على جدران الطين..ما بين الجدار والعرش فراغ بطول الجدار ، ليُدخل الهواء ثم لنستقبل به الشروق، وكذلك يباعد هذا الفراغ ما بين حشرة الأرضة ومكونات العرش التي سخرتها لنا الطبيعة بحيث تكون ظلاً وارفاً..كم هي كريمة نخيلنا وأنعامنا التي لاتبخل علينا بروثها وهي تهبنا العرش وظل العرش بتجرد ونكران ذات وبصمت يحتقر رياء صخب مصانع الحديد والأسمنت..ثم يأتي الكبار بسلالم الخشب، ليتسلقها أمهرهم ويقف محازيا لفراغ ما بين الجدار والعرش، ثم يتسلق أحدنا بحيث يقف تحت هذا الماهر، ثم يتقاسم الجميع أجر مناولة ( تلك الحزم).. ويبدع الماهر في سد الفراغ بأفرع نيمنا وجرائد نخيلنا..يسدها لحد حشو الغرف بالظلام حين تغلق أبوابها، أوهكذا (معيار الإتقان).. ثم يذهب أهل الفزع إلى بيت آخر، ولكن بعد أن يبروا قسم سيد - أو ربة – الدار، وقبول كرم يفيض بأكواب الشاي و أقداح القهوة و أطباق القنديلة ..!! :: ثم تأتي ليالي الشتاء..ولكن، تجانست أفرع النيم وسعف النخيل و(همة الصغار) و(عزم الكبار)، وإتحدت على قهر البرد.. وبهذا التجانس يحل مساء الشتاء على أهل الديار ضيفاً رحيماً..العشاء وصلاة العشاء في المسيد، وبأمر الآباء فرض عين علينا تجهيز ما يلزم من البرش والأبريق والصابون، ثم وضع الرتينة أو الفانوس على جدارعال، لعل الضوء يجذب عابر سبيل..ثم نعود جرياً إلى الديار، فالبرد يلسع والأجساد النحيلة ترتجف والأسنان تحتك ببعضها.. وهناك، تشعل ست الحبايب نارها، لنتحلق حولها، بعضنا يمسك صبياناً أومريوداً بيسراه وكوب شاي ساخن باليمنى..وحين يرشف الفم كوب الشاي لاتحدق العين في قاع الكوب، بل تحدق في أسطر الصبيان ومريود.. قد يحترق الحطب ويحل الظلام قبل أن نكمل قراءة مجلتنا الحبيبة، ولذا نستغل كل لحظات ضوء و دفء نار الحطب في أسطرها ..هكذا كانت ليالي الشتاء، أي ما بين دفء الأسرة وتجانس الطبيعة، كنا (ندفن بردها )..ثم نترقب - كما الحال العام حالياً - شروق الشمس، لتزيح عنا البرد والظلام، و (نفرح )..وكانت تشرق .. فمتى تشرق في وجه هذا ( الحال العام )، ليودع البرد والظلام و ..(يفرح)..؟؟