آلان بوزويل – (مجلة تايم) ترجمة: عبد الرحمن الحسيني سوداني جنوبي في منطقة طالها قصف طائرات الشمال مؤخراً من أكواخ القش في بنتيو، حيث تحمل لوحات الإعلانات الندب التي تركتها عليها الضربات الجوية، تعج طريق جنوب السودان شمالاً إلى السودان بتحركات الحرب. وإذا توجهت بناظريك يسرة ويمنة، فإنك سترى حقول النفط وقد غطتها الأخاديد الممتلئة بالشظايا. وفي الأثناء، ينساب مدنيون يحملون مقاعد أو حشيات على رؤوسهم، متجهين صوب الجنوب، بينما تروح وتجيء سيارات شحن ملأى بجنود جنوب السودان وثوار إقليم دارفور. وتتوقف قافلتنا التي يرافقها جيش جنوب السودان عند بلدة لالوب -المفرغة من المدنيين والمليئة بالجنود والدبابات والمدافع المضادة للطائرات. وإلى الأمام، نضطر إلى التوقف عند مخيم أصغر من أكواخ القش وحفر المناوشة. وتنتشر القوات إلى الشرق والغرب مرابطة تحت الأشجار في الانتظار. وقال القائد، العميد جيمس كواك: "لقد أسقطوا علينا 24 قنبلة في الليلة الماضية". وأضاف: "وحتى قبل عشر دقائق، أسقطوا أربع قنابل. ومن غير الجيد بالنسبة لك أن تمكث طويلاً". وهذه أحدث جبهة في واحدة من أقدم حروب أفريقيا، غير أن المسرح هذه المرة أصبح أكثر أهمية بكثير: فبعد أن نال جنوب السودان استقلاله في العام الماضي، تحولت ما كانت ذات مرة حرباً أهلية إلى صراع إقليمي كامل. وتوجد على بعد ميلين إلى الشمال من هذا الموقع الجنوب سوداني الحدود الدولية الحالية، حيث اندلع القتال بادئ ذي بدء قبل عدة أسابيع، وامتد إلى الشمال عندما زحف جنوب السودان على منطقة هجليج النفطية المتنازع عليها واحتلها، ثم توغل أعمق في الشمال متعهداً بالسيطرة على المزيد من الأراضي. ويقول جنوب السودان إنه يتصرف انطلاقاً من ضرورة الدفاع عن الذات، لكن الطرف الذي بادر إلى إطلاق النار أولاً ليس معروفاً. والواضح أن حالات التوتر ما فتئت تتصاعد منذ أشهر؛ حيث أقدم جنوب السودان على إقفال صنبور انتاجه النفطي لوقف انسياب النفط إلى الشمال، بالإضافة إلى أن المباحثات بين الجانبين ظلت تعاني من حالة جمود. وفي الأثناء، دان السودان الشمالي بغضب جنوب السودان بسبب روابطه مع مختلف الثوار عبر الحدود. وكان زحف جنوب السودان باتجاه الشمال قد توقف فجأة يوم 20 نيسان (أبريل)، عندما أعلن مسؤولو جنوب السودان في العاصمة جوبا أن قواتهم قد انسحبت عائدة من كامل المنطقة. وتم التخلي عن هجليج مرة أخرى وتركت مرافقها النفطية مشتعلة، فيما جرى نهب البلدة عن بكرة أبيها. الآن، توجد الكرة في ملعب الرئيس السوداني عمر البشير الذي هو في أمس الحاجة لإحراز نصر بعد أن ذاق الإذلال في هجليج على يد جيش عدو كان قبل ستة أعوام مجرد رجال حرب عصابات من الرعاع والغوغاء. ولحد الآن، يرفض البشير العودة إلى المباحثات، كما تعهد بسحق "الجراثيم" في جنوب السودان. وفي الأثناء، تستعد القوات العسكرية في جنوب السودان لمواجهة ما تتوقع أن يكون غزواً برياً انتقامياً، بينما تمطر الخرطوم قنابلها من الأعلى قاتلة بعض المدنيين. ويتنبأ السودانيون الجنوبيون وبعض المصادر الأمنية بأن يقدم البشير على محاولة احتلال حقول نفط "يونيتي" أو حتى الزحف كل الطريق حتى بنتيو نفسها، قبل العودة إلى طاولة المفاوضات بوضع أفضل. وكان تجييش جنوب السودان للحرب قد أحرج الولاياتالمتحدة التي كانت قد دعمت سعي جنوب السودان للاستقلال، والتي تستمر في إلقاء المساعدات والوزن الدبلوماسي وراء الدولة الشابة المتبرعمة. لكن قادة جنوب السودان يقولون إنه لا يوجد لديهم ما يعتذرون عنه. وكان نائب رئيس جنوب السودان، ريك ماتشار، قد قال متبجحاً لمجلة تايم: "لقد حررنا هجليج. وهجليج تقع في جنوب السودان... نحن دائما ضحايا الظلم والاضطهاد". وأمل جنوب السودان بأن يفضي انسحابه من هجليج إلى إرضاء أصدقائه. لكن تلك الخطوة فشلت في إحداث تأثير في غمرة تشكك في أن التراجع كان حتمية استراتيجية وأقل من تنازل دبلوماسي. وفي مواجهة هجوم سوداني مضاد وشرس على طول شريط مستوٍ من دون توفر مواقف دفاعية طبيعية، لم يكن لدى جنوب السودان الكثير من الخيارات غير الانسحاب. وإذن، ماذا الذي سيجري الآن؟ لقد عاد كلا الجيشين إلى النقطة التي كانا فيها عند الحدود القديمة، لكن شيئا لم يعد إلى طبيعته. وفي الأثناء، تسود حالة الحرب وتشتد. ويستمر الضباط العسكريون الكبار في جنوب السودان والقادة الميدانيون في الوصول إلى الجبهة، فيما تستعد قواتهم لخوض غمار حرب ضروس كبيرة. وكان السودان قد شن عدة موجات من الهجمات البرية يوم الأحد الماضي، لكنها ردت على أعقابها. ومنذئذٍ غاصت خطوط الجبهة في صمت غريب لم يعكر صفوه سوى صوت الطائرات الحربية السودانية من فوق والقنابل على الأرض. ولا تقتصر الهجمات الجوية على خطوط الجبهة، ففي الاثنين، لم تكد سيارة كانت تقل صحفيين تجتاز جسر بلدة بنتيو حتى سقطت قنبلة في الجوار. وانتشر الركام في الجو وغطى مسافة خمسين ياردة. وأصاب أحد الصواريخ منطقة السوق، حيث كانت جثة فتى متفحمة مسجاة تحت أعمدة من الدخان. لكن ثمة أمل. فالهدوء الذي يلف خطوط الجبهة يمكن أن يكون مؤشراً على أن الضغط الخارجي الأجنبي يؤتي ثماره. ويوم الثلاثاء، دعت الناطقة بلسان وزارة الخارجية الأميركية، فكتوريا نولاند، الطرفين إلى "إضفاء الرسمية" على وقف إطلاق النار الذي وصفته بأنه "بصيص أمل صغير". كما توجد للصين هي الأخرى مصالح طاقة عميقة في كلتا الدولتين، وهي تدفع باتجاه وضع حد للقتال. وكانت الأممالمتحدة قد دانت بشدة الهجمات الجوية التي شنها السودان تماماً مثلما كانت قد دانت احتلال جنوب السودان لهجليج في وقت سابق. وفي اجتماع عقد في أثيوبيا يوم الثلاثاء، طرح الاتحاد الافريقي خريطة طريق للسلام بين السودانيين، مع فترة إنذار مدتها ثلاثة شهور للطرفين للتوصل إلى صفقة وإلا. وفي الأثناء، تقول مصادر دبلوماسية إن الجانبين يتعرضان حالياً للتهديد بفرض عقوبات مدعومة من الأممالمتحدة إن لم يبديا تعاوناً. ومع وجود الاقتصاد في البلدين في حالة انحدار، فإن وسائل الضغط ربما تكون محدودة. وقد أوقف جنوب السودان، على وجه الخصوص، أصلاً إنتاجه النفطي. كما أنه ليس لديه اقتصاد عامل يمكن إدراجه على القائمة السوداء. لكن جنوب السودان، على عكس جاره الشمالي، ما يزال يبدو حساساً للإدانة الدولية. وقال نائب الرئيس ماتشار: "لا يستطيع جنوب السودان أن يتحمل كلفة أن يكون دولة منبوذة". الحقيقة القاتمة على الأرض، والتي تجعل من صنع السلام عملية صعبة ومراوغة، هي أنه ليس ثمة صراع واحد فحسب في السودانين، وإنما عدة صراعات وكلها مرتبطة ببعضها بعضا. العرض الأول: الدارفوريون المشردون والسودانيون الشماليون الذين انضموا في القتال إلى جنوب السودان؛ سيارات الشحن بلا أغطية، والمدافع الرشاشة الثقيلة؛ ومقاتلو ثوار حركة العدل والمساواة الذين يتدفقون مثل يوم الجلجلة، والماهرون في مناورات الكر والفر وحماية أجنحة الجيش. وإلى الشرق من هجليج توجد جبال النوبة حيث هناك المزيد من الثوار المصطفين مع جنوب السودان، والمؤتلفين مع حركة العدل والسلام، والذين يرفعون منسوب القتال ضد القوات السودانية ويسيطرون على أراضٍ. أما شركاؤهم الثائرون في مكان أبعد إلى الشرق، في النيل الأزرق، فيشنون حرب عصابات على جبهة أخرى ضد البشير. وإلى أن يهتدي السودان إلى طريقة تمكنه من استيعاب معارضيه المهمشين، وإلى أن تتكون الرغبة لدى جنوب السودان في الإقرار بصلاته بهم، فإن المرجح هو أن يظل السلام الحقيقي على طول أحدث حدود في العالم سراباً بعيد المنال، على خريطة طريق تقود إلى لا مكان. *نشر هذا التحقيق تحت عنوان: The War of the Sudans: All Not So Quiet on the Southern Front