الخرطوم: أحمد يونس تمارس الحكومة السودانية سياسة «النعامة» ودفن الرأس في الرمال، حين تتجاهل وتنكر المظاهرات والاحتجاجات التي تنادي بإسقاطها، والتي تتواصل منذ شهر من الزمان، وعلى الرغم من العنف الذي استخدمته وتستخدمه ضدها، والقوة الكبيرة التي وضعتها على أهبة الاستعداد، فإنها تمعن في التقليل مما يحدث، بل تنكره تماما، فيما يرى ناشطون ومعارضون أن سقوط النظام بات وشيكا، وأن انتفاضة سودانية ثالثة على الأبواب، وأن ثورتهم تستلهم الربيع العربي بشعاراته ونتائجه، وتختلف عنه في آلياتها وطرائقها المحلية، ويرون في نفي الحكومي «غيبوبة نظم ديكتاتورية»، مستشهدين بتجربة تونس وليبيا ومصر، التي ظل قادتها ينكرون حتى سقطوا، مشبهين ردة فعل الرئيس البشير وشتائمه «شذاذ آفاق، شماسة» بما فعله القذافي حين وصف شعبه ب«الجرذان». المعارضون والناشطون يرون أن «الانتفاضة مستمرة» وأن شعارات مثل «الشعب يريد إسقاط النظام» التي ظلت تتردد طوال الشهر «كسرت» حاجز الخوف من آلة النظام القمعية تماما، وأن استمرار المظاهرات مهما كان حجمها يكلف النظام الكثير، ويرهق آلته الأمنية، ويحدث خللا في تماسكه الداخلي، بل يقولون إن ثمة «صراعا» داخليا عنيفا بدأ يمور داخله، وأن «حجم المظاهرات» سيزداد تدريجيا، مع تفاقم الضائقة المعيشية، وأن «وقتا» قصيرا يفصل بين السودانيين وانتفاضتهم الثالثة. من جهتها واصلت الحكومة على لسان وزير الدولة في رئاسة الجمهورية، أمين حسن عمر، التقليل من «المظاهرات»، إذ قال ل«الشرق الأوسط»: «هذه احتجاجات محدودة أخرجتها أحزاب وطلابها في الجامعات، وتطالب بحقوق دستورية في الوقت الذي تسعى فيه لإسقاط الدستور». ويواصل: «ما تروج له أجهزة الإعلام ليس صحيحا، لم نواجهها بأكثر من الغاز، وعادة تفرقها أجهزة الأمن في وقت وجيز». ودافع أمين عمر عن استخدام العنف ضد المتظاهرين قائلا: «كل دول العالم تستخدم الغاز لمواجهة الشغب وحرق الإطارات وسد الطرقات، ومع أنه لم يثبت استخدام الرصاص المطاطي، فإنه يستخدم في الحالات المشابهة عند الكثير من الدول». وقال إن حكومته غير «مهتمة» كثيرا بالمظاهرات، لأنها محدودة ومفهومة الدوافع، بيد أنه أيد وجود أسباب قد تدفع بالمواطنين للاحتجاج، تتمثل في سياسات التقشف التي أعلنتها الحكومة، ونفى أن تكون المظاهرات الحالية مظاهرات «مواطنين»، وإنما مظاهرات حزبية تهدف لإسقاط النظام، ومن حق النظام تفريقها لأنها «خارجة» على الدستور. ينفي أمين عمر حتى وجود «مظاهرات»، لكن الشاب الناشط عبد القادر محمد عبد القادر يرد عليه بقوله ل«الشرق الأوسط»: «الثورة مستمرة، دون تحديد سقف زمني يسقط خلاله النظام». ويضيف: «الاحتجاجات بعد أن كانت يومية، استلهمت فكرة (الجمعة) في ثورات الربيع العربي، ولن تتوقف في شهر رمضان، بل ستتحول لمظاهرات يومية تعقب صلاة التراويح استلهاما للفكرة ذاتها». ويوضح عبد القادر أن القمع لن يوقف المظاهرات مهما كان قاسيا، وعلى الرغم من تعرض المعتقلين (أكثر من ألف) لتعذيب وحشي من قوات الأمن و«الرباطة»، فإن الحراك المنادي بإسقاط النظام سيتواصل. ويسخر من استخدام النظام لقوة كبيرة ضد المتظاهرين بقوله: «خوف النظام من السقوط والمحكمة الجنائية الدولية يدفعه لاستخدام تلك القوة». ويرى أن النظام سيفشل في مواصلة استنفار الأجهزة القمعية لفترة طويلة لأن كلفته عالية جدا. وفي تقييمه لشهر من «الثورة» ضد نظام الإنقاذ، يقول مدير مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية، د. الباقر العفيف، إن احتمالات تطور الاحتجاجات مفتوحة. ويضيف: «المظاهرات تعبير حقيقي وصادق عن الظروف الموضوعية للثورة على النظام: الغلاء الفاحش وتراجع القوة الشرائية للمواطنين، والانهيار الاقتصادي الذي يتزايد بمعدلات كبيرة يوميا، ما يوفر وقودا للاستمرار، وإن الحكومة تستخدم القبضة الأمنية الكبيرة والتعتيم الإعلامي الشديد، ولغة تؤكد عدم استعداد رموز النظام للاستجابة للحراك الشعبي». ويوضح العفيف أن النظام يركز على السخرية من المواطنين وقدرتهم على إسقاطه، وأن رموزه يتحدون الشعب، أو يلجأون لتبريرات غريبة جدا، مثل حديث النائب الأول للرئيس علي عثمان محمد طه بأن ارتفاع سعر الدولار لن يؤثر على أرزاق الناس، وأن «الأرزاق من الله». ويسخر العفيف من تلك التصريحات بقوله ل«الشرق الأوسط»: «هذه ليست لغة مسؤول سياسي أو قانوني أو لغة إنسان راشد، هذه لغة لا تحترم عقل الجمهور الذي يستمع إليها». ويصفها بأنها «انسداد الأفق أمام قادة النظام». ولا يرى الباقر مخرجا للنظام من أزمته الاقتصادية، لأنها ليست «أزمة موارد»، بل أزمة إدارة المتوفر منها، ويتساءل: «أين ذهبت عائدات البترول المقدرة ب70 مليار دولار خلال الفترة الانتقالية»؟ ويجيب على سؤاله: «لقد اختفت في ظروف غامضة ولم تظهر في التنمية، وتحول أغلبها إلى المصلحة الشخصية، وإن ما يتفاخرون به من تنمية ممثلة في بعض الطرق وبعض السدود كان عبارة عن قروض في رقاب السودانيين». ويرى العفيف في استعراض القوة الكبير الذي تستخدمه الحكومة ضد المتظاهرين أنه «عض أصابع» بين قدرة الأجهزة الأمنية على الصبر على حالة الطوارئ، وقدرة الحكومة «المفلسة» على تمويلها، وقدرة الشعب على الصمود. ويضيف: «هذه القوة نفسها ستنضم إلينا حين تعجز الحكومة عن توفير مأكلها، وحين تتعب من إنهاك السهر والتعب، بما في ذلك أعضاء التنظيم الذين تم تجييشهم وتسليحهم بالسكاكين والمسدسات لقمع الانتفاضة بالإرهاب». ويرى العفيف أن الحركة الجماهيرية مجبرة على مواصلة ثورتها، ولا خيار آخر أمامها، لأن «تراجع المظاهرات» يعني أن الشعب استسلم وقرر الموت جوعا بدل الموت في مقاومة الظلم. ويضيف: «لكني أقول إن الشعب لن يستسلم لأن الرهان على الشعب أكبر من جلاديه، والشعوب لا تهزم، وحتى لو هدأت الاحتجاجات مؤقتا فإنها ستنفجر مرة أخرى». ويرسم العفيف ثلاثة «سيناريوهات» للتغيير، أولها أن ينقض التنظيم على «الصقور» داخله، ويبعدهم في انقلاب قصر، وبروز قيادة جديدة لديها القدرة على التعامل مع الأزمة السياسية وقيادة الإصلاح في السودان ككل. وإما أن يحاول حزب المؤتمر الوطني إخضاع الشعب كله، وهو الرهان على سيناريو «الاستعباد»، وأن يتحول رموزه ل«سادة» ويتحول الشعب ل«عبيد»، وهو سيناريو «عدمي» يعني تواصل الثورة والإطاحة بهم نهائيا واقتلاعهم من «الجذور». أما السيناريو الثالث فهو تحول الثورة من سلمية إلى عنيفة، يقول عنه العفيف: «قد بدأ بالعنف والضرب والتعذيب الذي تمارسه الأجهزة الأمنية و(الرباطة)، وما حدث في جامعة الخرطوم والهجوم على الناس في بيوتهم هو البداية، فهم لهم تاريخ في الرهان على العنف، قتلوا الناس من قبل في (بورتسودان وكجبار والعيلفون ومناطق أخرى)، وبهذا يكونون قد كتبوا لأنفسهم نهاية سيئة جدا. وسيضطر الناس لمقابلة العنف بعنف مماثل، على الرغم من أن المحتجين يصرون على سلمية الثورة، لكنهم قد يضطرون، وتجارب التاريخ تكشف عن أن قدرة الشعوب على احتمال الموت والدماء لا نهائية، وهذا حدث في اليمن وليبيا ويحدث الآن في سوريا ويمكن أن يحدث عندنا، خاصة أن البلاد (مليئة) بالسلاح، وأن التغيير سيحدث عاجلا أو آجلا».