ظل الاقتصاد السوداني منذ فترة يتأثَّر سلباً وإيجاباً بأشياء وأسباب كثيرة متشابهة تؤثِّر في المقام الأول على سعر الدولار مع اختلاف هذه الأشياء أو الأسباب، حيث كانت الشائعات خلال الآونة الأخيرة تؤثِّر بشكل مباشر على سعر الدولار هبوطاً وارتفاعاً. كما إن الانتخابات التي جرت أخيراً، أثرت فعلاً على الدولار، بحيث إن كثيراً من المواطنين عمدوا حينها للسفر خارج البلاد، للحصول على الدولار بكل الوسائل المتاحة، وبعضهم الآخر عمد أخيراً إلى اتخاذ الدولار مخزناً لقيمة العملة بسبب عدم اليقينية والخوف مما هو قادم. فالكل إذاً يحاول إيجاد ملاذ آمن لمدخراته، الأمر الذي نتج عنه ارتفاع مهول في سعر الدولار. ولأول مرة منذ سنوات بعيدة قفز الدولار لرقم غير متوقّع فاق الجنيهات الستة. ولا ننسى أن حديث المسؤولين في الدولة عن الحصول على ودائع أو قروض خارجية، كانت تؤثر إيجاباً في سوق الدولار على الرغم من أن عودة الدولار للارتفاع مجدداً قد تعني للبعض أن الأمر لم يتجاوز الشائعة. خسائر متوقعة والآن، بمجرَّد الإعلان عن اتفاق حكومة السودان مع حكومة دولة الجنوب حول قضية النفط بمفاوضات أديس أبابا بدأ سعر صرف الدولار في السوق الموازي الانخفاض، حيث انخفض إلى أن وصل 5,600 جنيه، حسب مراقبتي للأمر، مقارنة ب 6,230 جنيهاً عقب الإعلان عن الاتفاق مع توقعات قوية بتكبد الدولار خسائر إضافية أمام الجنيه السوداني في مقبل الأيام، الأمر الذي جعل هنالك ترقباً حذراً وأدى لانخفاض الطلب على الدولار، بل زيادة العرض من قبل المتخوفين من انخفاض سعره. وعلى الرغم من أن الانخفاض ليس جديداً على الدولار، إذا أخذنا في الاعتبار تأثره بالشائعات، ولكن الجديد هذه المرة أن سبب الانخفاض ليس كما السابق فهو حقيقية لجهة التوصل لاتفاق، ورغم أنه لم يتم تطبيقه على أرض الواقع لكن الشاهد أنه بمجرد الإعلان عنه خلق أثراً إيجابياً. وفي تقديري أن المواطنين المتعاملين بالدولار (ناس السوق) قرأوا المشهد جيداً ونظروا للجزء المليء من الكوب ولم ينظروا للجزء الفارغ منه، حيث إن ما حدث من انخفاض لسعر الدولار يؤكد أنهم لم ينظروا له بأنه مجرَّد حديث سياسي يمكن النكوص عنه، بل لجهة أنه اتفاق موقَّع بالفعل. ضغوط دولية ولعلّ ذلك يرجع لعدة اعتبارات على رأسها الضغوط الدولية من قبل مجلس الأمن الذي جددّ للطرفين (الجنوب والسودان) مهلة إضافية حتى 22 سبتمبر لتجاوز بقية القضايا وذلك بناءً على الاتفاق الذي تم. إذاً، الاتفاق أصبح في حكم الواقع بفضل هذه الضغوط وترحيب الولاياتالمتحدة علاوة على الضغوط الإقليمية ممثلة في الاتحاد الأفريقي. وهذه المسألة باتت أخيراً منتشرة بكثافة وليست مقصورة فقط على فئة الأغنياء بل لدى الفئة المتوسطة من المواطنين، واتخاذ الدولار مخزناً لمدخراتهم المالية. وبالنظر لهذه المسألة نجد أن هذه المبالغ كبيرة جداً في جملتها، فهؤلاء النفر كانوا يتوقعون ويطمحون في أن يصل سعر الدولار إلى سبعة أو ثمانية جنيهات عندما سمعوا بالاتفاق، فما كان لديهم مفر من تكبد الخسائر إلا التخلص مما بحوزتهم، فقاموا بعرضه في السوق ما جعل هنالك عرضاً تلقائياً من الدولار دون أن يتدخّل بنك السودان، وكذلك فعل تجار الدولار. وفي المقابل، كان هنالك قلة في الطلب على الدولار لذات الأسباب بالإضافة إلى ترقب المستوردين لمزيد من الانخفاض، ما جعلهم يحجمون عن شراء الدولار بغرض الاستيراد. 200 مليون دولار شهرياً إن ما سبق يوضِّح أن الأمر طبيعي لجهة أن كمية الدولارات الموجودة لدى الأشخاص تفوق بكثير حجمها المتداول عبر تجار العملة، حيث يتخلصون من النقد الأجنبي الموجود بحوزتهم خوفاً من التعرّض لخسائر كبيرة بعد استلام عائدات البترول والذي من المتوقع أن يفوق الثلاثة مليارات دولار سنوياً، وذلك ما أكده وزير الدولة بوزارة المالية؛ عبدالرحمن ضرار، من أن حصيلة العائد الشهري من اتفاق عبور نفط الجنوب تبلغ حوالى 200 مليون دولار، وبالتالي سيزيد معدّل عرض النقد الأجنبي من دون ضخ من البنك المركزي. ونظراً إلى أن ما حدث له أثر إيجابي على الاقتصاد السوداني، فالمطلوب من الحكومة أن تكون في حالة يقظة مستمرة وأن تخطط لمعالجة الفترة ما بين التحسن الإيجابي لسعر الصرف وبين استلام أول حصيلة من النقد الأجنبي لتصدير نفط دولة الجنوب. وحسب تقديري، يتطلب ذلك حكمة من بنك السودان المركزي في ضخ النقد الأجنبي، بحيث يتوازى مع الطلب حتى يكون الانخفاض تدريجياً تحسباً كي لا يضر بالصادر حتى يتم الوصول للشط الآخر (سعر صرف متوازن). وكذلك مطلوب من إدارة الاقتصاد خلال المرحلة القادمة إقرار سياسات رشيدة تمكِّن من تحقيق الاستقرار مع الأخذ في الاعتبار أن التجار إذا طالت الفترة يمكن أن يعاودوا ليتسببوا في ارتفاع مجدداً، مع العلم أن هؤلاء التجار تصعُب مجابهتهم ويمكن أن يخلقوا شائعات للتأثير على سعر الدولار في اتجاه الارتفاع. محاذير وعلى أساس كل ما سبق، فإن هنالك محاذيرَ تكمن في الحرص من عدم الحديث بالتشكيك في الاتفاق الذي تم بشأن عبور النفط، وعلى كلّ مواطن أو مسؤول سوداني أن يشعر بدوره الوطني حيال الأمر، خاصة الإعلاميين. وعلى الحكومة أن ترسل رسائل تطمينية خاصة بعد اعترافاتها المتكررة أخيراً باختلال الوضع الاقتصادي، حيث أقرَّ وزير المالية؛ علي محمود، بظهور اختلال واضح في مؤشِّرات الاقتصاد الوطني. ولعلّ أبلغ مؤشِّرات تدهور الوضع الاقتصادي هو التصاعد الجنوني للأسعار ثم ارتفاع معدل التضخم الذي بلغ في الشهر الماضي 41%، فضلاً عن تدهور سعر العملة الوطنية، حيث بلغ سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني أكثر من ستة جنيهات، ما أدى لأن يظل هاجس الغلاء وتزايد أسعار السلع المستمر يؤرق المواطنين، خاصة ذوي الدخول الضعيفة بعد أن تآكلت القيمة الشرائية للجنيه السوداني، وأصبح السوق يعاني من عرض مستمر وزيادة في الأسعار. ولكن مع الدعوة للعمل في الاتجاه إلى خفض سعر الدولار، فهنالك تحذير يفرض نفسه حتى ولو توفرت القدرة لتنزيل سعر الدولار يكمن في أن تضع السلطات الاقتصادية المختصة الصادر في البال حتى لا نتأثر سلباً، وهذا يتطلب موازنات محكمة. رحاب عبدالله