جبريل ومناوي واردول في القاهرة    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    مشار وكباشي يبحثان قضايا الاستقرار والسلام    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    (تاركو) تعلن استعدادها لخدمات المناولة الأرضية بمطار دنقلا والمشاركة في برنامج الإغاثة الإنسانية للبلاد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    أول اعتراف إسرائيلي بشن "هجوم أصفهان"    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    الأمم المتحدة: آلاف اللاجئين السودانيين مازالو يعبرون الحدود يومياً    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    ((كل تأخيرة فيها خير))    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هلع في مصر من الإلحاد في زمن "الإخوان"
نشر في سودانيات يوم 08 - 05 - 2013


عوالم افتراضية تشكل ظاهرة لامرئية
المستقبل اللبنانية
لم يكن تحذير البابا "تواضروس الثاني" بطريرك الأقباط الأرثوذكس في الكاتدرائية بحي العباسية، في القاهرة، ضد الإلحاد بجديدة. ربما كانت الأولى بالنسبة له، كونه تولى البطريركية منذ ما لا يزيد على خمسة أشهر، غير أن سلفه البابا "شنودة الثالث "، حذر هذا التحذير عشرات المرات. كلاهما - السلف والخلف - تصدى للأمر. يبدو هذا التحذير غريباً في القاهرة نوعاً ما، لم يكن هذا الحديث منتشراً في مصر حتى قبل عام وبضعة أشهر، لكن حينما دعا البابا "تواضروس الثاني" إلى الأمر ذاته في إحدى عظاته قبل شهرين، لم يكن الأمر مستغرباًَ!
وثمة قصة أخرى لا تبعد عن تحذيراً شنودة وتواضروس، قصة القس "إكرام لمعي" راعي إحدى أكبر الكنائس الإنجيلية "البروتستانتية" في حي شبرا بشمال القاهرة. تأتيه عشرات الرسائل من منظمات إلحادية في "لندن"، عرض بعضا منها على الفضائيات، والمثير فيها أنها تدعوه إلى المساعدة في نشر الإلحاد، وهو رجل دين ملتزم!
التحذيرات ورسائل الخوف من شيوع الإلحاد ليست قاصرة على مسيحيي مصر ورئاساتهم الدينية. وإليكم هذه القصة،اتصلت السيدة شقيقة الشيخ المصري المعروف أحمد ترك به ذات يوم.. جاءه صوتها مزيجا من الهلع والغضب والدهشة والاستغاثة. طلبت منه أن يأتي إلى القرية التي تسكنها وأسرتها في الريف المصري على وجه السرعة. ما الخطب؟ سألها، فقالت: إبني صار ملحدا!هرع الشيخ الذي يخطب في آلاف المصريين كل جمعة، ولا يفتأ يعظ المصريين ويحثهم على اتباع أصول دينهم، ويحظى بقبول واسع، لاسيما في الأوساط المعتدلة، لنجدة أسرة أخته.. فملحد في الأسرة معناه نهاية تلك الأسرة!
ذهب الشيخ إلى القرية. اختلى بابن شقيقته، وبقدرة الشيخ ترك على المحاورة والنقاش المطول، توصل إلى نتيجة واضحة: الشاب الذي لايزال أخضر العود، لم يلحد، ولا هو من الإلحاد في شيء. إنه في الحقيقة يائس، محاصر بالإحباط من كل ناحية، لا عمل، لا مال، لا أمان، ولا قدرة على إبصار ضوء في نهاية نفق مظلم يحيا فيه ملايين من الشباب المصري في سنه ذاتها! الشاب ليس ملحداً بل لم يفهم الإلحاد أصلاً، لكنها الثوابت - الثوابت عموماً - التي خذلته، من قريته الصغيرة إلى مجتمعه الكبير، إلى السلطة والنظام، وصولا إلى خواء رهيب من دون حدود بات يلف عالمه الأسود، من أصغر الثوابت إلى أكبرها. إنه ليس مخيفا، فهو ليس ملحداً، وإنما بحاجة إلى من يساعده على لملمة جراحه وإطفاء نار الغضب، قبل أن يهوى يائساً للأبد محطم النفس، متشككاً في وجوده هو ذاته على قيد حياة حقيقية!
.. فالهمس يدور حوله بحذر، ويزداد الحكي انتشاراً، الناس تتكلم عن هذا في مصر، لكنهم يبدون كمن يتكلم عن شبح، الكلام عن انتشار الإلحاد في مصر ولاسيما في الأوساط الشبابية سائد بقوة، لكن الملحدين أنفسهم كائنات إلكترونية تبدو وكأنها غير مرئية، والحقائق هنا كثيرة، لكن الأمر المؤكد أن المسألة برمتها لم تدخل حيز الاهتمام الإعلامي ولا الديني الجاد إلا في السنة الأخيرة. وهي لا تقتصر على دين بعينه، ثمة من يقول إنه ملحد مسلم ومن يقول إنه ملحد مسيحي... وهلم جرا... كما تقول العرب العاربة.
صفحات ملحدة
من يعيش في مصر غير من يسمع عنها. من نافلة القول أن نردد أن المصريين أول من توصل إلى التوحيد منذ عصر الفرعون الفيلسوف "أخناتون"، قبل نحو 3500 سنة من الآن وقبل أي شعب، أو أن نقول إن "الأزهر الشريف" حصن الدين في كل العالم الإسلامي، أو أن المصريين متدينون بطبعهم، متبتلون في حب آل البيت والأولياء الصالحين، ويربطون سائر شؤون حياتهم بتفاصيل دينية، مسلمين كانوا أو مسيحيين. لكن ما استجد على المصريين كثير. لا نبالغ لو قلنا إن الأحوال المصرية منذ منتصف السبعينيات وراء انتشار الإلحاد، صحيح أنه محدود لكنه شاذ تماما عن طبع المصريين.
فمع منتصف السبعينيات جاء الانفتاح الاقتصادي، ليجر معه عشرات الأمراض المجتمعية السرطانية. جاء بالفقر، والبطالة، والفساد، فسقطت الثوابت.. انهارت قيمة العلم مقابل قيمة المال، بعد أن صار الحرفي أو "الإنفتاحي" غير المتعلم أغنى ألف مرة من كبار المتعلمين، ولم يعد العمل "حقاً ولا شرفاً"، تغلبت عليه فكرة "الاحتيال والفهلوة"، حتى التدين المصري العميق والمتسامح والوسطي، تراجع أمام التطرف الفكري والإرهاب بالقول والسلاح أيضاً.. هذه الأمور غيرت تركيبة المجتمع كثيراً، لكنه ظل متمسكاً بخيط رفيع يربطه بقيمه القديمة ولو من الناحية الشكلية، وظل لديه حائط صد - وإن كان حائطا واهنا - ضد التغيرات الحادة في أفكاره.
لكن بعد وصول الإخوان إلى الحكم، سقط هذا الحائط وانقطع الخيط. هل هي مصادفة أن تتكاثر صفحات الإلحاد بعد وصول الإخوان إلى الحكم، وبعد أن تكاثرت في ظل حكمهم أفكار التكفير والعنف الديني، وتقسيم المجتمع، التي تصدر عن حلفائهم السياسيين المنتمين إلى التيار ذاته؟ هذا الانقلاب في تركيبة المجتمع أسقط الكثير وأنشأ الكثير الذي لا ينتمي إلى "السبيكة المصرية" العتيقة في حضارتها في شيء. وليس مستغرباً أن تجد على صفحات الإلحاديين من يدلل على عدم وجود الله - كما يزعمون - بأن الله ترك المصريين فريسة للإخوان. المدهش - لغير المراقب الدقيق للحركات الإسلامية في مصر، أن يقل الإلحاد في العصور العلمانية، كأيام الأسرة العلوية والحكومات المدنية، وفي عصر الحكم الوطني العسكري (1952-2011) من نجيب إلى ناصر إلى السادات إلى مبارك، وأن يتكاثر ويدعو إلى القلق الحقيقي في عصر الأخوان أصحاب الشعار الشهير "الإسلام هو الحل". أما العارف بدقائق الأمور فإنه لن يندهش أبداً، فكل المشروعات السياسية الدينية في العالم العربي فشلت وأدت إلى النفور بين البعض من فكرة التدين، كرد فعل قاس ومعاكس، بحسب نظرية الفعل ورد الفعل.
ومع انتشار الفقر والبطالة والفساد بعد ثورة 25 كانون الثاني - يناير 2011 أكثر من ذي قبل، وتحطم الأمل الكبير في هذه الثورة التي قامت أساسا لمكافحة هذه الأمراض، استفحل شأن "سقوط الثوابت". ومنهم من يحاول إسقاط الثابت الديني، وهذا لا يبعد كثيرا عن صفحات أخذت في الظهور في الشهرين الأخيرين وأسسها بعض المصريين على الفيس تنفي فكرة وجود الوطن وتطالب بتعزيز الصداقة المصرية - الإسرائيلية، مع غموض الربط بين فكرة "وهمية الوطن" وفكرة صداقة إسرائيل. أصحاب التفكير الضحل سيقولون إن الاستخبارات الإسرائيلية وراء هذه الصفحات، ولكن لمَ لا نقول إن هذا هو وجه العملة الأخرى لصفحات الإلحاد. لِمَ لا نقول إن ثمة تساقطاً واضحاً لقيم مصرية لم يسبق لها أن سقطت منذ عهود الفراعنة؟
وغياب الحوار في المجتمع وتحوله إلى اقتتال بين الفصائل السياسية الدينية والمدنية، يسهم في نشر هذه الأفكار الشاذة. في الثلاثينات كتب إسماعيل أدهم كتابه "لماذا أنا ملحد".. لم يكفره أحد ولم يذبحه أحد، ولا رفع ضده دعوى تفريق بينه وبين زوجته، ولكن المجتمع الناضج المتماسك الرشيد آنذاك رد عليه بطريقة أقوى.. كتب "لماذا أنا مؤمن" لمحمد فريد وجدي. فخمدت النزعة الإلحادية قبل أن تولد.
دوائر مفرغة
إن أراد أحد الناس أن يلتقي ملحداً، فعليه ألا يضيع وقته كثيراً بين مقاهي القاهرة، كثيرون يتصورون أن الملحدين منتشرون في أوساط كبار المثقفين، الحق أن من يعتقد بذلك متأثر لايزال بحكايات الخمسينيات والستينيات، ففي تلك الأزمنة، كان المثقفون المصريون متوزعين بين اعتقادات وفلسفات كثيرة، وإن كانت الميول اليسارية غالبة عليهم، وحتى في تلك الفترة لم يكن ثمة ملاحدة في مصر، وللشيوعي الرائد والمفكر الكبير الراحل محمود أمين العالم قول مأثور في هذا: "أنا شيوعي ومتصوف ومن رواد الموالد في نفس التوقيت"، أي شيوعي صوفي مخلص في طقوسه لدرجة الحرص على ارتياد الموالد..وكان يردد دائماً أنه ليس ثمة شيوعي مصري ملحد. فما بالنا بالتيارات غير الشيوعية؟!
إذن لم يكن ثمة مجال فسيح للإلحاد بين المثقفين في مصر كما يتصور البسطاء، الإلحاد - إن تم - فإنه لا يستهدف طبقة ولا ديناً ولا مجالاً مهنياً محدداً، ويبدو انتشاره ذاته محل مبالغة ضخمة، يمكن القول بمنتهى الارتياح أن الإلحاد في مصر "افتراضي"، يعتمد على الحياة الافتراضية عبر الإنترنت. من هنا، فالظاهرة - من الخارج - ضخمة، وفي حقيقتها محدودة للغاية، لا يلحد في مصر سوى عشرات ربما لا يتعدون مئة شخص، ولكنهم - عبر صفحات موقع مثل "فيس بوك" - يبدون للناظرين كعشرات الآلاف. ولكل شيء سببه!
الولوج إلى عالم الإلحاد الافتراضي هذا، يقودك يقينا إلى نتيجة واضحة إن كنت من ذوي الألباب، إنه عالم دائري، دائرة مفرغة كلما درت فيها عدت إلى نقطة البداية. بوضوح شديد: ثمة مئات من الصفحات على الفيس بوك تروج للإلحاد، وعليها عشرات الآلاف من الأسماء، لكنها في حقيقتها عشرات الأسماء. الشاب ذاته يسجل إعجابه like بعشرات الصفحات وفي كل "لايك" لصفحة ينتحل إسماً جديداً، فضلاً عن أن كل شاب أو فتاة في مصر الآن له حسابات عدة على الفيس بوك، ويمكنه التسجيل في صفحات الإلحاد عبر هذه الحسابات المتعددة، فيما لا تمثل هذه الحسابات سوى شخص واحد؟ ببساطة، وراء كل عشرة ملاحدة شخص واحد له عشرة حسابات على الموقع. أما مدشنو هذه الصفحات admins فكل منهم يدشن 5 أو 6 صفحات أيضا من 5 أو 6 حسابات وبالعدد نفسه من الأسماء. هكذا نكتشف أن الجبل يتمخض عن فأر! هذا الفأر يخشى الكثير، الأمن الذي يلاحق هذه الصفحات، المجتمع المصري المتدين بطبعه والنابذ بشدة لأي أفكار إلحادية، وهو بالأساس شخص خائف باستمرار، معاد لمجتمع كامل يتبادل معه الكراهية ليس على أساس من الدين، بل في الحقيقة على أساس من كراهية متولدة من اليأس والإحباط. لهذا، فهو ببساطة فأر يجري مذعوراً في فضاء افتراضي!
صفحة تقودك إلى صفحة، وحساب يقود إلى عشرة حسابات، دائرة مغلقة لا تلد فهي عاقر، ليست عاقرا فقط لأن وراءها أشخاصا محددين بأسماء متعددة، بل لأن حصيلتها الفكرية تساوي في الحقيقة صفرا. بل إذا صبرت على متابعة التعليقات comments الموجودة على أي صفحة منها، تكشفت لك متابعتك هذه عن أمرين واضحين كالشمس: أن الأغلبية العظمى من هؤلاء لا يفقهون شيئاً في الإلحاد ويخلطون بينه وبين شيء آخر هو ما يسمى ب" ازدراء الأديان"، وأحياناً يخلطونه بالوجودية غير الإلحادية، أو بأفكار بدائية ووثنية وأحيانا جنسية. والأمر الثاني أن معظمهم تحت مستوى الوصف بالثقافة، محدودو التعليم أو يفتقدون أي درجة من الثقافة.. وربما يفخر الواحد منهم بالإلحاد ليغطي على جهالاته الشخصية، بل كثيرون منهم يفعلون هذا من باب ادعاء "الفكر" ان كان الإلحاد فكراً!
ازدراء الأديان
من العادي جدا أن يقول أي شخص للآخر وهما يتسامران على المقهى، انه تلقى اليوم فقط 7 أو 8 دعوات على الفيس بوك للانضمام إلى صفحات الإلحاد.. مئات الدعوات تنهمر على أي مستخدم، لو انضم صديق واحد له إلى أي من هذه الصفحات، فورا تأتيه الإحالة على "الفيس بوك" لعشرات الصفحات الإلحادية، والبعض من غير الملاحدة يقبل هذه الدعوات، من باب الفضول، وليتمكن من رصدها وتحليلها، فيما يرى البعض أن مجرد دخولها كفر، حتى لو كان الدخول من باب الاطلاع. وربما تلاحظ أن ثمة تعليقات مضادة على جدار الصفحة وراءها أن بعض المتدينين الصادقين ينضمون لهذه الصفحات لكي يردوا على الملحدين ويفندوا الموضوعات المنشورة واحداً واحداً.
ومع انتشار هذه الصفحات، يمكنك أن تضع يدك على تصنيفاتها الرئيسية. ثمة صفحات إلحادية تندرج تحت مسمى "ازدراء الأديان" ليس إلا، وصفحات أخرى تندرج تحت فكرة "عدم وجود إله من الأصل" من دون بدائل فكرية، مجرد عدم وجوده فقط. وصفحات تمزج الإلحاد بفكرة الجنس، وقليل من صفحات الإلحاد تحاول أن تمنهجه وتضعه في سياق فكري. وهذه وراءها فيما يبدو أناس يعرفون الأديان جيدا ولكنهم سقطوا ضحية تشويش فكري ما، جعلهم متذبذبين عقائدياً.
فاما النوع الأول "الازدرائي" فخلاصته التكلم - كتابة بالطبع- بتعبيرات منحطة وأغلبها بالعامية عن الأديان والنيل من رموزها، حتى ملابس المشايخ والقسس يسخرون منها، هذا النوع من الصفحات يبدو شديد الغضب لافح النار، لا يهدف إلى شيء سوى ازدراء كافة المكونات الدينية الشكلية والجوهرية، بدءاً من الرب الخالق نفسه مروراً بالأنبياء، الذين يزدرونهم كتابة وصوراً وتعليقات وصولا لفكرة التدين. وإذا تأملت تعليقات هذه الصفحات وصورها وجدت نفسك بمواجهة "خناقة"، بشر يتشاجرون مع ذواتهم، يريدون هدم الثوابت الدينية بل العقلية، لمجرد الهدم، واستنزال اللعنات لمجرد استنزالها، وهم في صراع نفساني عميق بدليل قسوة الألفاظ غير المبررة، وعدم وجود أي بدائل لديهم فكريا أو عملياً. يمارسون الهدم بتلذذ شاذ مثل صفحة يرتادها 587 شخص (يعلم الله عددهم الحقيقي الذي لا يزيد في حقيقته على عشرة )، وهي صفحة هدمية صدامية فقط،!
صفحات "نفي فكرة الإله" ذاتها تعتبر من أقدم الصفحات الإلحادية على الإنترنت، وبدأت بمدونات bloggs انتشرت بحذر على الشبكة قبل نحو 6 سنوات ربما كان أشهرها مدونة "عربية" تولدت عنها صفحات على" الفيس بوك ". ويحاول صانعو هذه الصفحات وكذا أعضاؤها، أن يدّعوا الثقافة، وأن يروجوا لفكرة "نظرية اللاربوبية" كما يسمونها، وهي نظرية لا صاحب لها لا في الفلسفة ولا في علم الاجتماع ولا طبعا في العلوم الدينية، وهذه الصفحات تنسف فكرة الرب في جميع الأديان: اليهودية والمسيحية والإسلام. فهي ضد الفكرة ذاتها. ويروج القائمون عليها لفكرة تعارض وجود الرب مع حرية الإنسان. ويزعمون أنهم يقدسون فكرة "قدسية الإنسان" والوجود المادي، ويقدمون خليطاً من الماركسية والوجودية وبعض النظريات القديمة لتبرير وجود الإنسان، ليدخلوا في أذهان مرتادي الصفحات أن الله لم يخلق الكون بل جاء بالتطور المادي، الذي يتكشف كلامهم عن عدم فهمه له. من هذه الصفحات صفحة يرتادها إفتراضيا قرابة 3 آلاف شخص، واختار صاحب الصفحة الرائجة صورة مرسومة لسيزيف يرفع الحجر الدائري فوق الجبل،إنها مأساة سيزيف وجزاؤه، فهل صاحبها عدمي أو وجودي الحادي، أم أنه لم يدرك فكرة مأساة سيزيف أصلاً؟!
الجديد حقا والذي لم يظهر سوى من أشهر معدودات هو صفحات الإلحاد الممتزج بالجنس، وهي فكرة غريبة جدا على المجتمعات العربية، لكنها ولدت مئات الصفحات بصورة تبدو مفاجئة، وكأن ثمة اتفاقا جمعيا بين عدد من الشباب قرروا نشر هذه الفكرة بالغة الغرابة. وتقوم هذه الفكرة على عبادة الجسد البشري، الأنثوي أو الذكري، مع عدم الإيمان بالربوبية في أية دين، ويؤمن هؤلاء ب" تناسخ الأرواح" ليبرروا أن موت هذا الجسد ليس نهايته، فإن كان رجل يعبد امرأة فهي ستظل حية لأن روحها ستتحول إلى روح سيدة أخرى بشكل ثان. والعكس صحيح. هي صفحات وثنية بالمعنى الكامل للمصطلح كونها تقوم على عبادة الوثن، ومعروف أن أي وثن يتم تقديسه حتى ولو كان بشريا فهو "فيتيشية".. وهذه الصفحات تنتشر فيها صور وموضوعات لازدراء جميع الأديان ممزوجة بصورة للجسم البشري، وإذا دخلت إلى هذه الصفحات.. بدا لك أنك أمام مجموعة من البشر ذوي التعليم العالي والإلمام باللغات الأجنبية، لكنهم شديدو البدائية في أفكارهم، ولديهم هلاوس غريبة للغاية، واختلاط يصل إلى حد الجنون في كافة المفاهيم الدينية والاجتماعية والفلسفية والجنسية!
أما الصفحات "الممنهجة" فيبدو القائمون عليها ذوي خلفيات دينية كافية، وعلى مستوى لا بأس به من الثقافة، بل يبدو بعضهم من الملمين بعلم "مقارنة الأديان". ويستغلون هذه الثقافة الدينية النسبية في تمثيل دور "المعلم" على مريدي صفحاتهم، الذين ينادون المشرفين - الأدمن - بلقب "الأستاذ" أو "العالم"، وهو يرد عليهم على الصفحة بغرور مذهل، كأنه واعظ يلقي على الناس تعاليمه العظيمة، هذه الصفحات تركز على هدم فكرة الدين - أي دين - من داخله، فتقوم من وقت إلى وقت بالطعن على ثابت من الثوابت الراسخة في هذا الدين، لتزعزع يقين مرتادي الصفحة، ثم تتبنى قضية أخطر وهكذا إلى أن تصل لفكرة اللادينية، وهو مصطلح يميز هذه الصفحات، التي بدأت بمنتدى إلكتروني "عربي" قبل 6 سنوات، ثم تحول إلى عشرات الصفحات على فيس بوك بعد أن صار هذا الموقع أكبر منبر إلكتروني للتواصل على الإطلاق. ومن صفحات هذا الاتجاه ما يأمه إفتراضيا نحو 7120 عضواً، وصفحة يبدو صاحبها متفلسفاً، ويقول عن نفسه إنه ملحد وبها 3462 شخصا، ولها شعار هو: "حقيقة.حرية.عدالة"، يتندر بعض الأعضاء على الصفحة باسمه فالحرية والعدالة في آخر الشعار ليسا سوى الاسم الرسمي لحزب الإخوان في مصر!
لا تزال الظاهرة الى اليوم إلكترونية، ولايزال مريدوها لا يتعدون الألف على الأكثر، ولكن كيف سيكون المشهد بعد سنة مثلا؟ صحيح أن المؤسسات الدينية في مصر شديدة التماسك وأن الشخصية المصرية لا يمكن أن تستسيغ مثل هذه الأفكار، لكن المجتمعات دائمة التغير، ومصر هذه الأيام تتطوح يمينا ويسارا، وأي مياه مهما يكن تلوثها يمكن أن تصب في النيل العظيم اليوم.. وتحدث به كدرا، والفئران تتحور، وها هي تقرض بأسنانها النشطة ثوابت اجتماعية على الإنترنت، والحل ربما لا يكون في قتل هذه الفئران المذعورة، بل باصطحابها إلى المعامل لعلاجها. فمعظم الملحدين المصريين - على قلتهم - ليسوا من الإلحاد في شيء، ولكن هل سيستمرون هكذا، أم سيفيقون، ام سيتحولون إلى ملاحدة حقيقيين؟ المعنى في بطن المجتمع الذي يموج بالتغيرات الحادة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.