صلاح سالم رغم نبلها، لم تكن الأفكار الطوباوية فاعلة في التاريخ، إذ لم يستطع المؤمنون بها أن يحققوها على الأرض، بل يمكن القول إنها استخدمت، كالأديان أحياناً، ركيزة لفرض الهيمنة السياسية، بدلاً من أن تلعب دورها الأصلي، كمصدر إلهام للضمير البشري، يساهم في حصار نزعات الشر والقبح في التاريخ الإنساني الطويل. وربما تمثلت أول طوبى في جمهورية أفلاطون، التي حاول فيها الفيلسوف الكبير إرساء القوة «السياسية» على أرضية «المعرفة» الفلسفية، ليكون الحاكم «حكيماً» قادراً على نشر الفضيلة ورعايتها من خلال إشاعة المعرفة وترسيخها، حيث ذهب أفلاطون، ومن بعده أرسطو، إلى الثقة بالروح الإنسانية. فالإنسان لا يرتكب الخطأ وهو عارف، بل نتيجة جهله، وما إن يعرف حتى يغادر حظيرة الشر إلى فضاء الخير. وعلى الطريق الفردوسي هذا دعا أفلاطون إلى تحقيق حلم المساواة حيث الأشياء كلها ملكاً مشاعاً، والخير العام في حال من الازدهار بفعل غياب الملكية الخاصة التي طالما قضت على مبدأ المساواة. ولكن إذا علمنا أن تلك المساواة المشاعية التي تأسست عليها جمهورية أفلاطون قد انطوت على استبعاد للعبيد والمرأة ناهيك عن الأطفال، بدلاً من مكافحة الرق واحترام المرأة، كما انطوت على احتقار للفكرة الديموقراطية نفسها باعتبارها شعبوية تناقض سلوك الحكماء، أدركنا إلى أي مدى كانت المثالية الأفلاطونية حاضنة لقيم استبدادية ونزعات هيمنة أبوية بتعبيرات اليوم ومفاهيم العصر، رغم بريقها المثالي الخادع، والذي ربما كان عصياً على الكشف في زمانه. وتمثل «مدينة الله» التي دعا إليها القديس أوغسطين في القرن الخامس الميلادي نموذجاً للطوبى الدينية للعصور الوسطى الأوروبية، ربما كانت البداية لنزعة الهيمنة السياسية باسم فكرة مثالية. فقد حاول القديس/ المفكر أن يضع فصلاً بين المدينة السماوية والمدينة الأرضية، مقدماً، كما هو متوقع، السماء على الأرض مختصراً السماء في الكنيسة التي هي مدينة الله، والأرض في الدولة أو الإمبراطورية التي هي مدينة الإنسان أو ربما الشيطان، تلك التي لا تملك أية سجايا أخلاقية خاصة بها. ومن ثم فإن ما يحدد كونها مدينة الإنسان أو الشيطان إنما هو قدرتها على العمل في خدمة الكنيسة. هذه النظرة الأوغسطينية للعلاقة بين المدينتين هي التي استخلص منها البابا غريغوري السابع نتائجها النهائية السلبية. لقد كان غريغوري أحد أخطر البابوات في تاريخ الكنيسة، هو من قام بالتصدي ل «التقليد العلماني» الذي كان يضمن سيطرة العلمانيين على الكنيسة، وأدى إلى ما عرف باسم «السيمونية» (أي نظام بيع الوظائف الدينية من قبل الدولة/ الإمبراطورية). لقد اعتبر السلطة السياسية، في الأصل، من خلق البلطجية والقتلة، وأن الدولة ليست إلا قابيل الذي قتل أخاه هابيل، فيما السلطة الشرعية الوحيدة في العالم هي سلطة القساوسة، لا سيما أسقف روما، نائب المسيح على الأرض. فأولئك الذين يخضعون لهذه السلطة التي أرستها السماء هم فقط المنضوون في مدينة الرب، وهنا انقلب الوضع لمصلحة الكنيسة التي أخذت تتلاعب بالدولة، وأدخل أوروبا في النفق المظلم للعصور الوسطى. وثمة أخيراً طوبى إيديولوجية صرفة (شيوعية) بنت أحلامها على «الاشتراكية العلمية»، التي عولت على قيمتين متطرفتين في الحقيقة: الأولى هي النزعة المساواتية المطلقة، والثانية النزعة العلمية المتطرفة. وكلاهما معاً صاغت نموذجاً للإنسان أقرب واقعياً إلى الروبوت: إنسان لا يعبأ بالمشاكل الأخلاقية التي تعنى بالخير والشر، لأن قضية الشر فردية، تقوم على الحرية وتفترض التفاوت الأخلاقي بين الناس، أما الطوبى فكل شيء فيها مخطط تماماً على نحو كلي وجماعي. ولذا يضمحل عالم الإنسان الداخلي الهائل ليتحول إلى نقطة هامشية زائفة، فلم تعد له شخصية، بل مجرد سيكولوجية قائمة على وظيفته في عملية الإنتاج، ليس لديه نفس كاملة تتعذب وتتألم وتندم وتتوب، ومن ثم لا توجد لديه مشاكل إنسانية أو أخلاقية، ولا يحيا حياة كاملة مفعمة بالطموح والأمل، والإخفاق والإحباط، وإنما هو كائن يلعب دوراً في بنية كلية شاملة تتجاوزه، مثل ترس صغير في آلة كبيرة تستوعبه وتتجاوزه. إنه في الأخير كائن وظيفي يلعب دوراً في «المؤسسة»، وليس كائناً إنسانياً حقاً يعيش الحياة. فالحياة الحقة هي الحرية، وهو محروم من الحرية. وهكذا نزعت الشيوعية كل ممكنات الحرية لدى الإنسان كي تمنحه حياة «منظمة» خالية من الألم، غير أن المفارقة الكبرى أنها زادت من ألمه، بنفس القدر الذي حسمت به من حريته، فكان سقوطها المدوي بعد أن برز خداعها الكلي. ولكن يبقى السؤال: هل كانت الشيوعية هي الطوبى الأخيرة أم أن التاريخ لا يزال حاملاً لأوهام أخرى قد يقذف بها في وجوهنا يوماً ما؟ وفي اعتقادي أن التصورات الاختزالية عن العالم، تلك التي تستبطنها وترفع شعاراتها تيارات الإسلام السياسي، إنما تمثل «طوبى جديدة»، تستبدل النزعة المثالية لدى الفكر الطوباوي بالنزعة الغيبية المرتبطة بالدين، وتهرب من الصراع على الأرض داخل عالمنا، ولكن ليس إلى عالم جديد ممكن داخل زماننا وعلى كوكبنا كما سعى الفكر الطوباوي، بل إلى عالم غيبي لا يمكن استدعاؤه إلى عالم الشهادة / التاريخي/ الراهن، وإن أمكن ترتيب عالمنا الشاهد على أساس من اليقين به. وهكذا تمثل تيارات الإسلام السياسي نوعاً من الطوبى الرديئة التي تحمل كل عيوب الطوبى الوضعية، وتفتقر، في المقابل، إلى جل مميزاتها، فيما عدا الطوبى الشيوعية التي جسدت القصورات ذاتها والمثالب جلها، لأنها انعكست في تجربة عملية وواقعية مفعمة بالاستبداد والوحشية. إن المتأمل للنص القرآني يجد فيه احتراماً بالغاً وتقديراً واسعاً للروح الإنسانية، ولقيمة الإنسان كذات فردية مسؤولة عن نفسها، قادرة على تلقي الرسالة الإلهية وفهمها وممارستها، فعلى أساس هذا التقدير للشخصية الإنسانية تتأسس رسالة الاستخلاف الإلهي على الأرض في عالم الشهادة، ثم يكون الحساب بالثواب والعقاب في عالم الغيب. وترتيباً على ذلك، يمكن القول إن الإسلام الصحيح يضاد كل مقولات الإسلام السياسي كنمط تفكير طوباوي وخلاصي، عنيف ودموي، يقوم على تسلط جماعي وروح قطيعية، تسعى لبناء كهانة دينية تعمل بمثابة الحاجز بين الله والإنسان، وكهانة سياسية تعطل نمو الذات الفردية للمسلم الحر، المريد سياسياً والمسؤول أخلاقياً.