الشفيع خضر قراءة في المشهد السياسي : الحوار وتهيئة المناخ د. الشفيع خضر منذ ربع قرن من الزمان، والشعب السوداني يئن وتتمزق أحشاءه من جراء طعنات "السكاكين الميتة": انفصال الجنوب، الحرب الطاحنة في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، والتي نتيجتها هي هزيمة الوطن، وستستمر الهزيمة مادامت الحرب مستمرة، الضائقة المعيشية التي أوصلت الروح الحلقوم، الفساد ونهب المال العام بقوة الدولة وحمايتها، ذبح العدالة واهتزاز الثقة في مؤسساتها، اغتيال الطلاب والمتظاهرين السلميين والصمت عن الجريمة....! وما بين جريمة الانفصال وجريمة الحرب وجريمة تجويع الناس وجريمة "حاميها حراميها" وجريمة ذبح العدالة وجريمة القتل السياسي العمد، ما بين كل هذا وذاك، يطل علينا "الحوار الوطني"، فاغر الفم، يمشى على أربع كعجل السامري! والمطلوب منا أن نسرع الخطى، هاشين باشين، إلى طاولة الحوار، ومنها إلى مائدة وليمة العشاء الفاخر، نتبادل الابتسامات الممزوجة ببقايا الشواء والجاتوه، ثم نهجع إلى منازلنا، نتجشأ مصطنعين راحة البال والضمير، وما نحن بذلك..! كلا، لا نقبل هذا، ولن نساهم فيه، ولنا حيثياتنا:- أولا: من حيث المبدأ، سيظل الحل السياسي السلمي للأزمة الوطنية هو ديدننا. وعلى عكس ما ظلت تصوره بعض الأطراف، وكأننا نشكك في جدوى أو أفضلية أو حتى مشروعية الحوار والحل السياسي التفاوضي، فإن جوهر القضية بالنسبة لنا هو محتوى ذلك الحل وذلك الحوار. ونحن نرى أن أي مشروع جاد للدخول في حوار وحلول تفاوضية، يبدأ بإقرار الأزمة، ويحدد هدفه في الاتفاق على أسس معالجتها بصورة جذرية. بل ونحن نقول أكثر من ذلك، ففي ظل الأوضاع التي تعيشها بلادنا، يظل الحوار مرغوبا ومطلوبا، ولا يمكن أن يرفضه إلا مجنون أشر!. فالحرب الأهلية، والتي اندلعت لأسباب بعينها، أفرزت نتائجا تحولت هي بدورها إلى أسباب جديدة لها قدرة على ضخ دماء الغضب في عروق أبناء الوطن الواحد، أصحاب المصير المشترك. واكتسبت، أي الحرب، صفة الاستدامة، مراكمة قدرتها التدميرية الهائلة، وفعلا، لا خيالا، أصبح الغد معتماً ومخيفاً. فأبناء الوطن الواحد، مهددون بأن يتحولوا إلى أفراد لا يجمع بينهم سوى الجغرافية المشتركة المضطربة المهتزة غير المستقرة، أما روابط التاريخ والانتماء، فكلها تبدو آيلة للسقوط..! ونحن نرى في ذلك مظاهر الانحدار نحو هاوية ما قبل الدولة، أو دولة اللادولة stateless state، وهو وضع يتطلب ويستوجب الاتفاق على عقد اجتماعي جديد، نصيغه بمفاهيم محددة ومجمع عليها، هدفها إنقاذ الوطن وإعادة بناء دولته. وهو وضع لا تجدي معه محاولات الترميم وجراحات التجميل التي لا تطال سوى الجلد والسطح. وبلغة السياسة، فإن مشروع الحوار الجاد والحقيقي، بالنسبة لنا، ينبغي ألا يكون مساومة أو مناورة بهدف إنقاذ الحزب الحاكم من ورطته، أو بهدف إعادة اقتسام كراسي السلطة، وإنما بهدف تفكيك دولة الحزب لصالح دولة الوطن. نقول هذا بكل وضوح وبدون أي لف ودوران، بل لن نشارك في أي حوار لا يحقق هذا الهدف ثانيا: لماذا كلما يقال لنا حواراً، نقول تهيئة المناخ؟ الإجابة بكل بساطة لأننا لا نثق في الحكومة وحزبها، ولم تتولد لدينا، حتى الآن، قناعة بأنها حزمت أمرها تجاه حوار جاد لحل الأزمة. ولقد عودتنا الحكومة أنها، كلما ضاق بها الخناق، تلوح بالحوار كطعم تصطاد به من تصطاد. لذلك، من الطبيعي أن نتوجس، ونسعى ألا نلدغ من ذات النظام أكثر من مرتين! ولأن قضية بناء الثقة لا تختبر بالنوايا والكلام الطيب، وإنما بالملموس المحدد، طرحنا إجراءات تهيئة المناخ في ركيزتين أساسيتين: الأولى، هي استعداد النظام لإعلان وقف إطلاق النار والسماح بمرور المساعدات الإنسانية للمناطق المحترقة في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق. وبالطبع نحن لا نعني وقف إطلاق نار من جانب الحكومة فقط، بل من الطرفين، لكن الطرف الآخر سبق وأعلن استعداده لوقف إطلاق النار بهدف فتح الممرات الآمنة لتوصيل المساعدات الإنسانية. أما أن يرسل النظام دعاوى الحوار والمصالحة مع المعارضة السلمية في المركز، وفي ذات الوقت يزيد الحرب اشتعالا في الهامش، ثم يأتي الحديث بأن يذهب ناتج الحوار، التحالف الجديد المتوقع، لمخاطبة وعلاج الحرب، فإن المسألة تصبح أشبه بتاتو بين أبناء المركز، أبناء البحر، ضد أبناء الأطراف والهامش، مما يزيد من حدة الصراع، ويضاعف الضغائن والإحن. أما الركيزة الثانية، فهي ضرورة أن يجمد النظام العمل بالقوانين المقيدة للحريات، والتي هي في الحقيقة تتعارض مع دستور 2005 الانتقالي الذي وافقنا عليه يوم صدوره. هذه الخطوة، أساسية وضرورية لتوفير الجو الملائم للحوار، وهي ليست أكثر من توفير حرية الاجتماع والتنظيم والتعبير والحركة، ليمارس شعبنا حقه الكامل في الحوار الدائر بشأن مستقبله، لأن من حق هذا الشعب أن يشارك مشاركة حقيقية وكاملة في أي حوار يتعلق بمستقبله ومصيره، وأن يتابع بعيون وآذان مفتوحة أي تفاوض من هذا النوع، حتى لا يختزل الأمر في اتفاقات النخب. وفي معركة الحوار والتفاوض، يستخدم النظام كل الإمكانات المتاحة له: هيبة السلطة وعلاقاتها الدولية، وموارد الوطن وثرواته، وأجهزة الدولة الضاربة في القوات النظامية والقوات الموازية وقوات الأمن والاستخبارات، ومؤخرا قوات الدعم السريع، وشبكة الإعلام الداخلي والخارجي...الخ، في حين إمكانات المعارضة المادية أقل بكثير، على الرغم من أننا نراها أصيلة باستنادها على قوة الحق والشعب. إن مطلب تهيئة المناخ لا يعدو أن يكون عربون جدية من جانب النظام الذي رسب بامتياز في كل اختبارات الجدية والثقة السابقة. إن تلبية متطلبات تهيئة المناخ، بركيزتيها، لا يمكن اختزالها في تصريحات من قبل رئيس النظام أو غيره، كما لا يمكن حصرها في إطار التفسيرات التي يقدمها قادة النظام وسدنته، لأن الثقة في النظام أصلا غير متوفرة. وبدلا من الخوض في مماحكات لا طائل منها، كأن تصدر قرارات جمهورية تثير اعتراضات واسعة، حتى من خارج صفوف المعارضة، يفترض أن تصدر من النظام مراسيم وتدابير دستورية وقانونية واضحة تلبي هذه المتطلبات، وعندئذ سنخطو نحو الحوار خطوتين.