د . الشفيع خضر سعيد ** تلبية متطلبات تهيئة المناخ لا يمكن اختزالها في تصريحات من قبل رئيس الجمهورية أو نائبه، كما لا يمكن حصرها في إطار التفسيرات التي يقدمها قادة النظام ومرة أخرى تنطلق دعاوى الحوار والوفاق، وهي دعاوى متكررة، وتتكرر معها ردود الأفعال مابين مرحب ومتحمس ومشترط ومشكك، بل وهنالك من يتعامل وكأنها المرة الأولى التي تنطلق فيها هذه الدعوة، ناسيا، أو غافلا، عما سبقها من دعوات إنتهى بعضها بإتفاقات مكتوبة وموقعة ومشهود عليها دوليا وإقليميا. ومع كل دعوة جديدة للحوار والوفاق، ينشغل الذهن، على الأقل ذهني شخصيا، بسؤال رئيس هو: لماذا لم تنجح دعاوى الحوار السابقة، وخاصة تلك المتوجة بإتفاقيات أعقبتها إبتسامات التصالح والتعافي المتبادل، لماذا لم تنجح في تحقيق معادلة السلام والإستقرار في السودان، رغم كل ما بذل في هذه الإتفاقيات من جهد ومال، ورغم الدعم الواسع لها، وأحيانا المشاركة المباشرة فيها، من المجتمع الدولي والإقليمي؟ ولماذا كانت هذه الاتفاقيات دائما تحمل في داخلها بذرة فنائها؟ أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال هي مبتدأ خروجنا من الحلقة الشريرة الجديدة، حلقة حرب...مفاوضات...حرب، أو تأزم....حوار...فشل وتأزم، الحلقة الفرعية المتخلقة عن الحلقة الشريرة الأم: ديكتاتورية...إنتفاضة...ديمقراطية...ديكتاتورية. لا أعتقد أن إجابة هذا السؤال يمكن أن تأتي من فرد واحد أو حزب واحد، فقد ولى زمن الفرد السيوبر، وأنقضى أيضا عهد الجماعات التي تدعي قدرتها على أنقاذ وإصلاح المجتمع. بل أقول، إنه دون توفر حالة تشارك وتفاعل حقيقية يحسها أي فرد في أي مجموعة من مجموعات المجتمع المختلفة، لن نخطو خطوة واحدة في معالجة قضايا مجتمعنا. ولنتناول الآن بعض الصور والوقائع، والتي دائما ما تتكرر مع دعاوى الحوار والوفاق، علها تساعدنا في الإجابة على السؤال أعلاه: أولا، دعاوى الحوار، بما فيها الدعوة الأخيرة من الرئيس ونائبه، دائما لا يظهر منها إلا ما هو سطحي، بمعنى، لا يسبقها إعتراف بالأزمة أو نقد أو مراجعة، كما لا تشتمل على مشروع ملموس ومحدد. وعلى الشعب التكهن بلماذا وكيف ومتى! بل، دائما ما تخرج الدعوة للحوار وكأنها منحة أو صدقة، وليس خطوة ضرورية لحلحلة الأزمة المتفاقمة في السودان. ثانيا، الدعوة للحوار بمقدمات إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، هي دعوة لا يرفضها أي سياسي. فهي لا تضع الطرف الخصم في حالة (بيدي لا بيد عمرو). ولكنها ستظل دعوة ناقصة ما دامت لم تستكمل بالإعتراف بالخطأ في حق مناضلين دعوا للسلم والحوار بذهابهم لمقابلة قادة الجبهة الثورية في كمبالا. فالنظام يدرك أكثر من غيره أن الموقعين على مسودة ميثاق الفجر الجديد، هم جميعا من أنصار المعارضة السلمية، وليسوا مجرمين إرتكبوا جرما، فعفى الرئيس عنهم وتغاضى عن ذنوبهم. ثالثا، ورد في خطاب رئيس الجمهورية الأخير أمام الدورة البرلمانية الجديدة، إشارة لتهيئة المناخ من أجل إلتئام الحوار دون شرح أو توضيح لكيف ستتم هذه التهيئة. ولنكن واضحين في هذه النقطة: فالثقة بين النظام والمعارضة منعدمة، ولا يمكن إستعادتها بالكلمة الطيبة أو الإشارة إلى النوايا الحسنة، فتلبية متطلبات تهيئة المناخ لا يمكن اختزالها في تصريحات من قبل رئيس الجمهورية أو نائبه، كما لا يمكن حصرها في إطار التفسيرات التي يقدمها قادة النظام. ومن حق المعارضة، إذا لم ترى الملموس في تهيئة المناخ الملائم للحوار، من حقها أن تنظر بريبة وتشكك تجاه دعاوى الحوار المقدمة من النظام، ولا ترى فيها سوى محاولات النظام لإدماج الآخرين في مؤسساته وفق رؤاه وثوابته هو، لا ثوابت الوطن. إن تدابير تهيئة المناخ تبتدي بإطلاق سراح المعتقلين ولا تنتهي بها، بل وتستكمل بإلغاء مؤسسة الاعتقال بسبب الرأي ومعتقد الضمير، وإسقاط الأحكام عن المحاكمين سياسيا، وإلغاء كل القوانين المقيدة للحريات وإطلاق الحريات العامة وفي مقدمتها حرية التعبير والتنظيم ورفع الحظر عن الصحف...الخ، على أن يتم كل ذلك وفق تدابير دستورية يعلنها رئيس الجمهورية. إن المنادة بتهيئة المناخ، ليست شرطا للحوار، بل هي إحدى الضمانات لعدم تكرار تجربة فشل دعاوى الحوارات السابقة. وهي منادة، تحقق مشاركة الشعب، بجماهيره وقياداته، مشاركة حقيقية وكاملة وفاعلة في حوار ومفاوضات القادة السياسيين. فالحوار الجاد للخروج من الأزمة، لا يمكن أن يكون متعلقا بمصير القادة السياسيين، وإنما بمصير الشعب والوطن. رابعا، والحوار الجاد، لا بد أن يكون بعيدا جدا عن كونه مجرد مساومة بين طرفين أو ثلاثة من أطراف الصراع، أو مجرد مناورة بهدف إنقاذ النظام من ورطة ما، أو مجرد تغيير إدارة بإدارة...الخ، ومن ثم تكراراً لتجارب سابقة حملت في داخلها بذور الأزمة التالية، بل أن ينتج عنه إقرار بالأزمة واتفاق على أسس معالجتها بصورة جذرية. خامسا، ليس بإمكان أي إنسان سوي إلا أن يقف ضد الحرب، ولكن الوقوف ضد الحرب يستوجب التفكير أيضا عن أسبابها وتداعياتها، بهدف منع تجددها. وفي حالة الحروب الأهلية، من الخطورة على الوطن رفض دعاوى الحوار، لكن، ذلك لا يعني الإنجرار وراء إخماد النقاش حول اسباب الحرب وتداعياتها، بحجة ترتيب البيت من الداخل وتوحيد الصف الوطني لمقاومة عدو متوهم. بل، يجب أن نتعلم كيف نخرج من الحروب المتكررة في وطننا برؤي واضحة وخطط ممكنة للتعايش المشترك، والعيش في سلام. سادسا، إن أزمة البلاد لا ترتبط بوجود شخص بعينه، حتى يشغلنا الإعلام بصراعات من سيخلف الرئيس من أعضاء الحزب الحاكم نفسه، وكأن الشعب السودان ليس له أي خيارات خارج دائرة المؤتمر الوطني. كذلك، بعض المراقبين يربطون دعوة الحوار الأخيرة بلقاء علي عثمان وعلي الحاج، وبإتصالات، أو إيحاءات بإتصالات، بين البشير والترابي، بمعنى أن الجديد في دعوة الحوار الأخيرة هذه، هو ظهور المؤتمر الشعبي كخلفية توحي بأن أزمة السودان (يحلها الشربكا)!!. ألأفضل أن يتابع الشعب السوداني كل التفاصيل، وأول بأول، فلا داعي للمناورات، واللقاءات الخفية والأخبار التي تخرج بالقطارة. إن أزمة البلاد سببها كنكشة حزب واحد على السلطة، وإحتكاره لكل مفاصل الدولة والاقتصاد، حتى صار هو المتحكم في حياة الناس، وبسياسات تأكد فشلها التام، ومسؤوليتها المباشرة عن التدهور المريع في كل مناحي الحياة. لذلك، فأن المسألة تتعدى مجرد الدعوة العامة للحوار، لأن الأزمة تتعلق بكيفية حكم البلاد، وطرق حل مشكلاتها. وذلك يستدعي جهدا متصلا، من الجميع دون إستثناء، يبدأ بوضع خطة واضحة لإدارة حوار وطني يتفق الجميع على أن هدفه هو الذهاب إلى وضع انتقالي، تديره حكومة إنتقالية تكون أولى مهامها وقف الحرب وإرساء مقومات عدم تجددها، والعمل على إستعادة دولة الوطن من قبضة الحزب الواحد، وعقد المؤتمر الدستوري، والإشراف على قيام انتخابات حرة ونزيهة. أعتقد، أن ما تمر به بلادنا اليوم، يدفع بكل قواه، والتي ظلت، ولأسباب سياسية واجتماعية وتاريخية وإقليمية...الخ، تتخاصم وتتصارع حقبا طويلة، يدفع بها لأن تقتنع بان الوطن كله أصبح في مهب الريح، وان خطرا داهما يتهددها جميعا، وان التفكير السليم يقول بان ما يجمعها من مصالح، في الحد الأدنى الضروري للحياة، أقوى مما يفرقها، وأنه آن الأوان لكيما تلتقي بجدية واخلاص لصياغة واقع جديد في السودان....، فهل يا ترى سنعي الدرس؟؟