الخرطوم في 30-9-2015- إذا ما جئت بلدة كرمة شمال مدينة دنقلا السودانية، على ظهر مركب شراعي مصنوع من خشب السنط يسير بهدوءٍ على مياه النيل المتماوجة، فأن أول ما سيسترعي أنتباهك ويثير أعجابك هو مبنى من الطين المحض مرتفع عاليا. أو جئتها بسيارة على الطريق البري مخترقا الصحراء فأن أول ما سيحرك فضولك هو ذات مبنى الطين المرتفع شامخاً. وبعد ان تقترب من المبنى الذي يطلق عليه سكان كرمة باللغة النوبية (الأوروين دوفي)، أى دفوفة الملوك، ويعرف أثاريا وتاريخيا ب(الدفوفة السفلى)، و(الدفوفة الغربية)، فستكتشف أنك كنت محقاً في أعجابك حيث ستظهر بجانبه ضئيلا، وستجد ما يروي فضولك، ولكن ستزداد حيرتك. ولكن أطمئن بالاً فأنت في حيرتك هذه لست الوحيد، فالمبنى الاثري للدفوفة قد شغل بال علماء الآثار والتاريخ من لدن أن أكتشفه في بدايات القرن الماضي الأثاري جورج اندرو رايزنر، وحتى يومنا هذا حيث قدم المؤرخ السويسري شارلس بونيه أحدث نظرياته قبل اشهرعن ما هو هذا المبنى ؟. والدفوفة عبارة عن مبنى ضخم مرتفع بقمة مسطحة مع جانبين يكادان أن يكونا عموديين، والمبنى في حالة تآكل بفعل العوامل الجوية، لكنه لازال مرتفعا. و يبدو المبنى في هيئة منصة مستطيلة تقطع عتبات سلالم كتلتها الى الأعلى. قياسات المبنى تبلغ / 52.3 فى 26.7 متراً / في قاعدته. تمت تقوية جدرانه في مستويات مختلفة باستخدام عوارض خشبية وضعت أفقياً في البناء الآجري وهي سمة مميزة لمثل هذا النوع من المباني في المنطقة. والمميز لمبنى الديفوفة أن الصعود إلى أعلى المبنى يتم عبر سلم جانبي وليس عبر سلم يتوسط المبنى مثلما هو الحال في المعابد المصرية ، وهو ما يُستنتج منه دائما أنه يدل على ثقافة وهندسة معمارية نوبية خاصة ومتميزة . ويقود السلم إلى غرفة رئيسية بها أعمدة حجرية من المرمر الأبيض لربما تم جلبها من بعيد لأنه لا توجد مقالع حجر في المنطقة. ويُعتقد أن هذه الغرفة كانت عبارة عن مكان لتقديم القرابين مثل الكباش فقد تم العثور على بقاياها في ركن من أركانها. وتنتهي الغرفة بدهليز كانت توضع فيه الوسائل الضرورية لتنظيم القداس الديني . وهذه الدفوفة جزء من مدينة كرمة القديمة التي كانت عاصمة المملكة التي حملت نفس الإسم ما بين 2400 و1400 قبل الميلاد، كما يقول مدير متحف كرمة الموجود بجوارها و. وتمثل واحدة من أهم المواقع الأثرية التي شرع عالم الآثار السويسري شارل بوني في التنقيب بها منذ 43 سنة في منطقة كرمة والقرى المجاورة لها في البرقيق أو دلقو إلى الشمال من مدينة دنقلا. مدير المتحف بكرمة عبد الماجد محمد قال إن كلمة "ديفوفة" باللغة النوبية تعني المبنى المرتفع من صنع الإنسان، والذي كان يبلغ في أصله حوالي 25 مترا. وما تبقى من المربع الديني اليوم، يرتفع لحوالي 18 مترا. وقد تم ترميم سلم به لكي يسمح للزوار بالصعود الى أعلاه وإلقاء نظرة على كامل أقسام المدينة القديمة. وبما أن المبنى الديني كان مرتبطا بالقصر الملكي عبر ممر، استنتج الباحثون أن الملك، وإن لم يكن إلاها، فإنه كان يقوم بدور رجل الدين.ويعد المبنى من أحسن المباني الطينية القديمة التي بقيت في وضعية جيدة . وقد حيرت هذه الدفوفة رئيس البعثة السويسرية التي تتولى أعمال التنقيب الأثري في المنطقة، شارلس بونيه منذ حوالي 43 عاما،إذ قال أولاً عن مبنى الدفوفة الغربية التي تجاور المتحف إنها كانت صرحا ضخما لمراقبة السفن التجارية المزدهرة التي كانت تمخر عباب النيل ، وقال لاحقا إنها كانت محلا تجاريا لتخزين السلع النادرة، وقال عنها مؤخرا إنها كانت مركزا دينيا وتعبديا كبيرا" . ويراها عالم النوبيات الانتربولوجي الامريكي - وليامز ادم - صاحب كتاب النوبة رواق افريقيا، برجاً للمراقبة التجارية بحيث يتحكم من خلاله على حركة السفن الصاعدة - الهابطة في النيل من والي مصر تحت قيادة احد الامراء النوبيين . وسابقاً قال عنها الآثاري هنتزا في فترة الستينات ان مبنى الدفوفة كان يمثل مقرا لاحد الامراء او الحكام النوبيين وقد قدم الاخير دلائل على بينات اثرية ذالت اصل نوبي اخذت من نفس الموقع مفندا وناقدا لنظرية سابقه الأمريكي الأثاري جورج اندرو رايزنر الذي ذكر ان الدفوفة الغربية هي المقر الرئيسي الذي كان يدير منه حاكم مصر بالسودان اعماله الادارية ( اي ان المبني له وظيفة ادارية ). ويقول عبد الماجد " أيا ما كانت تمثله هذه الدفوفة سابقا فهي تأكيد على ثراء المنطقة الأثري والتاريخي . وتشير إلى وجود كنوز أثرية قد يؤدي التعرف عليها وعلى لغتها، إلى توفير حقائق تاريخية جديدة ومذهلة للحضارة السودانية النوبية العريقة ". كما قال شارلس بونيه للصحافة السويسرية، إن أهمية ما عثر عليه في مدينة كرمة " هو أن أغلب المدن القديمة عرفت بناء مدن حديثة فوق بقاياها القديمة، وبالتالي لم يعد ممكنا التعرف على أشكالها ومقوماتها وهندستها الأصلية " ، ولكن مدينة كرمة بقيت مغمورة تحت الرمال طوال هذه الفترة، ولم يكن بارزا منها سوى قمة ما يعرف اليوم بالديفوفة أو البناء العالي الذي يتعدى ارتفاعه 18 مترا . وأيا ما كانت تفسيرات وأراء العلماء والمؤرخين حول ماهية المبنى الأثري القديم للدفوفة بمنطقة كرمة، فأن سكان البلدة اليوم يحسون بالفخر والاعزاز تجاه حضارة أسلافهم القديمة ويتنزهون في رحاب معابدهم القديمة ويصعدون دائماً إلى قمة مبنى الدفوفة للترفيه يستشرفون ماضٍ تليدٍ مايزال ماثلاً.