لندن 19-2020م(الاقتصادية السعودية) - غالبا ما يصور الصراع الاستراتيجي بشقيه السياسي والاقتصادي في منطقة جنوب شرق آسيا باعتباره مجالا تنافسيا بين الولاياتالمتحدةوالصين. ويفتقد هذا المنظور الثنائي فهما حقيقيا وواقعيا للجوانب المتعددة للمنافسة المحتدمة في الإقليم. فالمنظور الثنائي للصراع يهمش إلى حد كبير الدور الياباني، ليس فقط باعتبار طوكيو لاعبا رئيسا في تحديد مسار التطورات السياسية في المنطقة، إنما الأكثر أهمية وخطورة أن اليابان في كثير من الأحيان تبرز باعتبارها اللاعب الاقتصادي الرئيس في الإقليم. ففي جنوب شرق آسيا ووفقا لآخر الأرقام المتعلقة بحجم الاستثمارات في مجال البنية التحتية التي أعلنت في منتصف العام الماضي، تظل اليابان القوة الرئيسة والمحرك الأكبر للاستثمار في المنطقة. الأرقام الدولية تشير إلى أن اليابان - على الرغم من المنافسة الشرسة بينها وبين اقتصادات منطقة جنوب شرق آسيا في مجال التجارة الدولية - تتجاوز استثماراتها في مشاريع البنية التحتية الاستثمارات الصينية بكثير. ووفقا للأرقام المتاحة من مؤسسة "فيتش سلوشن" تقدر قيمة مشاريع اليابان في المنطقة ب367 مليار دولار مقارنة ب255 مليار دولار للصين في منتصف العام الماضي. لكن القيمة الإجمالية من وجهة نظر الدكتور كوكسن رايت أستاذ منهاج الاستثمار في جامعة جلاكسو تعد معيارا من ضمن معاير متعددة لتقييم النهج الاستثماري للدولتين. ويقول ل"الاقتصادية"، "إن اليابان تتبنى نهجا استثماريا قائما على التركيز على عدد محدد من الاقتصادات، التي تعتقد أنها ستمثل القاطرة المستقبلية لاقتصاد منطقة جنوب شرق آسيا، الصين على العكس تتبنى نهجا استثماريا قائما على التوازن، لتكون على مسافة واحدة من جميع دول الإقليم، ومن ثم تتفادى وقوع أي حزازات اقتصادية أو سياسية أو أمنية مستقبلا". وبالفعل فإن استثمارات اليابان تنحاز بشكل كبير لمصلحة فيتنام، حيث تنفق 208 مليارات دولار من إجمالي استثماراتها في جنوب شرق آسيا على فيتنام، و74 مليار دولار على إندونيسيا و43 مليار دولار في الفلبين، و19 مليار دولار في سنغافورة، و15 مليار دولار في تايلاند. في المقابل تبرز إندونيسيا باعتبارها المستفيد الأول من الاستثمارات الصينية ب92 مليار دولار، تليها فيتنام ب69 مليار دولار، وماليزيا ب34 مليار دولار وسنغافورة ب28 مليار دولار. لكن وليامز بيست الباحث الاقتصادي في الشؤون الآسيوية يعتقد أن التباين الراهن في استثمارات اليابانوالصين في منطقة جنوب شرق آسيا، يعود إلى قرارات ذات طبيعة استراتيجية متعلقة بالتوجهات الخارجية لكلتا الدولتين. ويقول ل"الاقتصادية"، "إن الصين تبني سياستها الاستثمارية الخارجية على مشروعها الطموح المعروف باسم الحزام والطريق، وهو النسخة المعاصرة من طريق الحرير الذي كان يربط الصين بالشرق وتخوم أوروبا في العصور الوسطى، أما اليابان على العكس من ذلك لأسباب تاريخية من بينها الوجود الإمبراطوري السابق لليابان في منطقة جنوب شرق آسيا، وتركز استثماراتها الاقتصادية وتوجهها أكثر لمنطقة جنوب شرق آسيا. في الواقع فإن الاستثمارات اليابانية في منطقة جنوب شرق آسيا تحظى بسمعة وتأثير محلي أعلى بكثير مما يحظى به منافسوها الصينون. فالمشاريع اليابانية في الاقتصادات الناشئة في المنطقة، التي بدأت لأول مرة في أواخر سبعينيات القرن الماضي من خلال الشركات متعددة الجنسيات، قبل أن تدخل الحكومة اليابانية على الخط الاستثماري بكثافة في التسعينيات، تتسم بدرجة عالية من الجودة ومعايير السلامة. وتعلق راشيل كارليسلي الخبيرة الاستثمارية على المقارنة بين الاستثمارات اليابانيةوالصينية في جنوب شرق آسيا بالقول "بكين تفوقت على اليابان في تقديم الوعود، لكن طوكيو كانت أفضل بكثير في الوفاء بوعدها". وتضيف "هناك اتهامات رسمية - كما هي الحال في ماليزياوالفلبين - للاستثمارات الصينية بأنها تحصل على العقود بطرق مشكوك في نزاهتها وشرعيتها القانونية، فماليزيا حذرت من الاستعمار الصيني الجديد وأعادت التفاوض بقوة على العقود الصينية بسبب انتشار الفساد، وعلى الرغم من قرب الرئيس الفلبيني من الصين، فإن التعهدات الصينية بمليارات الدولارات من الاستثمارات الضخمة لم تتحقق، ما دفع وزير الخارجية الفلبيني إلى الشكوى في خطاب ألقاه في جمعية آسيا في نيويورك، بأن الاتفاقات الاستثمارية التي وقعت مع الصين لم تتحقق إذا ما قورنت بالاستثمارات اليابانية، وهذا ما يجعل منطقة جنوب شرق آسيا أكثر دفئا مع الاستثمارات اليابانية الضخمة"، من وجهة نظر الخبيرة الاستثمارية راشيل كارليسلي. لكن تلك الجاذبية للاستثمارات اليابانية تعود من وجهه نظر الدكتور كوكسن رايت أستاذ منهاج الاستثمار في جامعة جلاكسو إلى عوامل أخرى. ويقول ل"الاقتصادية"، "إن الاستثمارات الصينية تتصف أيضا بالجودة العالية والالتزام بمعايير السلامة، لكن الاستثمارات اليابانية ترمي إلى تحقيق تأثير مباشر وسريع في حياة الأسر والأفراد، ففي فيتنام على سبيل المثال أسهمت في خفض مستويات الفقر وعززت من كفاءة العمل ورفع الأجور، الاستثمارات الصينية ذات طبيعة شمولية وضخمة، وغالبا ما تطغى عليها مخاوف أوسع نطاقا، إذ ينظر اليها كمنصة لإظهار القوة الصينية في جميع أنحاء العالم". ويعد الدكتور كوكسن التمويل الياباني في المجال الاستثماري ينظر إليه باعتباره أكثر التزاما بالنظر إلى سجل طوكيو الطويل في هذا المجال مقارنة بالصين. كما أن المشاريع اليابانية أكثر مرونة لأن لديها عددا أكبر من الداعمين الماليين. لكن التوسع الاستثماري الياباني المستمر في جنوب شرق آسيا، يواجه بعدد من التحديات والمخاطر المتأصلة في بنية المنظومة الاقتصادية في الإقليم؛ فالفساد المتفشي وعدم اليقين التنظيمي وسوء إدارة الشركات العامة، وغياب الشفافية من أبرز التحديات التي تواجهها الاستثمارات اليابانية في المنطقة. وتسعى اليابان إلى مواجهة تلك التحديات من خلال قيام مجموعة ميتسوبيشي وتويوتا ونينتندو ومجموعة سوميتومو ميتسوي المالية بتعزيز التكامل الاستثماري في جنوب شرق آسيا، لإضفاء مزيد من الشفافية على سلاسل التوريد، وتعزيز الكفاءة الإدارية للشركات، ما يضعف الفساد. إلا أن الدكتورة تينا مدينا أستاذة الاقتصاد الآسيوي في جامعة أكسفورد ترى أن الأعوام المقبلة ستشهد احتداما في المنافسة الاستثمارية في جنوب شرق آسيا بين اليابانوالصين، خاصة مع قناعة المسؤولين الصينيين بأن اليابان تعمل كوكيل للمصالح الأمريكية في المنطقة، ومع رغبة الصين في تعزيز موقعها في السياسة الدولية والمشهد العالمي، فإنها مضطرة إلى ضخ مليارات الدولارات للاستثمار في تلك المنطقة من العالم. وتؤكد ل"الاقتصادية" أن منطقة جنوب شرق آسيا جذابة بشكل خاص لكلتا الدولتين بسبب سوقها الكبيرة التي يتجاوز عدد سكانها 600 مليون نسمة، والطبقة المتوسطة الصاعدة، والاقتصاد الرقمي المزدهر، والطفرة الحالية في مجال البنية التحتية، فاليابان تتصدر السباق حاليا ولديها 237 مشروعا مقابل 191 مشروعا مدعوما من الصين، لكن إذا أخذ في الحسبان أن الصين دخلت المجال الاستثماري في تلك المنطقة متأخرة عن اليابان، فإن التقدم الصيني مثير للإعجاب، بل إن بكين لديها مزايا تنافسية تجعلها تتفوق على اليابان في قطاعات محددة مستقبلا.